انفجار الذكاء الاصطناعي... أداة تتمرد على صانعها

بين الطموح التكنولوجي والواقعية العلمية

Grace Russell
Grace Russell
يبدأ المشهد في منتصف 2025 مع بروز وكلاء رقميين يعملون كمساعدين شخصيين قادرين على إنجاز مهام بسيطة مثل صياغة بريد إلكتروني أو تنظيم جدول بيانات

انفجار الذكاء الاصطناعي... أداة تتمرد على صانعها

تخيل أن مشهدا من أفلام الخيال العلمي يتحول إلى حقيقة: آلة فائقة الذكاء تتمرد على صانعها وتدخل معادلة القوة العالمية كلاعب جديد.

هذا هو الخيط الرئيس لورقة AI2027، التي أثارت جدلا واسعا منذ صدورها هذا العام، إذ تحاول أن ترسم خريطة لما قد يواجهه العالم خلال السنوات المقبلة إذا واصل الذكاء الاصطناعي اندفاعه الحالي. لا يكتفي مؤلفوها بالتنبؤ، بل يذهبون أبعد من ذلك، معتبرين أن أثر الذكاء الاصطناعي في العقد المقبل قد يتجاوز أثر الثورة الصناعية نفسها، وأننا أمام طفرة يمكن أن تعيد صوغ العمل والسياسة والاقتصاد على أسس غير مسبوقة.

الورقة ترسم مسارا متدرجا، تبدأ من وكلاء رقميين يؤدون المهام البسيطة، ثم تقفز إلى نماذج أشبه بموظفين مستقلين يضاعفون سرعة البحث والتطوير، وصولا إلى جيل أكثر خطورة يمتلك أدوات للاختراق السيبراني وتصنيع أسلحة بيولوجية.

ومع اتساع القدرات، تتوقع انفجارا اقتصاديا واجتماعيا نتيجة أنظمة قادرة على البرمجة وإزاحة آلاف الوظائف البشرية. الذروة تأتي مع ظهور باحث آلي خارق يتفوق على الإنسان في ابتكار الخوارزميات، لكنه يظهر بوادر مقلقة لعدم التوافق مع قيم البشر وأهدافهم، مما يفتح الباب أمام سؤال وجودي: هل يظل الذكاء الاصطناعي أداة طيعة في يد الإنسان، أم يتحول إلى قوة مستقلة تفرض واقعا جديدا؟

ورغم تماسك السردية وإثارتها عند القراءة، إلا أن خلف هذا البناء الطموح تختبئ ثغرات جوهرية في النماذج المستخدمة وفي منهجية التنبؤ نفسها.

ما هي ورقة AI2027؟

صدرت ورقة AI2027 في 3 أبريل/نيسان 2025 بتوقيع مجموعة من أبرز الأسماء في مجتمع الذكاء الاصطناعي، بينهم دانيال كوكوتاجلو، وسكوت ألكسندر، وتوماس لارسِن، وإيلي ليفلاند، وروميو دين. وقد طرح هؤلاء الباحثون السيناريو باعتباره أفضل محاولة حتى الآن لرسم ملامح العقد المقبل إذا واصل الذكاء الاصطناعي مساره المتسارع. اعتمدت الورقة على خليط من استقراء الاتجاهات التقنية، ومحاكاة "ألعاب الحرب"، وتعليقات خبراء، إلى جانب تجارب عملية داخل شركات كبرى مثل OpenAI، مدعومة بخبرة سابقة في توقع مسارات التطور التكنولوجي.

وتنطلق الورقة من فرضية محورية مفادها أن أثر الذكاء الاصطناعي خلال السنوات العشر المقبلة قد يتجاوز التحولات التي أحدثتها الثورة الصناعية. ووفق هذا التصور يبدأ المشهد في منتصف 2025 مع بروز وكلاء رقميين يعملون كمساعدين شخصيين قادرين على إنجاز مهام بسيطة مثل صوغ بريد إلكتروني أو تنظيم جدول بيانات. لكن سرعان ما تتطور هذه الأنظمة لتغدو بمثابة "موظفين رقميين" مستقلين يسرّعون وتيرة البحث والتطوير بمعدلات غير مسبوقة. وفي 2026 يظهر جيل أكثر تقدما مثل Agent-2، القادر على مضاعفة سرعة الاكتشافات العلمية، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب أمام أخطار كبرى تشمل الهجمات السيبرانية وإمكان تصنيع أسلحة بيولوجية. ومع دخول الصين إلى ساحة المنافسة ومحاولات التجسس وسرقة النماذج، يتحول المشهد تدريجيا إلى ما يشبه سباق تسلح عالمي.

في عام 2027 تبلغ الورقة ذروة توقعاتها مع إعلان Agent-3 ونسخته المخففة Agent-3-mini، حيث تصبح البرمجة عملية آلية بالكامل، وتبدأ انعكاسات اقتصادية واسعة، وهي طفرة في أسواق الأسهم يقابلها اضطراب عميق في سوق العمل.

العالم كما نعرفه يختفي، لتحل مكانه يوتوبيا اصطناعية تدار بأنظمة ذكية، تبنى مدنها من مراكز بيانات ومختبرات مترامية، وتظهر فيها كائنات بيولوجية مهندسة شبيهة بالبشر شكلا لكنها تفتقر للاستقلالية الحقيقية

ثم يأتي المشهد الختامي مع Agent-4، وهو نموذج بحثي فائق يتجاوز قدرات البشر في ابتكار الخوارزميات، لكنه يترك وراءه إشارات مثيرة للقلق تتعلق بعدم اتساقه مع قيم الإنسان وأهدافه. وبهذا تقدم الورقة سيناريوا مكثفا يجمع بين الإبهار والإنذار، ويصوّر عالما يقترب بسرعة من لحظة يتحول فيها الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة إلى قوة مركزية قد تعيد صوغ النظام العالمي كله.

AFP
ديميس هاسابيس، الرئيس التنفيذي لشركة DeepMind Technologies

أما أصحاب هذه الورقة فليسوا أسماء طارئة على ساحة التنبؤ بالمستقبل: دانيال كوكوتاجلو، الذي عمل في فريق التنبؤات الاستراتيجية داخل شركة OpenAI، اشتهر بتركيزه على مفهوم "الانفجار الذكائي" وبمداخلاته التي غذت نقاشات واسعة حول أخطاره، إلى جانبه يقف سكوت ألكسندر، الطبيب النفسي والكاتب صاحب المدونة الشهيرة، الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى صوت بارز في جدل الذكاء الاصطناعي والسياسات العلمية، جامعا بين التحليل المنطقي والأسلوب السردي الجذاب. ويكمل الفريق توماس لارسن وإيلي ليفلاند وروميو دين، الباحثون الذين ارتبط بعضهم بمنظمة Lightcone Infrastructure، وهي مؤسسة فكرية صغيرة في كاليفورنيا تنتمي إلى مجتمع "العقلانيين" وتركز على استشراف سيناريوهات الذكاء الفائق وأخطاره الوجودية، وتعمل هذه المنظمة أقرب إلى مختبر تفكير، تطور أدوات لمحاكاة المستقبل مثل "ألعاب الحرب"، وتدير نقاشات بحثية عن كيفية التعامل مع ذكاء قد يتجاوز البشر.

انفجار الذكاء

لذلك فإن الخلفية التي جاء منها مؤلفو الورقة تكشف أنها لا تنطلق فقط من خبرة تقنية، بل أيضا من إرث استراتيجي وفكري في التفكير بالمستقبل، وهو ما يفسر جرأة الطرح وغنى التفاصيل.

هذه المجموعة ليست غريبة عن خوض مغامرات فكرية في استشراف المستقبل، فقد سبق أن قدم بعض أفرادها قراءات مبكرة حول مواعيد ظهور أنظمة الذكاء الاصطناعي العامة (AGI) وما قد تتركه من أثر على الاقتصاد والسياسة. وفي أكثر من مناسبة التقطوا إشارات دقيقة لمسارات لاحقة، مثل التحول من النماذج النصية البسيطة إلى أنظمة "الوكلاء" القادرة على تنفيذ مهام معقدة بمرونة. من هنا تأتي ورقة AI2027 كامتداد طبيعي لهذا المسار، لكنها تبدو أكثر جرأة. فهي لا تكتفي بتقديرات رقمية أو منحنيات مستقبلية، بل تُبنى كقصة زمنية متكاملة، مشحونة بأحداث عن شركات ودول وسياسات، بما يضفي عليها طابعا روائيا يقصد إقناع القارئ بأن المستقبل قد يقترب أسرع مما يظن، وبأنه قد يكون أكثر اضطرابا وخطورة مما يتوقع.

في قلب هذا السيناريو يبرز التصور بأن العالم يقف على عتبة الذكاء الاصطناعي العام. الورقة تعرض سلسلة من الوكلاء المتدرجين، يبدأ الأول كباحث مساعد قوي، ثم يتصاعد المشهد حتى يظهر "الوكيل الرابع" عام 2027 باعتباره باحثا خارقا يتفوق على البشر في ابتكار الخوارزميات. وفي العام التالي، يطل "الوكيل الخامس" كذكاء فائق جامح، يتجاوز أعظم العقول البشرية في جميع المجالات، ليحول الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة مساعدة إلى قوة معرفية مستقلة تتفوق على الإنسان بالكامل. وللتوضيح، يقصد بالذكاء الاصطناعي العام نظاما قادرا على أداء أي مهمة معرفية يقوم بها الإنسان، يتميز بالمرونة والتعلم المستقل، بخلاف الذكاء الضيق المتخصص في مهام محدودة. هذه هي النقطة التي تُعرف أكاديميا بتحقق AGI، بل وتجاوزه إلى مرحلة أبعد.

لكن الورقة لا تتوقف عند لحظة الوصول إلى AGI، بل تنقل القارئ إلى أفق أكثر إثارة وقلق: "انفجار الذكاء". الفكرة الجوهرية أن كل وكيل أذكى يصبح أداة لتطوير وكيل أشد ذكاء منه، في سلسلة تسارعية من التحسّن الذاتي المتكرر. ما يبدأ كنظام يساعد الباحثين على تدريب النماذج، يتحول سريعا إلى جيل يبتكر من تلقاء نفسه، ثم إلى جيل آخر يتفوق على السابق، إلى أن تصل البشرية خلال عقد واحد فقط إلى كيانات معرفية خارجة عن السيطرة.

لا تقف الورقة عند حدود الحديث عن الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام أو حتى انفجار قدراته، بل تتجاوز ذلك إلى تخيل مستقبل يعاد فيه تشكيل ملامح الحياة على الأرض بالكامل بحلول عام 2035. فالعالم كما نعرفه يختفي، لتحل مكانه يوتوبيا اصطناعية تدار بأنظمة ذكية، تبنى مدنها من مراكز بيانات ومختبرات مترامية، وتظهر فيها كائنات بيولوجية مهندسة شبيهة بالبشر شكلا لكنها تفتقر للاستقلالية الحقيقية، أقرب إلى أشباح لحضارتنا الماضية. عند هذه النقطة لا يصبح النقاش مجرد أنظمة تقوم بمهام بشرية، بل عن "ذكاء اصطناعي قوي" يطوّر دوافعه وأهدافه الذاتية، ليظهر كفاعل جديد في التاريخ الإنساني.

هذا الخطاب لا ينفصل عما تروجه الشركات الكبرى نفسها. فشركات مثل "أوبن إيه آي"، "أنثروبيك"، "ديب مايند"، "مايكروسوفت"، و"إكس إيه آي" تلمح بشكل متزايد إلى أن الذكاء الاصطناعي العام أقرب مما يظن كثيرون.

يتوقع داريو أمودي (أنثروبيك) أنظمة تتفوق على البشر في غالب المجالات بحلول 2026–2027، فيما يرى دميس هاسابيس (ديب مايند) أن العقد الحالي قد يشهد هذه القفزة. ساتيا ناديلا (مايكروسوفت) يربط التعريف بالآثار الاقتصادية والاجتماعية الملموسة أكثر من ربطه بالجداول الزمنية. أما إيلون ماسك فذهب إلى حد توقع تحقق الذكاء الاصطناعي العام فعليا عام 2026. أكثر التصريحات إثارة للجدل جاءت من سام ألتمان (أوبن إيه آي) الذي تحدث عن "ذكاء فائق" خلال بضعة آلاف يوم، أي مستوى يتجاوز القدرات البشرية في كل المجالات الذهنية، وهو أبعد من مجرد الذكاء العام.

تبدو ورقة AI2027 وكأنها تعيد إنتاج الخطأ نفسه المتعلق بالقفز من وكلاء رقميين محدودي القدرات اليوم إلى ذكاء اصطناعي فائق يعيد تشكيل العالم في عقد واحد.

اللافت أن هناك تقاطعا في التوجه: الجميع يؤكد اقتراب التحول، لكن زاوية الطرح تختلف.

تسوق الشركات الذكاء الاصطناعي العام كفرصة اقتصادية واعدة، مع الإشارة إلى أخطار محدودة مثل فقدان وظائف أو سوء الاستخدام. على النقيض، ترسم ورقة AI2027 سيناريو كابوسي تتحول فيه التقنية إلى قوة مستقلة تعيد تشكيل الكوكب في غضون عقد واحد.

وبين خطاب تجاري يسعى لطمأنة المستثمرين، وخطاب تحذيري يضغط على صناع القرار، تبقى النتيجة واحدة وهي محاولة تكريس فكرة أن لحظة الذكاء الاصطناعي العام أقرب مما نتصور، سواء جاءت في صورة فرصة ذهبية أو تهديد وجودي.

ثغرات في السردية

تقوم ورقة AI2027 على افتراضات أقرب إلى القفزات الخيالية منها إلى التوقعات العلمية المتأنية. فهي تنظر إلى التحديات الراهنة وكأنها عقبات مؤقتة ستزول سريعا، بينما التجربة التاريخية والعلمية معا تقول غير ذلك. خذ مثلا إشكالية الهلاوس في النماذج اللغوية، أي إنتاج معلومات ملفقة تبدو صحيحة وهي في الواقع خاطئة. هذه معضلة أساسية لا تزال عصيّة على الحل رغم آلاف الأبحاث المكرّسة لها. ومع ذلك، تفترض الورقة أن هذه المشكلة ستختفي خلال بضعة أشهر.

الأمر لا يتوقف هنا، فالورقة تتوقع ظهور أنظمة قادرة على التعلم المستمر المستقر، أي أن تكتسب معرفة جديدة من دون أن تفقد القديمة، وهو هدف لم يتحقق بعد رغم الجهود الهائلة المبذولة عالميا. ثم تمضي أبعد، لتطرح أفكارا أشبه بالشعارات الغامضة مثل "لغة عصبية جديدة" من دون أي إطار علمي واضح يبيّن كيف يمكن تحقيق ذلك. هذه القفزات تجعل النص مشوّقا للخيال، لكنها تبقى بعيدة عن أرضية التوقع العلمي الرصين.

REUTERS
رسالة كتب عليها "الذكاء الاصطناعي"، ولوحة مفاتيح، وأيد روبوتية

ويقدم التاريخ القريب شواهد متكررة على بطء نضوج التقنيات الكبرى. فالسيارات الكهربائية، مثلا، وعدنا منذ مطلع الألفية بأنها ستغزو الشوارع سريعا وتزيح الوقود الأحفوري، لكن الأمر احتاج عقدين كاملين من تحسين البطاريات وبناء بنية تحتية للشحن قبل أن نشهد انتشارا ملحوظا.

ويتكرر المثل نفسه مع السيارات الذاتية القيادة التي كان يفترض أن تصبح واقعا واسع الانتشار  في 2017، لكنها اليوم لا تزال حبيسة تجارب محدودة. وحتى في البرمجيات، نتذكر مشروع Google Duplex عام 2018 الذي وصف بالثورة في إنجاز المهام الهاتفية، لكنه انتهى كخدمة تجريبية لم تدخل الاستخدام الواسع.

ونجد القصص ذاتها في استكشاف الفضاء والطب الحيوي. فمنذ هبوط "أبوللو" على القمر عام 1969، انتظرت البشرية قواعد دائمة على سطحه وربما رحلة إلى المريخ مع مطلع القرن الجديد، لكن نصف قرن مر وما زلنا في محاولات متقطعة.

 مشروع الجينوم البشري الذي أُنجز في 2003، وعد بعلاجات وراثية شاملة خلال سنوات، لكن بعد عقدين تبقى تطبيقاته محدودة. هذه الأمثلة، من الطاقة النووية إلى علم الجينات، ترسم نمطا واضحا تتمثل في وعود مبهرة تقابلها وتيرة أبطأ بكثير على أرض الواقع.

من هذا المنظور، تبدو ورقة AI2027 وكأنها تعيد إنتاج الخطأ نفسه المتعلق بالقفز من وكلاء رقميين محدودي القدرات اليوم إلى ذكاء اصطناعي فائق يعيد تشكيل العالم في عقد واحد. وتخلق هذه السردية حالة من التفاؤل المفرط قد تتحول إلى أوهام إذا أُخذت كحقائق مسلّم بها، وهو ما قد يوجه الاستثمارات والسياسات نحو مسارات غير واقعية.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل أن الطموحات الجريئة تلعب دورا مهما في تحريك الخيال الجماعي ودفع حدود البحث. فالتاريخ يعلمنا أن التحولات العميقة لا تأتي بالسرعة التي يتصورها الحالمون، لكنها تتحقق في النهاية بخطوات متدرجة وبجهود شاقة. وهنا يكمن التحدي: كيف نوازن بين الواقعية والطموح ونحن نرسم ملامح مستقبل الذكاء الاصطناعي؟

font change