هناك رابط بين مشاركة السعودية برئاسة مؤتمر دولي في نيويورك لإحياء "حل الدولتين"، وقرارها إيفاد وفد استثماري كبير إلى سوريا قبل أيام، ألا وهو الدفع للعودة إلى السياسة وفتح أفق جديد لنسج خيوط الاستقرار والاعمار بعد معارك كثيرة ضربت الشرق الأوسط وبعض مكوناته، وعززت مواقف المتشددين والمراهنين على الفوضى في زاويا مختلفة.
في سوريا، حصلت جولة دموية من الاشتباكات في السويداء قتل فيها مئات الدروز والبدو وعناصر الأمن، وقيل إن السلطات "فقدت السيطرة على 60 ألف مقاتل". وفي وسط المعارك تدخلت إسرائيل وقصفت مواقع سيادية في العاصمة، وذكّرت دمشق بخطين أحمرين، يتعلقان بـ"حماية الدروز" و"الترتيبات الأمنية في الجنوب السوري".
ووسط تعقيدات المشهد السوري، الذي لا تنقصه مكونات التعقيد المتراكمة من جروح عميقة ومعارك طاحنة، بادرت السعودية وأرسلت وفدا من رجال الأعمال برئاسة وزير الاستثمار خالد الفالح. عشرات الصفقات أبرمت بقيمة ستة مليارات دولار توفر عشرات آلاف فرص العمل. وعلى أهمية هذه الأرقام والالتزامات الاستثمارية في بلد ينهض للتو من حرب أكلت البنية التحتية وهجّرت الخبرات وترهّل فيها النظام المصرفي، فإن الرسالة السياسية أكبر وأعمق من ذلك، تتعلق بالدعم السعودي للاستقرار في سوريا ومساندة النظام الجديد في الانتقال إلى بناء الدولة والإعمار.
تتقاطع الرهانات على بناء "الدولة السورية" مع أهداف المؤتمر الدولي الذي ترعاه السعودية وفرنسا لدعم مبادرة "حل الدولتين" والاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود 1967
لا شك أن سقوط نظام الأسد وجّه أكبر خسارة استراتيجية لإيران منذ "الثورة" في 1979، تعززت بانتكاسات "حزب الله" في لبنان و"حماس" في غزة. ولا شك أن الفوضى حليفة النفوذ الإيراني وتمدد "داعش" وشبكات المخدرات والسلاح و"الكبتاغون"، وأن الاستقرار والازدهار وتعزيز الحدود السيادية والسلطة المركزية وفتح الآفاق السياسية، هي العناصر الرئيسة لتثبيت خسائر طهران وقطع أسباب انبعاث المتطرفين والتجار وعناصر الميليشيات العابرين للحدود.
وما عزز اتجاه البوصلة السياسية السورية، استضافة باريس جولتي مفاوضات مهمتين: الأولى، سورية-إسرائيلية برعاية أميركية تتعلق بمستقبل السويداء وترتيبات الأمن في الجنوب السوري. والثانية، سورية-فرنسية–أميركية تناولت تسريع الانتقال السياسي وأمورا داخلية والعلاقة المستقبلية بين دمشق و"قوات سوريا الديمقراطية".
تتقاطع الرهانات على بناء "الدولة السورية" مع أهداف المؤتمر الدولي الذي ترعاه السعودية وفرنسا لدعم مبادرة "حل الدولتين" والاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود 1967، بعد قرار الرئيس إيمانويل ماكرون نية فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر/أيلول المقبل لتكون أول دولة من "السبع الكبار" تقوم بهذه الخطوة الجريئة. وعلى هامش مؤتمر الجمعية العامة يومي الاثنين والثلاثاء، ستنضم دول كثيرة إلى "قائمة الاعتراف" بالدولة الفلسطينية المعلنة ذاتيا 1988، التي تشمل 142 دولة من أصل الدول الـ193 الأعضاء في الأمم المتحدة.
بعد الحرب المباشرة بين إسرائيل وإيران، وحرب لبنان، وسقوط نظام الأسد، واستمرار حرب غزة، من المهم جدا إطلاق الأفق السياسي وفتح الأبواب في فلسطين وسوريا ولبنان
لم يكن أمر وجود دولة فلسطينية ملحاً ومهماً أكثر مما هو الحال الآن، ذلك أن قطاع غزة دمر وأهله نازحون ومحرومون من المساعدات في حرب مجنونة مستمرة منذ هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والاستيطان الإسرائيلي يتصاعد في الضفة الغربية وخطط إسرائيلية لضمها، للقضاء على أي احتمال جغرافي لقيام الدولة الفلسطينية.
ورغم اعتبار تل أبيب الاعتراف بالدولة الفلسطينية "مكافأة للإرهاب"، وقول الرئيس الأميركي دونالد ترمب إن الاعتراف "لا وزن له"، فمن الوهم الاعتقاد بإمكانية التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم في غزة وإطلاق سراح الرهائن لدى "حماس"، وأن إدانة الحركة والدعوة إلى نزع سلاحها، سيؤديان إلى عزلها، ما لم يكن هناك أفق سياسي، وهذا بالضبط ما تقوم به مبادرة "حل الدولتين".
بعد الحرب المباشرة بين إسرائيل وإيران، وحرب لبنان، وسقوط نظام الأسد، واستمرار حرب غزة، من المهم جدا إطلاق الأفق السياسي وفتح الأبواب في فلسطين وسوريا ولبنان، فهو يفسح المجال لإعمار دول عدة في الشرق الأوسط ويعيد النقاش إلى البحث عن خيوط الاستقرار ونسج مسار السلام وعقد اتفاقات جديدة.