الربيع كموقف وجودي في أحدث أعمال الفنانة اللبنانية هدى بعلبكي

استعادة اللون في مواجهة الحروب والأزمات

الربيع كموقف وجودي في أحدث أعمال الفنانة اللبنانية هدى بعلبكي

تحتضن صالة "كاووس" في شارع سرسق البيروتي العريق مجموعة كبيرة من أعمال فنانين لبنانيين وعالميين تنوعت ما بين لوحات تشكيلية ونحتية منجزة بمواد مختلفة كالحديد والسيراميك والبرونز والحجر. من بين المشاركين في هذا المعرض، التشكيلية اللبنانية هدى بعلبكي، التي تقدم لوحات يمكن اعتبارها مثالا على حاجة الفنان وقدرته على ابتكار فصول جديدة من عوالمه الفنية في خضم اختباره أزمات عدة، دفعة واحدة وفي فترة زمنية قصيرة.

دهشة الفنان أمام ذاته

لا بد أن أعمال هدى بعلبكي في هذا المعرض وضعتها في حال دهشة أمام ذاتها. فهدى التي كانت منذ بضعة أشهر قليلة ومن خلال دردشة وجيزة معها تنعى قدرتها على الاستمرار في ابتكار نص فني يزخر بألوان الطبيعة، قدمت في المعرض، وخلافا للتوقعات، لوحات نابضة بالحياة. لوحات تمزج التشكيلي مع التجريدي في احتفال لونيَ حكائي تزدحم فيه حالات مختلفة من الخيال أوجدتها لحظات شعورية، متفجرة تارة ورقيقة تارة أخرى.

وجدت لوحات بعلبكي بما تحمله من عبق ربيعي فواح، مكانها المناسب في صالة اختارت "حلول الربيع" عنوانا للمعرض. وقد اعتبر صاحب الصالة شربل لحود أن العنوان "يعكس إيجابية لا بد من تبنيها على الرغم من كل الصعوبات وفي بداية عطلة صيفية قد تبشر بالطمأنينة". أما قصة هدى بعلبكي مع هذه الإيجابية التي تحدث عنها صاحب المعرض، فلها نكهة خاصة جدا، لأنها تحمل تباشير شبه عجائبية لخروج فنانة من مرحلة مظلمة أطبقت بأهوالها على حياتها. خرجت أعمال الفنانة الجديدة إلى العلن حمّالة لظلال ذات أبعاد ملتبسة تارة ومكتنزة لأطياف تذكر بعطر الورد والفرح الخجول تارة أخرى. مما اختبرته الفنانة من أحزان عميقة، منذ فترة وجيزة، أهمها وفاة والدتها التي كانت تعتبرها الابنة لونا عذبا من ألوان لوحاتها.

لوحات تمزج التشكيلي مع التجريدي في احتفال لونيَ حكائي تزدحم فيه حالات مختلفة من الخيال أوجدتها لحظات شعورية متفجرة تارة ورقيقة تارة أخرى

وفي خضم فصول هذا المصاب، تدمر المرسم والبيت في قريتها الجنوبية خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، كما بات بيتها الثاني في بيروت غير قابل للسكن.

مفترق طرق

تتحدث بعلبكي عما يمكن أن نسميه مفترق طرق وجدت نفسها على مشارفه، جعلنا نتساءل معها عن كيفية القدرة على الاستمرار في العمل الفني دون أن يكون لكل ما حدث أثر تدميري في أسلوب نظرتها ومفهومها للفن الذي قدمته من قبل، علما أنها ليست المرة الأولى التي تتأثر بها الفنانة  مباشرة بالحروب في لبنان، ولا التي يُصاب فيها مرسمها، ولكن على الأرجح أن أهوال الفترة الأخيرة كانت مجتمعة النقطة التي أفاضت الماء خارج كأس الحياة الشخصية.

باقة للفنانة هدى بعلبكي

حول هذا الموقف الشخصي المستجد تقول بعلبكي إن "الحرب الأخيرة غيرت كثيرا من نظرتي إلى الحياة وإلى كل شيء. صدمت من هول استخدام القوة المفرطة للتدمير وصعقت أمام غياب الرحمة بشكل فاضح وانعدام الضمير الإنساني على المستوى العالمي وليس المحلي فقط. بت مشغولة ذهنيا وشعوريا بما يمكن أن يعنيه ذلك كله على المستوين العام والشخصي على السواء. وإن كنت استطعت إلى اليوم تلقف مآسي الحروب السابقة والأزمات المختلفة التي عبرت بها البلاد بقوة التفاتي إلى الرسم وقدرتي على تحويل الحزن إلى فرح، لا سيما أن كل ما حدث أخيرا بات يفوق قدرتي على الاحتمال".

تجدر الإشارة إلى أنه يعرف عن لوحات هدى بعلبكي أنها مشغولة دوما باللون وبتعدد أطيافه حتى أنها سبق أن ذكرت بأنها تحب أن تسمى بـ"الملونة". أمام هذا العشق اللامحدود للون الذي سكنها طويلا، حد إيكاله مهمة التعبير شبه المطلق عن شتى أنواع المشاعر والأفكار، وجدت الفنانة نفسها أخيرا حائرة أمام ذاتها وأمام لوحتها. وأفصحت لنا في كلمات بدأت متهدجة في البداية لتتدفق لاحقا في سياق الحديث: "شعرت بأن الحياة انتهت. حل الدمار بكل أشكاله. حلت ألوان اللهيب والرماد. شعرت بأن في داخلي بركانا من الصعب التحكم بانفجاراته أو حتى غليانه البطيء والمتسارع في أحيان أخرى.  بتُ خارج بيتي ومرسمي في تلك الفترة ووجدت نفسي أختنق بالرغبة في الرسم في مكان غير مجهز للرسم على المستوى العملي والنفسي".

اللوحة الرئيسة

"مع مرور الأيام بدأت أشعر أنني قنبلة موقوتة في حقل ألغام لا أعرف خريطته وصرت كلما نظرت إلى لوحاتي السابقة وجدت الألوان المشبعة بالتعبير فيها ألوان سخيفة وساذجة حتى صرت أسأل (أي أسأل لوحاتي) مستغربة تارة وساخرة تارة أخرى هذه الأسئلة: ما هذا الفرح؟ من أين جئت به؟ كيف استطعت أن تكوني على هذين الانفتاح والطمأنينة؟ في تلك الفترة غير البعيدة كنت مقتنعة بأنني لن أعود إلى استخدام الألوان الفرحة من جديد. فقد أحسست بأنني انكسرت على نحو يتعذر إصلاحه لا بالجهد ولا بمرور الزمن".

صُدمت من هول استخدام القوة المفرطة للتدمير وصعقت أمام غياب الرحمة بشكل فاضح وانعدام الضمير الإنساني على المستوى العالمي

كل من يعرف هدى بعلبكي سيدرك تماما مدى خطورة هذا الكلام على منجزها الفني بشكل عام. فمن دون الألوان تلك، كيف سينهض نصها الفني من ركامه؟ لم يكن لنا حاجة إلى سبر أغوار هذا الانكسار الذي لم نفهمه فقط من كلماتها بل شعرنا به في نبرة صوتها، إذ استطردت قائلة: "شعرت بالضيق الشديد لأنني لا أستطيع ولن أستطيع تغيير واقع الحال ولا أن أرفع الظلم. وتساءلت من جديد حول دور الفن في الحروب والأزمات الإنسانية وأين أنا من كل هذا".

دق باب اللون

قبل بضعة أشهر من المشاركة  في معرض صالة "كاووس" الجماعي، كانت الفنانة على شفير الهاوية وليس فقط على مفترق طرق.

تفصيل من اللوحة الرئيسة

كانت مدركة تماما تبعات المأزق الوجودي الذي وصلت اليه: التوقف عن الرسم أو اختناق الألوان في لوحاتها، فقد أشارت الى أنها منذ بضعة أشهر لم تكن تعرف إن كانت ستخرج من هذه الدوامة، لكنها تصرفت بتلقائية وتحاملت على نفسها وخرجت وابتاعت أغراض الرسم وصارت تتنقل بها من بيت إلى بيت لأنها لم تكن قادرة حينها على العودة لا إلى بيتها ولا إلى مرسمها المدمرين. وحين سألناها عن مرسمها وإمكان عودتها إليه، حتى وإن كانت لم تزل مشوشة الأفكار والمشاعر، أجابت: "أدركت أن اللحظة التي سأعود فيها إلى مرسمي ستكون من أصعب لحظات حياتي. سيكون فيها الكثير من القهر والكثير من البكاء. سوف أعود إلى محترفي الذي كنت في قلبه أصنع الجمال والفرح والأمل لأجده رماديا ومدمرا. إنه المكان الذي توفيت فيه والدتي وسيظل دوما محملا هذه الذكرى الأليمة. لطالما كنت أبعد الحزن عن قلبي كلما شعرت باقترابه، حتى إنني لم أكن أمتلك أية ملابس سوداء. كان علي الذهاب الى السوق لشراء ثياب سوداء. كل هذا الألم هبط علي مرة واحدة. صرت أستخف بكل من يرسم الأزهار والأشجار. وصار الحزن جزءا مني وصرت أرى أن الحلم الملون الذي كنت أرسمه غير قادر على مؤاساة الناس. أوصلني هذا التفكير إلى قرار ضمني وهو التوقف عن رسم الأمل والالتفات إلى رسم الواقع الداكن".

صرت أستخف بكل من يرسم الأزهار والأشجار. وصار الحزن جزءا مني وصرت أرى أن الحلم الملون الذي كنت أرسمه غير قادر على مؤاساة الناس

ولكن كيف؟ فالفنانة لم ترسم يوما إلا باللون وبالفرح وبالأمل وبالحلم، حتى وهي في عز خيباتها الخاصة. ربما تكون اللوحات التي شاركت بها في معرض "كاووس" هي الإجابة الشافية عن هذا السؤال الذي أقلق الفنانة شهورا عدة وجعلنا نحن في حذر وكدر شديدين أمام ما قالته عن مصير اللون وموته الوشيك والمحتوم في لوحاتها.

اللون الغامز من قناة الرماد

كيف يصبح رسم الواقع المظلم بوصلة فنانة مثل هدى بعلبكي؟ وكيف لا يحل الربيع في لوحاتها رغم الأهوال السابقة وتلك التي تأبى ألا تغادر إلا لتهدد بالعودة؟ الإجابة تكمن في اللوحات التي أنجزتها وقدمتها ضمن المعرض الجماعي. نذكر على سبيل المثل اللوحة الكبيرة الحجم التي عنونتها بـ"أنا ونفسي والمدينة". ثلاثية لأحوال واحدة ومتداخلة يظهر فيها وجه امراة متداخلا مع المشهد العام. مشهد تحضر فيه المنازل والنوافذ والأزهار وطائر أزرق يشبه طائرة ويحضر عصفور آخر غير محدد الملامح يلوي عنقه على إحدى نوافذ المدينة. في هذه اللوحة يحضر الأسود ولكن "مقموعا"، إذا صح التعبير، تهمشه فوضى المدينة وتناثر الهواء المرئي في أرجائها وكأنه شظايا زجاج.

لا تُفشي ملامح المرأة البادية في اللوحة بأسرار روحها ولكنها ملامح تؤكد هيبة وجودها الطاغي، وأن الكلمة الفصل لها وحدها.

 تبرعم في شعر المرأة الأسود، الذي اتخذ شكل جبل عظيم، أزهار بدت أقرب إلى أثار رصاص متفجر محمل أكثر من معنى. وإن حاول الناظر إلى اللوحة أن يركز على مقاطع منفصلة منها، فسيعثر على حيز واضح بين السلم والحرب، وبين الحلم والكابوس، بينما ما من مهدئ لروعة هذا التجاور بين التناقضات إلا وجه سيدة اللوحة بملامحها الغامضة والهادئة.

أما في اللوحات الأخرى التي تدور في فلك هذه اللوحة، التي نحب أن نعتبرها اللوحة المحورية، فنعثر على مشاهد طبيعية ترصعها البيوت ويعود إليها اللون متشظيا في انسيابات عصبية تقر ضمنا ونيابة عن هدى بعلبكي أن اللون كان وسيكون دوما سيدا في لوحاتها. ولعل هذا ما أكدته الفنانة حينما نشرت على حسابها الخاص على "فيسبوك"، لوحة من أعمالها الجديدة والعابقة بالخضرة، لترفقها  بهذه الكلمات "ولكن... لقد أعدت بناءها بطريقتي".

font change