ريتشارد رايت والعودة إلى زمن الأوهام البصرية

معرض جديد له في لندن

Courtesy The Modern Institute/Toby Webster Ltd, Glasgow Photo: Keith Hunter
Courtesy The Modern Institute/Toby Webster Ltd, Glasgow Photo: Keith Hunter
ريتشارد رايت، "ذا مودرن إنستيتيوت"، زجاج معشق يدويا، في 4 أجزاء، تركيب دائم، غلاسكو، 2014

ريتشارد رايت والعودة إلى زمن الأوهام البصرية

بعد معرضه الذي أقامه في "تيت بريتان" بلندن عام 2009 والحائز "جائزة تيرنر"، يعود الرسام البريطاني ريتشارد رايت إلى العرض ثانية من خلال معرض شخصي كبير يضم أكثر من خمسين عملا بمختلف الأحجام، منفذة جميعها على الورق في "مركز كامدن للفنون".

تلك لفتة استثنائية من فنان لم تعد العروض العامة تغريه بعد أن اهتدى إلى ضالته في صنع أعمال فنية تتناسب مع الفضاءات العامة والأماكن الشخصية على حد سواء من خلال رسوم ينفذها مباشرة على الجدران أو من طريق الرسم على الزجاج الذي يظهر براعة في التعامل مع الضوء الطبيعي. وهو ما صار نادرا في زماننا إلا على مستوى الفن التجاري وليس فن رايت في طبيعة الحال من ذلك النوع.

يعيدنا رايت إلى زمن الأوهام البصرية في ظل انتشار الـ Op Art بعد ظهور الفنان المجري الفرنسي فيكتور فازارلي في ستينات القرن العشرين. كانت هناك يومذاك حماسة لإحداث نوع مزدوج من الخداع والتحريص البصريين. يرى المرء أعمالا فنية لا تنقل الطبيعة ولا تشتبك بالواقع وفي الوقت نفسه لا تعبر عن أي مستوى من مستويات الشعور.

ابتكر فازارلي عالما مستقلا، مادته الرسم. سبقه إلى ذلك الاستقلال، البولندي الروسي كازيمير مالافيتش صاحب "مربع أبيض داخل مربع أبيض"، والهولندي بيت موندريان المشهور بتجريده الهندسي الذي استفاد منه مصممو الأزياء. لكن فازارلي ذهب بعيدا في اللعب، في حين كان سلفاه جادين. حرص فازارلي على أن يصنع عالما مستقلا ليس من أهدافه اخضاع العين بل العمل على إحداث شغب بصري تكون العين مركزه.

يعيدنا رايت إلى زمن الأوهام البصرية في ظل انتشار الـ Op Art بعد ظهور الفنان المجري الفرنسي فيكتور فازارلي في ستينات القرن العشرين

يعيدنا ريتشارد رايت إلى الفن البصري وأوهامه وشغبه لكن بأسلوبه الشخصي الذي يقترب من أسلوب فازارلي ويبتعد عنه حسب ما تفرضه عليه العلاقة التي يقيمها العمل الفني بمحيطه.

مفهوم جديد للفضاء

ما معنى أن يتخذ فنان من الخداع البصري أسلوبا له في تزيين القاعات الخاصة والأماكن العامة؟ ريتشارد رايت سليل فنانين أبهروا العالم باختراعهم نمطا لم يكن مألوفا في التجريد. وكما يمكن أن نتوقع، فإن رائدي ذلك الفن، كاندنسكي باعتباره تجريديا غنائيا، وبيت موندريان باعتباره تجريديا هندسيا، لن يرضيهما أن يتحول التجريد الذي راهنا من خلاله على توسيع دائرة الرؤية الداخلية للفن إلى مجرد ألعاب بصرية. لكن الأوهام التي يعيشها المتلقي وهو ينظر إلى رسوم رايت ليست كل شيء. فما تضفيه تلك الرسوم على المساحات المعمارية هو شيء أكثر تعقيدا وتركيبا.

Alice Lubbock - Courtesy Gagosian
ريتشارد رايت

فالأشكال التي يخترعها الفنان المولود في لندن عام 1960 وهي تتسع وتضيق، تتلاشى وتتراكم، تستقيم وتنحرف، انما تعمل على خلق مفهوم جديد للفضاء. ذلك أشبه بعمل الساحر الذي يستخرج من قبعة فارغة حمامة حية.

وقد تكون مهمة الإشارة إلى أن رايت بدأ مسيرته رساما على القماش غير أن ذلك لم يقنعه وهو يفكر في تفاعله مع البيئة. لم يندم لأنه دمر لوحاته في لحظة رفض لماضيه. ذلك لأنه اهتدى إلى الطريق التي ستفضي به إلى موقع تكون فيه رسومه مطلوبة من الأشخاص والمؤسسات معا.

Rob Harris
جانب من معرض ريتشارد رايت في "مركز كامدن للفنون"، 2025

لقد حقق حلمه في إنشاء أعمال تركيبية ضخمة، ستؤمّن له انتشارا حتى وإن كانت منفذة لأماكن محددة. ما كان يهمه ويشبع رغباته، أن ينفذ أعماله مباشرة على الجدران وبأحجام كبيرة. وهو ما فعله في "مركز كامدن للفنون" الذي خصص واحدة من قاعاته في المعرض الحالي لعمل كبير سيدمر بعد انتهاء فترة العرض.

صحيح أنه يوهمنا بما هو غير واقعي، غير أن الصحيح أيضا أن ما نتوهمه يريح خيالنا بطريقة جمالية

وفي النظر إلى ذلك العمل، لا بد من أن يلاحظ المتلقي أن رايت أضفى على القاعة سعة هي ليست منها. صحيح أنه يوهمنا بما هو غير واقعي، غير أن الصحيح أيضا أن ما نتوهمه يريح خيالنا بطريقة جمالية.

العودة إلى عصور الفن الخالدة

يفخر "مركز كامدن للفنون" بأنه يقيم أكبر معرض لريتشارد رايت الذي من المرجح أنه لا يشعر بضرورة إقامة معارض شخصية. ذلك لأن رؤية أعماله متاحة بسبب وجودها في أماكن عامة كثيرة، وهو ما يذكر بالفنان الفرنسي البلغاري الأصل خريستو الذي يقوم بتغليف الجسور والبنايات والكنائس وحين يقام له معرض فإنه يتضمن تخطيطات مشاريعه التي تُزال ولا يبقى منها إلا الصور الفوتوغرافية.

© Richard Wright Photo: Maris Hutchinson Courtesy Gagosian
ريتشارد رايت، بدون عنوان،ألوان بوستر زيتية ومينا على ورق، 2024

رايت يختلف عن خريستو في أن أعماله الكبيرة تبقى في مكانها إلا إذا فرضت عمليات الصيانة أو إعادة البناء التخلص منها. ولأن الوصول إلى أعماله متاح بطريقة تشبع غرور أي فنان، فقد كان مقلا في إقامة معارضه الشخصية أو مشاركاته في اللقاءات الفنية، إلا ما كان يهدف إلى إلقاء نظرة شمولية على الفن في بريطانيا، كما هو الحال مع المعرض الذي أقامه "تيت غاليري" عام 2013 بعنوان "جولة في الفن البريطاني".

وعلى الرغم من أن رايت ولد في لندن، غير أنه ترعرع ودرس في غلاسكو، لذلك فقد صار يتم التعامل معه باعتباره فنانا من اسكتلندا، وهي صفة خدمته إذ أنقذته من التنافس مع الفنانين الذين تعج بهم لندن. غير أن تلك الصفة المحلية لم يكن لها أثر في أسلوبه الحر في استحضار مصادر إلهامه التي كانت تمتد بحرية بين الأرابيسك والروكوكو والأيقونات واخيرا التجريد بتقنية الخداع البصري، كما ورد على يدي مخترعه فازارلي.

حرص على أن يظهر حساسية فنان منصرف إلى عالمه الذاتي الذي يتضمن الكثير من الرقى السحرية التي يمتزج فيها الأسلوبان التشخيصي والتجريدي

ويبدو رايت حرا في اختراقه الزمن والانتقال من مكان إلى آخر ولا يهمه أن يكون عمله الفني حديثا بقدر ما يهمه أن يكون ذلك العمل مخلصا لخياله الذي يفتح أمام مشاهده نافذة على عصور وأماكن مختلفة.

Rob Harris
جانب من معرض ريتشارد رايت في "مركز كامدن للفنون"، 2025

في هذا المعرض نرى لوحات صغيرة، اجتهد الفنان في تنفيذها على المستوى التقني، غير أن المتلقي الخبير بعالمه لا بد أن يضعها في منظوره الخيالي باعتبارها مصغرات لأعمال كبيرة.

نعم إنه عذاب

المفاجئ في معرض ريتشارد رايت أنه يعيد الاعتبار إلى فن "الأوب آرت" الذي كنا نحسب أنه انتهى بوفاة مخترعه وفنانه الأهم فيكتور فازارلي عام 1997. تلك وجهة نظر يمكن أن تجد ما يدعمها في ما صار تقنيو العالم الرقمي ينفذونه من أعمال بصرية في الشوارع والساحات العامة جزءا من عملية الترويج الدعائي أو للتزيين المرح. ولكن رايت فنان مختلف. ففي الوقت الذي لم يسع فيه إلى إخفاء عيوب الصنعة التي تخالط أسلوبه حيث يمكن مساعديه أن ينفذوا أجزاء من لوحاته الكبيرة وبالأخص تلك التي تنفذ مباشرة على الجدران، فإنه في الأعمال الورقية الصغيرة حرص على أن يظهر حساسية فنان منصرف إلى عالمه الذاتي الذي يتضمن الكثير من الرقى السحرية التي يمتزج فيها الأسلوبان التشخيصي والتجريدي.

Keith Hunter
ريتشارد رايت، بدون عنوان،ألوان بوستر ومينا على ورق (5.5.2022)، 2022

غير أن الفنان المولع بالتكرار، يعرف أن فنه في حاجة إلى نفس طويل وقدرة بصرية دقيقة على التحمل وصبر. "نعم. إنه عذاب". جملة يقولها رايت ليصف عمله. لقد رسم ذات مرة 47 ألف نجمة على سقف "متحف ريكس" في امستردام. كل هذا الضنى من أجل ألا تتوقف الرؤية عند حدود الواقعي. يبالغ رايت بالكثرة، كثرة الخطوط والأشكال والخرائط المرسومة بدقة لا تقبل الخطأ. تلك مبالغة صادمة لا يمكن الإفلات من تأثيرها البصري في محاولة العودة إلى سؤال من نوع "ألم يكن التعبير أقل كلفة؟" .

رايت الذي يكتفي بخلق نزهة بصرية، يرى أن التعبير عن الحاجة إلى الفن يمكن أن يأخذ أشكالا جديدة تتخطى التفكير في المعاناة والألم.

font change