رشيد جونسون يحتفي بأميركا السوداء في "غوغنهايم"

هواجس الموت وأسئلة الوجود والهوية

متحف متروبوليتان للفنون، اقتناء بتمويل من مؤسسة صن هنغ كاي وشركاه، يانيس ودينا زوزانس (ريغا، لاتفيا)، لورا وجيمس ديمار، مؤسسة سوزان ولينارد فاينستين، وهدايا مجهولة. © رشيد جونسون، 2025. تصوير: مارتن بارسيكيان
متحف متروبوليتان للفنون، اقتناء بتمويل من مؤسسة صن هنغ كاي وشركاه، يانيس ودينا زوزانس (ريغا، لاتفيا)، لورا وجيمس ديمار، مؤسسة سوزان ولينارد فاينستين، وهدايا مجهولة. © رشيد جونسون، 2025. تصوير: مارتن بارسيكيان
رشيد جونسون، "الخمسة المكسورة"، 2019 (تفصيل). بلاط خزفي، بلاط مرايا، أرضية من خشب البلوط الأحمر المحروق، فينيل، طلاء بخاخ، قلم زيتي، صابون أسود، شمع. 97 1/4 × 156 1/2 × 2 1/8 إنش (247 × 397.5 × 5.4 سم).

رشيد جونسون يحتفي بأميركا السوداء في "غوغنهايم"

لا يشبه متحف "غوغنهايم" الذي يقع في الجزء العلوي من الجادة الخامسة بمانهاتن (نيويورك) أي متحف آخر، لا لأن بنايته التي صممها فرانك لويد رايت هي عمل معماري فريد من نوعه، الأمر الذي جعل منها تحفة في حد ذاتها فحسب، بل أيضا لأن مقتنياته التي تربو على ثمانية آلاف عمل تضع المتلقي أمام منظر بانورامي يمثل أهم ما شهده الفن التشكيلي في الغرب من تحولات غيرت طريقة معرفتنا الجمالية وسبل الرؤية البصرية إلى العالم، بدءا من الانطباعية مرورا بالأساليب الفنية التي ظهرت في القرن العشرين.

هذا المتحف على أهمية مقتنياته، لا يكف عن متابعة دوره الطليعي في التقاط التجارب الفنية المتميزة من أجل ألا يأسره الزمن في وضع يكون فيه مجرد آلة عرض لما جرى في الماضي. لذلك يحرص القيمون على المتحف على إقامة معارض متحركة بين حين وآخر. وبسبب ما يضفيه العرض في "غوغنهايم" من أهمية استثنائية على الفنان، غالبا ما يختار فنانين ذوي اهتمامات فكرية وفنية متشعبة استطاعوا من خلالها توسيع نطاق الرؤية الفنية، إضافة إلى ما كرسوه من خبرات على مستوى تطوير الذائقة الجمالية لدى شرائح مجتمعية لم تتمتع في أوقات سابقة بنعمة الفن. في سياق ذلك المنظور، كان الفنان الأميركي رشيد جونسون الذي يقام له معرض في ثلاث طبقات من المتحف يملك ما يؤهله لكي يكون الاحتفاء به استثنائيا.

الموت الذي نعيشه

يضم المعرض الذي يحمل عنوان "قصيدة لمفكرين عميقين" لوحات ومنحوتات وصورا فوتوغرافية وأعمال تركيب وتجهيز ومواد جاهزة وصورا مطبوعة بتقنية الشاشة الحريرية وأفلام فيديو ومدونات. تلك صنائع جمالية يكمل بعضها البعض الآخر وتكشف عن تعدد وتنوع اهتمامات وانشغالات رشيد جونسون الفنية والفكرية، على الرغم من أنه وظفها جميعا لخدمة فكرته عن الموت التي لم يجد بدا من التعبير عنها بشكل مباشر حين كتب كلمة "موت" على لوحة بكاملها كأنها تشير إلى شي آخر.

فضل رشيد جونسون أن يبدأ ونبدأ معه بالموت لكي ننساه ولا نفكر فيه إلا باعتباره زائرا غير مزعج

يحضر الموت باردا. ففي مقدمة المعرض صورة للفنان وهو يستلقي على منصة كأنها تمثال تذكاري. وبذلك، فضل رشيد جونسون أن يبدأ ونبدأ معه بالموت لكي ننساه ولا نفكر فيه إلا باعتباره زائرا غير مزعج. يضم المعرض أكثر من صورة شخصية للفنان (بورتريه) حاولت ألا أتساءل عن ضرورتها لكي لا أفسد عملية النظر إلى الأعمال الفنية وتذوفها جماليا من غير التماس المباشر مع أسئلة الفنان الوجودية التي لا تتجرد من طابعها الشخصي.

بإذن من الفنان وصالة "هاوزر آند ويرث"
جوشوا وودز. بورتريه رشيد جونسون، 2025. نيويورك

في جزء كبير من المعرض، سعى الفنان إلى أن لا يكون موضوعيا ولا مهتما في أن يوصف بأنه حيادي من أجل أن يكون انتسابه إلى الجمال واضحا. رشيد جونسون كأي فنان معاصر ليس معنيا بجمال أعماله بقدر ما يسلط اهتمامه على قوة فكرته وبما تنطوي عليه من شغب وتحريض ويأس صادم. فهو ينتمي إلى جيل رأى منظروه أن الجمال ما هو إلا بضاعة بورجوازية لم يعد لها مكان في التفكير الفني.

الأسود تمثالا على منصة

يشكل الأميركيون من أصل أفريقي مصدر إلهام جونسون الفني، ليس في هذا المعرض وحده بل في كل معارضه السابقة، وأتوقع أنه سيبقى ملازما له لسببين، أولهما أنه خبير به لجهة كونه موضوعا شخصيا فيه تتركز خلاصات حياته وتجربته الإنسانية، وثانيهما أن المؤسسة الفنية "غوغنهايم وسواه" يفضله أن يكون كذلك وألا يغادر موقعه باعتباره ممثلا لعرق صاحب قضية وتاريخ مختلف.

من مجموعة كلارا وو تساي. © رشيد جونسون، 2025. تصوير: مارتن بارسيكيان
رشيد جونسون، "جمهور قَلِق بلا عنوان"، 2019 (تفصيل). بلاط خزفي، صابون أسود، شمع، 159 × 180 × 3 إنش (403.86 × 457.2 × 7.62 سم).

هنا بالضبط تتداخل السياسة والفن. لا أحد يريد أن يشم رائحة العنصرية. غير أن ما رأيته يؤكد أن الأميركيين من أصل أفريقي ما زالوا مصرين على خلق فن هو صنيعة عزلتهم. فرشيد جونسون ولد عام 1977 في شيكاغو ودرس في جامعتها التصوير الفوتوغرافي ومن ثم اهتم بالنظرية النقدية من خلال دراسة أفلام الفيديو والوسائط الحديثة، غير أنه لا يزال منكفئا على تاريخه الشخصي في محاولة منه للبحث عن هويته باعتباره أميركيا من أصل أفريقي، وهذا يعني أنه لم يتخل عن الأسئلة التي تتعلق بهويته الأميركية الشاملة.

لا يزال جونسون منكفئا على تاريخه الشخصي في محاولة منه للبحث عن هويته باعتباره أميركيا من أصل أفريقي

هذه ليست مشكلة شخصية بل هي مشكلة تتعلق بسياسة المتاحف والصالات الفنية. سياسة تهدف إلى تجميد الإنسان الأسود في زمن يقع خارج أميركيته. ذلك ما واجهه فنان من نوع رشيد جونسون بالسخرية. فهو على سبيل المثل حين يتمدد على منصة كأنه تمثال، فذلك عنوان لعرض يتجاوز مكان المعرض. يريد جونسون أن يرى تمثالا لأميركي من أصل أفريقي في مكان عام في نيويورك أو أية مدينة أميركية. في بروكلين حيث أكتب، يشعر المرء أن أميركا السوداء هي سيدة نفسها.

مجموعة خاصة © رشيد جونسون، 2025. تصوير: مارتن بارسيكيان
رشيد جونسون، "طاولة زبدة الشيا بلا عنوان"، 2016. زبدة الشيا، سجادة فارسية، جوز أميركي محروق، 55 × 203 × 72.5 إنش (139.7 × 515.62 × 184.15 سم).

لغة العزلة والتجريد الجمالي

مثل كل فنان، يلتقط جونسون مفردات من حياته الشخصية وفي الأخص في مرحلة الطفولة، في محاولة منه للتعرف الى الجذور النفسية للحالات التي صار يعيشها ويصارعها في ما بعد. نرى على سبيل المثل دمى بدائية لا تنطوي على أي إيحاء رمزي عام. غير أن الفنان يعالج تلك المفردات من جهة كونها لا تزال ممكنة باعتبارها أثرا شخصيا. شيء ما يتعلق بشخص بعينه. عام 2008 قدم جونسون عملا نحتيا بعنوان "الفولاذ الأسود في ساعة الفوضى"، والعنوان مستوحى من أغنية لفرقة الهيب هوب، "بابليك إنيمي"، صدرت عام 1988، أي قبل المنحوتة بعشرين سنة.

نتحرى البعد السياسي الذي يقف وراء الاهتمام بفن الفنانين الأميركيين من أصل أفريقي. فهل هي رسالة اعتذار أم أن الثقافة الأميركية تبحث عن مصادر إلهام تنعشها من الداخل؟

يتناول العمل قضايا تتعلق بنظام السجون المخصخص واعتماده على سجن الرجال السود. العمل عبارة عن مؤشر تصويب. وهو شعار لطالما استعمله الأميركيون الأفارقة رمزا للرقابة التي تتخذ من العدالة والقانون وسيلتين للحجر على حرية حركة الآخر المختلف. مفردات جونسون هي جزء من لغة غير متاحة للجميع. فهي لغة مجتمع لا يزال في الجزء الأكبر من ثقافته عالقا بتاريخ العزلة. ينفذ جونسون رسومه التجريدية بمواد فقيرة يغلب عليها اللون الأسود أو الألوان القريبة منه. ما كان يهمه أكثر من سواه، أن يتحرر التجريد من جمالياته المحايدة ليكون فضاء للسرد الذي لا يحتاج إلى حمولته الحكائية لكي يتحول إلى رمز بصري. عرض في مقدمة معرضه قاربا مطليا بالقار الأسود.

من مقتنيات متحف متروبوليتان للفنون، تم شراؤها بدعم من مؤسسة صن هنغ كاي وشركاه، يانيس ودينا زوزانس (ريغا، لاتفيا)، لورا وجيمس ديمار، مؤسسة سوزان ولينارد فاينستين، وهدايا مجهولة. © رشيد جونسون، 2025. تصوير: مارتن بارسيكيان
رشيد جونسون، "الخمسة المكسورة"، 2019. بلاط خزفي، بلاط مرايا، أرضية من خشب البلوط الأحمر المحروق، فينيل، طلاء بخاخ، قلم زيتي، صابون أسود، شمع. الأبعاد: ‎97 1/4 × 156 1/2 × 2 1/8 إنش (247 × 397.5 × 5.4 سم).

في ذلك العمل/ المشهد إشارة إلى رحلة من نوع ما. فالأفكار مثل البشر تنتقل من مكان إلى آخر من غير أن تتخلى عن دوافعها والبنى الجدلية التي تستند إليها. يبدو القارب خليطا مبهما من المفردات التي تمثل كل واحدة منها حدثا مفارقا لزمن ومكان وقوعه.

شجرة متعددة الطبقات

نشر جونسون نباتات خضراء بين أجنحة معرضه، غير أن الشجرة المتعددة الجذوع التي عرضها في الطابق الأول بقرب لوحته التجريدية الكبيرة والقارب هي الأكثر بروزا. ربما لأنه أرادها أن تعبر عن فكرته عن الانتماء المتعدد الطبقات. فهي شجرة من طبيعة فنية متخيلة ولا تقلد في مظهرها أية شجرة أخرى. ذلك جانب رمزي أراد الفنان من خلاله أن يؤكد تعدد مصادر الهوية على الرغم من أن الهيئة الشكلية تظل واحدة.

ليس من المستعبد أن يقال "إن ما يحدث في الثقافة لا يحدث في الطبيعة دائما". ذلك كلام ينفع جونسون في محاولة تطويع المفردة الطبيعية لخدمة غاياته المفاهيمية. وهي غايات تظل غامضة حتى وإن بذل الفنانون والقيمون على المعارض جهودا كبيرة في شرحها من خلال نصوصهم التي صارت ترافق العرض الفني بطريقة مملة. ذلك يعيدنا إلى نقطة الصفر، إذ نتحرى البعد السياسي الذي يقف وراء الاهتمام بفن الفنانين الأميركيين من أصل أفريقي. فهل هي رسالة اعتذار أم أن الثقافة الأميركية تبحث عن مصادر إلهام تنعشها من الداخل؟

font change

مقالات ذات صلة