مؤتمر نيويورك... "حل الدولتين" باب السلام

تستعد السعودية وفرنسا لرئاسة المؤتمر الدولي في نيويورك يومي 28 و29 يوليو

أ ف ب
أ ف ب
العلم الفلسطيني مرفوعا للمرة الاولى امام مقر منظمة "اليونيسكو" في باريس في 13 ديسمبر 2013 وبدا برج ايفيل في خلفية الصورة

مؤتمر نيويورك... "حل الدولتين" باب السلام

تستعد المملكة العربية السعودية وفرنسا لرئاسة المؤتمر الدولي المعني بالتسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتنفيذ "حل الدولتَيْن" في 28 و29 يوليو/تموز، بعدما كان مقرراً أن تستضيفه الأمم المتحدة في يونيو/حزيران الماضي بنيويورك، لكنه أُرجئ في الأسابيع الأخيرة بسبب الحرب بين إسرائيل وإيران.

وفي هذا الاطار قال وزير الخارجية السعودي الامير فيصل بن فرحان ان الرياض "تبذل كافة الجهود لإرساء السلام العادل في منطقة الشرق الأوسط، وتسعى دائمًا من منطلق مبادئها الراسخة إلى نشر السلم والأمن الدوليين من خلال المساعي الحميدة والجهود المبذولة لإنهاء معاناة الإنسان الفلسطيني، وإيقاف دائرة العنف المستمرة والصراع الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي طال أمده، وراح ضحيته عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين الأبرياء، وأَجَّج الكراهية بين شعوب المنطقة والعالم". وأضاف الامير فيصل بن فرحان: "من هذا المنطلق جاءت رئاسة المملكة بالشراكة مع فرنسا للمؤتمر الدولي الرفيع المستوى لتسوية القضية الفلسطينية بالحلول السلمية وتنفيذ حل الدولتين على المستوى الوزاري، الذي سيُقام هذا الأسبوع بمقر الأمم المتحدة في مدينة نيويورك بمشاركة دولية واسعة، متطلعين إلى الدفع باتجاه تنفيذ قرارات الشرعية الدولية التي تقضي بإقامة دولتين ينعم فيها الفلسطينيون بدولتهم المستقلة، ويحقق للمنطقة السلام والاستقرار، ويدفع بها للمضي قدما تجاه التنمية والازدهار".

كما سبقت المؤتمر خطوة فرنسية بارزة بإعلان الرئيس إيمانويل ماكرون عزمه الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر/أيلول المقبل أثناء مشاركته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ما يضفي على مؤتمر نيويورك بعدا جديدا ووزنا دوليا.

ويهدف المؤتمر إلى دفع جهود التسوية السلمية من خلال تنفيذ "حل الدولتين"، وهو ما تصفه مصادر سعودية متابعة بأنه ليس مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل حلقة في سلسلة طويلة من المبادرات والجهود التي جعلت من القضية الفلسطينية لدى الرياض أساساً لأي سلام أو استقرار أو تطبيع محتمل في منطقة الشرق الأوسط. كما يهدف أيضا إلى تحقيق الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في خطوة تعكس بحجمها المنتظر تغيراً في المزاج الدولي، حيث وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية بأنه "ضرورة أخلاقية وسياسية"، وذلك خلال حديث عن تفاقم الأزمة الإنسانية في قطاع غزة.

لكن المؤتمر لا يدعو إلى إقامة دولة فلسطينية فقط، بل وفي سبيل تحقيق هدفه سيناقش المجتمعون سبل تعزيز الحوكمة وإصلاح السلطة لضمان قيام دولة فلسطينية فاعلة، كذلك نزع سلاح حركة "حماس" والفصائل الأخرى وإعادة إعمار قطاع غزة، كجزء من الجهود الرامية لتحقيق الأمن والاستقرار، وضمان بقاء الفلسطينيين على أرضهم. ورغم معارضة إسرائيل للمؤتمر، فإن التحضيرات مستمرة، مؤكدة على أهميته كمسار رسمي وشامل.

المؤتمر الذي دعت فرنسا إلى المشاركة فيه سيكون على مستوى وزراء الخارجية والمسؤولين المعنيين، وهو حلقة أولى في التحضير إلى جلسة أكبر في الجمعية العامة للأمم المتحدة تدعو إليها فرنسا في شهر سبتمبر المقبل بحضور رؤساء دول.

كان الملك فهد بن العزيز يؤمن بأنه "ما دامت قضية فلسطين لم تحل فلن تشهد المنطقة الاستقرار وستكون هناك حروب، والحروب ستقود لحروب أخرى"

من الخمسينات إلى مبادرات السلام

لم يكن الموقف السعودي الداعم للقضية الفلسطينية والداعي إلى "مؤتمر نيويورك للسلام" وليد رد فعل على الحرب الأخيرة، بل هو أبرز ثوابت السياسة الخارجية منذ عقود. بدأت بوضوح في خمسينات القرن الماضي، عندما وقفت المملكة إلى جانب الحق الفلسطيني، وعبر مؤسساتها الرسمية مثل وزارة الخارجية وشددت على إقامة الدولة الفلسطينية على أساس قرار الأمم المتحدة، ورفضت استغلال القضية الفلسطينية في الصراعات الإقليمية والدولية، ودفعت بها إلى مراكز القرار الدولي، وطوال عقود دعمت قيام مؤسسات تدير العمل الفلسطيني بدلا من التشرذم والوقوع تحت سيطرة القوى الإقليمية والدولية.
وفي عام 1974 انعقدت القمة العربية السابعة في الرباط بالمغرب بدعم من الرياض، وكان من أهم قرارات هذه القمة الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، ما شكّل دفعة سياسية ودبلوماسية للمنظمة ولشخص رئيسها ياسر عرفات "أبو عمار"، ممهدة الطريق أمام دعوته لإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

أ ف ب
وزراء مجموعة الاتصال العربية اثناء زيارتها الى مدريد في 13 سبتمبر

ويظهر الدور السعودي المحوري الداعم للفلسطينيين في منظمة التعاون الإسلامي في فبراير/شباط ذلك العام أيضاً مع انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي الثاني في لاهور بباكستان، الذي شدد على أن "منظمة التحرير" هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
بعدها بنحو سبعة أعوام وعشية الاجتياح الإسرائيلي للبنان عقدت قمة عربية في "فاس" عام 1981 تقدمت فيها الرياض بمبادرة سلام شاملة، ولكن ما يعرف بـدول "محور الرفض" في تلك المرحلة مثل سوريا والعراق وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي رفضت الخطة وحاربتها. وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وخروج منظمة التحرير من بيروت عقدت "قمة فاس" الثانية وأعاد الملك فهد بن عبد العزيز طرح المبادرة والتي ارتكزت على مبادئ أساسية شكلت فيما بعد نواة "مبادرة السلام العربية" التي أقرت في قمة بيروت عام 2002، ولا تزال المرجع العربي الأهم للمطالبة بحل الدولتين. تضمنت مبادئ المبادرة السعودية: انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وإزالة المستوطنات الإسرائيلية، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وتأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتعويض من لا يرغب في العودة.
وكما يوثق الوزير السعودي الراحل غازي القصيبي، كان الملك فهد يؤمن بأنه "ما دامت قضية فلسطين لم تحل فلن تشهد المنطقة الاستقرار وستكون هناك حروب، والحروب ستقود لحروب أخرى". هذا الإيمان بضرورة إيجاد حل للقضية دفع السعودية للمشاركة بفعالية أيضاً في محطات مفصلية أخرى على شاكلة مؤتمر "مدريد للسلام" عام 1991، سعياً لإيجاد حل عادل ودائم.

 

الدور المعاصر

خلال زيارته الأخيرة للرياض تحدث الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن أمله في تحقيق السلام، قائلاً إنه "يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين العمل معاً للتوصل إلى اتفاق يتيح لكلا الشعبين العيش والأمن والازدهار".
هذا الموقف جاء بالتزامن مع تشديد ولي العهد السعودي رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، على ربط استقرار المنطقة بالقضية الفلسطينية، مؤكداً أن الاستقرار لن يكتمل من دون حل عادل، والتمسك بمبادرة السلام العربية وقرارات الشرعية الدولية، بما يضمن قيام دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

قضية "التطبيع" مسألة عالقة في ظل عدم التقدم المطلوب لوقف الحروب ونقل المنطقة من الصراع إلى تهدئة تؤدي إلى سلام وحلول أعلى من المطروح سابقاً

ويؤكد المستشار السابق بوزارة الخارجية السعودية سالم اليامي، على استمرارية دور المملكة وتجدده في مواجهة التحديات الراهنة. فمنذ "قمة الرياض" في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، والتي كانت أول قمة عربية بعد الحرب في قطاع غزة، تشكلت "اللجنة العربية الإسلامية" بهدف بحث حل للمسألة الفلسطينية مع المجتمع الدولي. هذه اللجنة، كما يوضح اليامي، "ذهبت إلى القوى الكبرى من دول أوروبية إلى روسيا والولايات المتحدة والصين والتجمعات الاقتصادية والسياسية حول العالم للضغط باتجاه إيجاد حل على المدى الطويل ينهي الصراع".

 أ ف ب
الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والرئيس الفلسطيني محمود عباس اثناء لقائهما على هامش الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك في 25 سبتمبر

ويضيف اليامي: "الحق يقال إنه خلال الأشهر الأخيرة أنتجت هذه اللجنة تراكماً كمياً ونوعياً دفع دولاً عدة في أوروبا إلى تغيير موقفها من المسألة الفلسطينية بعد حرب غزة التي أدت إلى تشوهات عميقة بالمجتمع الفلسطيني". ويشير إلى أن هدف السعودية من خلال هذه التحركات هو "خلق تراكم دولي يؤدي لإعلان دولة فلسطينية، عبر الدفع للانتقال من اعتراف نظري وتطويره إلى اعتراف عملي يؤدي لخلق دولة فلسطينية تحت راية الأمم المتحدة". ويرى اليامي أنه "مثلما أنتج قرار التقسيم الأممي عام 1948 دولة إسرائيل، يمكن الآن لهذا المؤتمر (نيويورك 2025) أن يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية، عبر مؤسسات الأمم المتحدة أيضاً".
وفي تقييمه للمرحلة الحالية، يعتبر اليامي أن "إسرائيل حالياً أمام ضرورة موضوعية وهي الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فهي برفضها لإقامتها ستستعيد مرحلة ماضية بمآسيها". ويحذر من أن "منع قيام دولة سيؤدي إلى تمديد الصراع بأشكاله المختلفة"، خاصة وأن "حرب غزة أدت إلى احتقان يمكن أن يؤدي إلى انفجار كبير".

 

دور جديد أم تأكيد على الثوابت

قضية "التطبيع" هي أيضاً مسألة عالقة في ظل عدم التقدم المطلوب لوقف الحروب ونقل المنطقة من الصراع إلى تهدئة تؤدي إلى سلام وحلول أعلى من المطروح سابقاً، ومع بداية العام شددت الرياض على موقفها الواضح حيث أعلن وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان أن هذه المسألة "غير واردة حتى التوصل إلى حل بشأن إقامة الدولة الفلسطينية"، مضيفاً أن "أمن كل المنطقة معرض للخطر إذا لم نعالج حقوق الفلسطينيين، وإذا لم نجد طريقاً إلى مسار يقودنا إلى دولة فلسطينية".
يرى اليامي أن "السعودية لا تبحث عن دور جديد لها في المنطقة، فهي تقليدياً وموضوعياً موجودة منذ عقود في كافة الملفات وخصوصاً الملف الفلسطيني، وعملت لمساعدة منظومة الدول العربية كافة في أحلك الظروف للخروج من الأزمات الداخلية والخارجية، وهي اليوم تقوم بدورها نفسه بمساره الواضح".
إن طموح المملكة، كما يتضح من سياساتها ومبادراتها، هو أن "تصبح المنطقة واحة أمن وسلام وهدفها الاستقرار وتقوية العلاقات الإقليمية". وهذا الهدف يمر حتماً عبر بوابة الحل العادل والشامل، الذي يضمن للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة.

من المتوقع أن يُصدر "مؤتمر نيويورك" وثيقة ختامية تتضمن خطة عمل واضحة لتنفيذ "حل الدولتين"، مع تحديد جداول زمنية وآليات تنفيذية

الطريق إلى سلام عادل

في ظل التصعيد المستمر في قطاع غزة والضفة الغربية، وغياب أفق سياسي حقيقي يدفع إلى تسوية متقدمة، يأتي "مؤتمر نيويورك" ليطرح أهمية تحويل التحرك السعودي والدولي إلى خطوة تنفيذية حاسمة تُفضي إلى قيام دولة فلسطينية، وتحول مسألة "حل الدولتين" من عبء سياسي أمني واقتصادي وإنساني إلى خطوات تاريخية. ويمثل المؤتمر حلقة جديدة في هذا الالتزام، ومحاولة لتحويل الإجماع الأخلاقي الدولي إلى واقع سياسي ملموس، يعيد للفلسطينيين حقهم، ويمنح المنطقة أملاً جديداً بالاستقرار.
من المتوقع أن يُصدر "مؤتمر نيويورك" وثيقة ختامية تتضمن خطة عمل واضحة لتنفيذ "حل الدولتين"، مع تحديد جداول زمنية وآليات تنفيذية. كما يُتوقع أن يُعلن عن تشكيل مجموعات عمل لمتابعة تنفيذ التوصيات الصادرة عن المؤتمر.
في خضم التحولات الإقليمية والدولية، يبقى الموقف السعودي ثابتاً وواضحاً: القضية الفلسطينية هي قضية رئيسة، وأي حديث عن سلام أو تطبيع أو استقرار إقليمي شامل يجب أن يمر عبر الاعتراف بالحقوق الفلسطينية كاملة، وفي مقدمتها قيام الدولة الفلسطينية المستقلة. مؤتمر نيويورك القادم هو خطوة أخرى على هذا الطريق الطويل، تؤكد فيه الرياض مجدداً أن الدفاع عن فلسطين ليس مجرد سياسة ومواقف، بل هو التزام تاريخي ومبدئي لا حياد عنه.

font change

مقالات ذات صلة