الذكاء الاصطناعي... تعاون أم انقسام؟

سباق أميركي – صيني – أوروبي – خليجي على الذكاء الاصطناعي

Grace Russell
Grace Russell

الذكاء الاصطناعي... تعاون أم انقسام؟

يشهد العالم اليوم اعتمادا متزايدا وتداخلا غير مسبوق بين الجهود الدولية لتطوير الذكاء الاصطناعي. تقود الولايات المتحدة المشهد عبر شركات كبرى مثل "أوبن إيه آي"، و"غوغل"، و"مايكروسوفت"، و"ميتا"، و"إنفيديا"، مدعومة بجامعات بحثية عريقة مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة ستانفورد.

فيما تدفع الصين من جانبها بشركاتها "بايدو"، و"علي بابا"، و"تينسنت"، و"هواوي" ضمن استراتيجية حكومية مركزية تستهدف السيطرة على البنية التحتية والبيانات، وتركز أوروبا في المقابل على صياغة إطار تنظيمي عالمي مثل قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي، محاولة بذلك الموازنة بين الابتكار والحماية. وتدخل دول الخليج مثل السعودية والإمارات السباق أيضا باستثمارات مليارية في مراكز بيانات ومختبرات بحثية لجذب العقول من الخارج، فيما تسعى الهند إلى إثبات نفسها كمركز صاعد للبرمجيات والقدرات الحسابية.

تتقاطع الجهود العالمية في الذكاء الاصطناعي بين منافسة حادة أحيانا وتعاون مفروض أحيانا أخرى. وتوضح أزمة "هواوي" وشبكات الجيل الخامس في أوروبا كيف تتحول التكنولوجيا إلى ملف جيوسياسي بامتياز. تبرز أوكرانيا بدورها كأول دولة توظف أسراب الطائرات المسيرة المدعومة بالذكاء الاصطناعي بشكل عملياتي في ساحة المعركة، لتكشف أن هذه التكنولوجيا ليست مجرد أدوات مدنية، بل سلاح قادر على تغيير موازين القوة.

تشير التقديرات إلى أن عدد أجهزة إنترنت الأشياء المتصلة قد يبلغ نحو 18 مليار جهاز بنهاية عام 2025، ثم يقفز إلى أكثر من 39 مليار جهاز بحلول عام 2033

تتصاعد المنافسة أيضا على الكفاءات البشرية جنبا إلى جنب مع التنافس على الشرائح والبنية التحتية. وتجذب الولايات المتحدة الباحثين والمهندسين من مختلف أنحاء العالم بفضل بيئة أكاديمية وتمويلات ضخمة، بينما تحاول الصين إعادة استقطاب مواطنيها من الخارج عبر برامج مثل برنامج الألف موهبة، وتضخ السعودية والإمارات استثمارات كبيرة لبناء مختبرات ومراكز أبحاث كي تصبح محطة جذب جديدة للعقول المهاجرة.

يطرح هذا المشهد سؤالا أساسيا: هل يقود انتشار الذكاء الاصطناعي إلى عالم أكثر تعاونا بحكم ترابط المنظومة التقنية عالميا، أم يتجه العالم نحو انقسام أمني وجيوسياسي عميق يعيد تشكيل مستقبل التجارة والاقتصاد العالمي؟

الذكاء الاصطناعي كركيزة للحياة الحديثة

يتغلغل الذكاء الاصطناعي اليوم في تفاصيل حياتنا اليومية على نحو لم يعد قابلا للتجاهل. تعمل أجهزتنا الشخصية وخدماتنا المعتادة بخوارزميات ذكية دون أن نشعر، فالهواتف تقترح الصور والكلمات بشكل آلي، والثلاجات الذكية تتأقلم مع عاداتنا الغذائية، فيما تقترب السيارات الحديثة يوما بعد يوم من التحول إلى مركبات ذاتية القيادة بالكامل.

يتسع هذا التغلغل بوتيرة متسارعة بفضل التعاون بين الشركات والحكومات عبر سلاسل إمداد معقدة وعابرة للحدود. تكشف دراسة حديثة لمؤسسة "غالوب"، بالتعاون مع منظمة "تيليسكوب" التي تعنى  بالتقدم التكنولوجي المسؤول، أن نحو 64 في المئة من الأميركيين يستخدمون منتجات تعتمد على الذكاء الاصطناعي من دون إدراك مسبق منهم.

يتجاوز الأمر الأجهزة الفردية ليصل إلى البنية التحتية العالمية. تشير التقديرات إلى أن عدد أجهزة إنترنت الأشياء المتصلة قد يبلغ نحو 18 مليار جهاز بنهاية عام 2025، ثم يقفز إلى أكثر من 39 مليار جهاز بحلول عام 2033. هذا الانفجار العددي يعكس اعتمادا متزايدا على نظم ذكية مترابطة ويؤكد أن العالم يتجه إلى شبكة واسعة يصعب فصلها عن حياتنا اليومية.

تجسد صناعة السيارات ذاتية القيادة صورة واضحة لهذا الترابط. تحتاج المركبة الواحدة إلى شرائح معالجة أميركية، وكاميرات ومستشعرات يابانية وكورية، وأنظمة برمجية أوروبية، في حين تُجمع في مصانع الصين أو ألمانيا. هنا يصبح المنتج النهائي ثمرة تعاون اقتصادي عالمي، لكنه في الوقت نفسه يحمل مخاطر أمنية جسيمة، إذ يمكن لأي مكون أن يتحول إلى ثغرة أو بوابة خلفية للتجسس والاختراق.

تسير المدن الذكية على النهج نفسه. ففي دبي أو سنغافورة أو شنزن الصينية، تعتمد إدارة المرور واستهلاك الطاقة وحتى أنظمة الطوارئ على منصات ذكاء اصطناعي متصلة بإنترنت الأشياء.

يتحول تغلغل الذكاء الاصطناعي إلى ملف أمني وجيوسياسي معقد لا يقل خطورة عن أسلحة الدمار الشامل في القرن العشرين

وتعد هذه المنظومات بكفاءة أعلى وتوفير في الموارد، لكنها في الوقت ذاته تجعل حياة ملايين البشر معلقة على شبكات عابرة للحدود قد تُخترق أو تُعطل في أي لحظة.

تدخل مجالات الصحة والزراعة هي الأخرى في دائرة الاعتماد المتبادل. فالأنظمة التي تشخص الأمراض بالاعتماد على الصور الطبية قد تُطور خوارزمياتها في كاليفورنيا، بينما تُشغل على أجهزة تصوير أوروبية وتعتمد على شرائح مصنعة في تايوان. أما في الزراعة، فتعمل الروبوتات التي تراقب المحاصيل وتحدد مواعيد الري بدقة من خلال مزيج من التقنيات الأميركية واليابانية والصينية.

Grace Russell

يتضح إذن أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية محلية، بل منظومة بيئية عالمية تُجبر الدول على التعاون اقتصاديا حتى وهي في خضم تنافس سياسي محتدم. غير أن هذا الترابط نفسه يثير السؤال الأصعب: هل تبقى هذه المنظومة وسيلة لتحسين حياتنا، أم تتحول في لحظة إلى أداة تجسس وسيطرة تستخدمها قوة على حساب أخرى؟

خطر عميق

يتحول تغلغل الذكاء الاصطناعي إلى ملف أمني وجيوسياسي معقد لا يقل خطورة عن أسلحة الدمار الشامل في القرن العشرين. فكل جهاز ذكي أو برنامج يعتمد على خوارزميات متصلة يمكن أن يتحول في لحظة إلى نقطة ضعف استراتيجية. تكمن المفارقة في أن التكنولوجيا التي وُعدنا بها لتسهيل الحياة ورفع الكفاءة قد تتحول إلى أداة ضغط سياسي وسلاح اقتصادي، تُستخدم لتعطيل اقتصادات كبرى أو ابتزاز حكومات في لحظات حرجة.

تفضح أزمة الشرائح العالمية التي انفجرت بين 2020 و2023 هذه الحقيقة بجلاء. لم تكن المشكلة مجرد تعطل في خطوط الإنتاج، بل كشفت هشاشة النظام الاقتصادي الدولي بأكمله. وأظهرت الأزمة أن صناعات حيوية مثل السيارات والأجهزة الطبية والدفاعية تعتمد بشكل شبه كامل على عدد محدود من الموردين، خاصة تايوان وكوريا الجنوبية. ومع توقف بعض مصانع أشباه الموصلات في شرق آسيا خلال جائحة "كوفيد - 19"، تعطلت خطوط إنتاج ملايين السيارات حول العالم، وعانت المستشفيات من نقص أجهزة العناية الفائقة. وهنا ظهر الخطر العميق، فالاعتماد المتبادل يمكن أن يتحول من رمز للقوة في عصر العولمة إلى نقطة خنق إذا قررت دولة ما وقف التصدير أو فرض قيود مفاجئة. لهذا شددت الولايات المتحدة منذ ذلك الحين ضوابطها على تصدير الشرائح المتقدمة إلى الصين، وذهبت أبعد من ذلك بزرع أجهزة تعقب سرية داخل بعض الشحنات الحساسة، وفق ما كشفت عنه تقارير "رويترز" في أغسطس/آب 2025. وتحولت سلاسل الإمداد التي كانت شعارا للانفتاح إلى خطوط مواجهة استراتيجية محمّلة بالشكوك والتجسس.

تكشف المدن الذكية بدورها عن مستوى أعلى من التعقيد والخطر. فهي تعتمد على شبكات مترابطة لإدارة الكهرباء والمياه والمواصلات والمستشفيات

يتجسد التهديد بشكل أكبر في الأنظمة السيبرانية–الفيزيائية التي أصبحت عماد الحياة اليومية. لم تعد السيارة الذكية وسيلة نقل تقليدية، بل غدت حاسوبا متحركا مزودا بعشرات الشرائح والمستشعرات المتصلة بالإنترنت. أظهرت دراسة لشركة "رنسيف سكيورتي"(RunSafe Security)  في أغسطس 2025 أن أكثر من 75 في المئة من السائقين الأميركيين لا يثقون في أمان سياراتهم المتصلة، ويخشون من اختراقها عن بُعد. هذه المخاوف ليست افتراضية، فسيناريو سيطرة جهة معادية على أنظمة الملاحة أو المكابح قد يعني تعطيل آلاف السيارات في وقت واحد، مما يسبب فوضى مرورية خانقة أو حوادث مميتة على الطرق السريعة. وإذا ارتبط هذا الهجوم بتوقيت حساس، مثل يوم انتخابات أو حدث رياضي عالمي، فقد يتحول إلى وسيلة لشل مدينة بأكملها، وضرب الاقتصاد، وزعزعة ثقة المواطنين في حكوماتهم.

مستويات من التعقيدات

تكشف المدن الذكية بدورها عن مستوى أعلى من التعقيد والخطر. فهي تعتمد على شبكات مترابطة لإدارة الكهرباء والمياه والمواصلات والمستشفيات. أي هجوم منسق على شبكة الكهرباء كفيل بإغراق مدينة في ظلام كامل خلال دقائق، مع ما يترتب على ذلك من توقف إشارات المرور، وتعطل المترو، وتوقف محطات ضخ المياه، وشلل المستشفيات. مثل هذا السيناريو يحوّل البنية التحتية المدنية إلى هدف عسكري غير تقليدي وأداة ضغط سياسي بامتياز. وقد وصفت دراسة للباحثة بروك كيدموز في جامعة التقنية الدنماركية عام 2025 هذا الواقع بأنه "مشهد واسع للتهديد"، حيث يمكن لأي هجوم سيبراني أن يصيب المجتمع في شرايينه الحيوية، من سيارات الإسعاف إلى شبكات الطاقة، ليصبح الأمن السيبراني في جوهره مسألة حياة يومية لا مجرد حماية للبيانات.

تتصاعد خطورة المشهد مع دخول البيانات ساحة الصراع كأهم مورد استراتيجي في القرن الحادي والعشرين. لم تعد البيانات مجرد أرقام مخزنة، بل أصبحت نفطا رقميا يحدد ميزان القوة بين الدول. في أبريل/نيسان 2025، فرضت الصين قوانين جديدة تلزم الشركات الأجنبية بتخزين بياناتها الحساسة داخل أراضيها، وإخضاعها لتقييمات أمنية صارمة قبل السماح بنقلها. ولم يكن هذا مجرد إجراء تنظيمي، بل إعلان صريح بأن البيانات باتت خط الدفاع الأول في حماية السيادة الوطنية. غير أن هذه السياسات تدخل العالم في سباق لبناء "جدران رقمية" تُقسم الفضاء السيبراني إلى مناطق سيادة مغلقة، مما يضعف العولمة الرقمية ويحوّل تدفق المعلومات نفسه إلى محور صراع استراتيجي.

أما في المجال العسكري فقد قفزت المخاطر إلى مستوى غير مسبوق. ففي سبتمبر 2025، كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن استخدام أوكرانيا أسرابا من الطائرات المسيّرة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، قادرة على اتخاذ قرارات جماعية في الوقت الفعلي من دون تدخل بشري مباشر.

الحلم بمدن ذكية متناغمة عالميا يصطدم بالواقع السياسي الذي يدفع نحو انقسام تقني حاد

هذه السابقة التاريخية تعني أن الذكاء الاصطناعي لم يعد أداة مساعدة للجيوش، بل أصبح فاعلا مستقلا في ميدان القتال. لكن هذا التطور يفتح أبوابا لمعضلات أخلاقية وقانونية عميقة: من يتحمل المسؤولية إذا ارتكبت هذه الطائرات خطأ كارثيا أو استهدفت مدنيين؟ وكيف يمكن ضبط الاستقرار الدولي إذا أصبحت سرعة الخوارزميات تفوق سرعة القرار البشري؟ يخشى الخبراء أن يؤدي ذلك إلى سباق تسلح جديد يجعل السيطرة على الحروب أكثر صعوبة من أي وقت مضى، وربما يفتح الباب لصراعات لا يملك البشر وحدهم قرار إيقافها.

الانقسام التكنولوجي وحدود الثقة

يبقى السؤال الجوهري قائما: هل يمكن أن تسمح الولايات المتحدة بدخول سيارات صينية ذاتية القيادة إلى شوارعها، وهي متصلة مباشرة بشبكات المرور والطوارئ الأميركية؟ الاحتمال يبدو شبه مستحيل. فواشنطن تتعامل مع أي أنظمة أو معدات صينية بوصفها خطرا مرتفعا في القطاعات الحساسة مثل الاتصالات والطاقة والبنية التحتية والحوسبة السحابية. يكفي أن نتذكر أزمة "هواوي"، حين ضغطت الولايات المتحدة على حلفائها  لاستبعاد الشركة من شبكات الجيل الخامس في أوروبا، لتفهم أن الأمر يتجاوز الحسابات التجارية إلى اعتبارات أمن قومي صرفة.

ومع ذلك، لا يمكن اختزال المشهد في معادلة أبيض أو أسود. فليس من المرجح أن نشهد حظرا مطلقا أو سماحا كاملا، بل سيناريوهات وسطية: تشغيل الأنظمة الأجنبية في شبكات معزولة بعيدا عن البيانات الحكومية الحساسة، أو إلزام الشركات الأجنبية بتشغيل برمجياتها محليا وتحت رقابة صارمة، أو إخضاع هذه الأنظمة لاختبارات أمنية دقيقة قبل السماح بتداولها تجاريا.

لكن حتى مع هذه الإجراءات، يبقى السؤال الأصعب: كيف يمكن ضمان أن هذه التقنيات خالية من المخاطر أو الأبواب الخلفية؟

الحقيقة أن الضمان المطلق غير موجود. ما يمكن فعله هو تقليل المخاطر عبر حزمة أدوات: تشريعات تُلزم الشركات بتقييمات للمخاطر، وآليات تدقيق مسبق قبل طرح المنتجات، وأنظمة تصنيف واضحة تحدد مستويات الأمان. الاتحاد الأوروبي قدم نموذجا بهذا الاتجاه من خلال قانون الذكاء الاصطناعي الذي يبدأ تطبيقه التدريجي حتى 2027. في المقابل، شددت الولايات المتحدة وأوروبا قيود تصدير الشرائح المتقدمة حتى لا تصل إلى خصومهما، بينما فرضت الصين قوانين صارمة تلزم الشركات الأجنبية بتخزين بياناتها داخل حدودها وإخضاعها لتقييمات أمنية قبل السماح بانتقالها عبر الحدود.

كلفة الامتثال

تكشف هذه السياسات عن صراع أعمق حول مفهوم السيادة الرقمية. فالحلم بمدن ذكية متناغمة عالميا يصطدم بالواقع السياسي الذي يدفع نحو انقسام تقني حاد: معسكر غربي وآخر شرقي، لكل منهما معاييره الخاصة في الشرائح والاتصالات والحوسبة السحابية. ومع ذلك، سيبقى هامش للتعاون في المجالات الأقل حساسية مثل التطبيقات الاستهلاكية، شريطة الالتزام بالقوانين المحلية. في هذا السياق، قد تلعب أوروبا دور القوة التنظيمية التي تضع المعايير والأطر، وتفتح قنوات التعامل مع الطرفين ولكن بشروط صارمة.

لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية لتحسين حياتنا اليومية، بل تحول إلى محور صراع سياسي واقتصادي وأمني بين القوى الكبرى

أما فكرة أن التجارة بين الشرق والغرب ستتقلص إلى المنتجات التقليدية فقط فهي مبالغ فيها. الأرجح أن التجارة لن تنهار بل ستعاد هيكلتها. فالتكنولوجيا الحساسة ستفصل وتخضع لقيود شديدة، بينما سيستمر التبادل في السلع والخدمات الأقل خطورة. هذا يعزز دور الدول الوسيطة مثل المكسيك وفيتنام وبولندا وتركيا، التي تتحول إلى مراكز بديلة للتجميع والعبور وإعادة التصدير.

وسيكون لهذا الانقسام التكنولوجي تكاليف مباشرة تتمثل في ارتفاع كلفة الامتثال بسبب تعدد الشهادات والفحوص الأمنية، وبطء انتشار الابتكار عبر الحدود، وزيادة الإنفاق الحكومي على مشاريع "الاستقلالية التقنية" مثل تطوير شرائح محلية أو بناء نماذج ذكاء اصطناعي سيادي.

لكن في المقابل، ستنشأ فرص جديدة مثل توسع خدمات التدقيق والأمن السيبراني، وبروز أسواق لمنتجات مزدوجة- نسخة للغرب وأخرى للشرق- وانتشار نماذج الذكاء الاصطناعي المحلية التي تبنى وتدار داخل حدود الدول لتقليل الاعتماد على الخارج.

ومثال السيارة ذاتية القيادة يلخص الصورة بوضوح. في الغرب، سيشترط أن تأتي المكونات من مصادر موثوقة، وأن تُخزن البيانات وتُعالج محليا، مع فرض رقابة صارمة على التحديثات عبر الهواء. أما في الشرق، فستُطبق قواعد مشابهة على المكونات الغربية مع إلزامية التوطين الكامل للبيانات. أما التعاون بين الجانبين فسيظل محدودا جدا، يقتصر غالبا على طبقات دنيا مثل بيانات الطقس أو الخرائط، ومن خلال "بوابات ثقة" تمنع انتقال البيانات الحساسة بصورتها الخام.

في المحصلة، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية لتحسين حياتنا اليومية، بل تحول إلى محور صراع سياسي واقتصادي وأمني بين القوى الكبرى. من أزمة الشرائح العالمية، إلى المخاطر التي تهدد السيارات والمدن الذكية، إلى معركة السيطرة على البيانات، وصولا إلى استخدامه في ساحات الحرب، يتشكل أمامنا عالم جديد تُرسم فيه حدود النفوذ عبر التكنولوجيا. ويبقى السؤال مفتوحا: هل سيدفع هذا الترابط العميق الدول إلى التعاون القسري رغم التوترات السياسية، أم إننا نتجه نحو انقسام تكنولوجي حاد يقسم العالم إلى معسكرين منفصلين؟

المؤكد أن الذكاء الاصطناعي سيظل قلب هذه المعادلة، يرسم ملامح الاقتصاد المقبل ويحدد شكل الجغرافيا السياسية للقرن الحادي والعشرين.

font change