متحف إدغار آلان بو شاهدا على العظمة الملهمة

معلم أدبي يلهم الزوار

SAUL LOEB / AFP
SAUL LOEB / AFP
صور للكاتب الأميركي إدغار آلان بو وعائلته في متحف منزله في بالتيمور

متحف إدغار آلان بو شاهدا على العظمة الملهمة

توفي إدغار آلان بو (1809-1849) عن عمر لم يتجاوز أربعين عاما، كأنه أحد شخصيات قصصه المليئة بالأسرار والغموض والأجواء المخيفة والمثيرة. فقد عثر عليه جثة هامدة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، على طرف شارع جانبي في مدينة بالتيمور بولاية ماريلاند، ولم يعرف سبب وفاته على وجه الدقة. أوردت الصحف أن الوفاة نجمت عن "احتقان في المخ"، أو "التهاب في أنسجة الدماغ"، وهما مصطلحان كانا يستخدمان آنذاك للتستر على أسباب مخجلة كالوفاة نتيجة الإدمان. وقد تباينت الروايات حول سبب موته لاحقا، فهناك من أرجعه إلى جرعة زائدة من الأفيون، ورأى آخرون أن التسمم الكحولي هو الذي أودى بحياته، بينما اعتقد البعض أن داء السل كان القاتل الحقيقي. ولم تغب عن المشهد فرضية الاغتيال في ظروف يلفها الغموض.

أيقونة أدبية

يجمع النقاد على أن بو هو أول كاتب أميركي أبدع في فن القصة القصيرة وألف قصصا أصبحت لاحقا أيقونات كلاسيكية أثرت في كتاب كبار، كما يعد المؤسس الأول لأدب الجريمة في أميركا وخاصة في قصته "جرائم شارع مورغ". وكان أول كاتب أميركي عاش من كتابته، وسلك طريقا مغايرا للثقافة السائدة واختار حياة مستقلة رغم معاناته من الديون. ونظر إليه معاصروه كمقامر وسكير ومدمن أفيون، ولم يقدروه حق قدره أثناء حياته. غير أنه شكل بعد وفاته جزءا جوهريا من نسيج الأدب الأميركي، وترك أثرا عميقا على كتاب القصة.

تلونت نظرة النقاد إلى بو بالأحكام الأخلاقية المسبقة في كثير من الأحيان، مما عكس ظاهرة مألوفة في ثقافات الشعوب: الميل إلى تجاهل المبدع أو تدميره والافتراء عليه والتركيز على الشخصي عوضا عن الجوهر الإبداعي الأصيل.

لم يجد النقاد الأميركيون المبكرون في بو قيمة تذكر، ورفضوا قصصه وشعره، وقيموه أخلاقيا لا أدبيا، فوصموه بالانحطاط والإدمان. إلا أن أهميته اكتشفت خارج الولايات المتحدة، على يد شاعرين فرنسيين رمزيين كبيرين هما بودلير ومالارميه. رأى بودلير في بو روحا ملائكية خانها مجتمعها، فترجم أعماله وروج لعبقريته في فرنسا، حتى قيل إن الترجمة الفرنسية تضاهي الأصل، وربما تفوقه جمالا. أما مالارميه فرأى فيه شاعرا رائيا، واعتبره قوة شعرية جبارة ألهمت الحركة الرمزية، وسعت إلى تجاوز الواقع نحو حالات حلمية وروحية.

أول كاتب أميركي أبدع في فن القصة القصيرة وألف قصصا أصبحت لاحقا أيقونات كلاسيكية كما يعد المؤسس الأول لأدب الجريمة


رأى كلاهما في بو صوتا رؤيويا وروحا قريبة من روحيهما. اعتقد بودلير أن المجتمع الأميركي، بسبب انغماسه في المادية والتقدم، لم يقدر روح بو الرؤيوية والمتمردة، وصوره كشخصية مأسوية منعزلة، وهذا ما دفع بودلير أيضا إلى الاحتفاء بصرامته الفنية وسعيه الروحي للانفصال عن السائد. أما مالارميه، فخط مرثية له بعنوان "قبر إدغار آلان بو" ورأى فيه شاعرا انتصر على مجتمعه المادي، وتبنى تركيزه على الإيحاء والموسيقى، واحتفاءه بالمواضيع الميتافيزيقية. ألهم هذا الاكتشاف الفرنسي العديد من الأميركيين لإعادة اكتشاف القيمة الإبداعية لبو، وربما كان هذا أحد الدوافع وراء اختيار أقدم منزل في مدينة ريتشموند في ولاية فيرجينيا التي عاش فيها الكاتب وتحويله إلى متحف يكرمه ويعيد الاعتبار إليه.

SAUL LOEB / AFP
زهور على قبر الكاتب الأميركي إدغار آلان بو في ويستمنستر هول في بالتيمور

قصة المتحف

يشكل متحف إدغار آلان بو في ريتشموند معرضا حيا يعكس جوانب من حياة هذا القاص والشاعر العظيم، ويعرض أكبر مجموعة متحفية في العالم مخصصة له. افتتح المتحف عام 1922 في "البيت الحجري القديم"، أقدم مبنى قائم في ريتشموند، على بعد مبان فقط من منزل بو الأول فيها، وأول مكان عمل له. يضم المتحف معارض عن حياته ووفاته، وحديقة الفناء "المسحورة"، وضريحه. كما يحتوي على متجر هدايا فريد يضم العشرات من المنتجات المتعلقة به.

يرجح أن المنزل الذي يحتضن المتحف، بني عام 1754 ولا تزال كثير من ألواح الأرضية الأصلية والمسـامير التي صنع بعضها المالك الأول للبيت حاضرة لتشير إلى عراقة البناء. من أبرز مقتنيات المتحف، نسخة من الطبعة الأولى لمجموعة بو القصصية الأولى، "حكايات غروتسكية وزخرفية" الصادرة عام 1840، وشاهدة قبره التي نقش عليها: "المكان الأصلي لدفن إدغار آلان بو، السيدة ماريا كليم، حماته، ترقد إلى يمينه، فيما ترقد زوجته فيرجينيا بو إلى يساره".

يعرض المتحف في ركن آخر ملصقا بعنوان "الموت الجميل"، يوضح كيف كان مرض السل سببا رئيسا للوفاة قبل تطور الطب الحديث، وكيف أنه قتل والدة بو وأمه بالرضاعة وشقيقه وزوجته وأصدقاءه. يذكر الملصق أيضا أنه كان ينظر إلى مرض السل في أوائل القرن التاسع عشر على أنه "رومانسي وجميل"، خاصة بين النساء، إذ ارتبطت الإصابة به بصورة جمال شاحب وضعف أنثوي شاعري. وكانت النساء غير المصابات بالسل يحاكين مظهر المريضات باستخدام مساحيق بيضاء وملابس توحي بالنحول والضعف. ومن بين المقتنيات الشخصية لبو المعروضة: علبة مناديل ورقية رسمت عليها شقيقته أزهارا، وكانت المناديل نفسها تزين آنذاك بالأزهار الحمراء لإخفاء الدم الناتج من سعال مرضى السل.

اعتقد بودلير أن المجتمع الأميركي، بسبب انغماسه في المادية والتقدم، لم يقدر روح بو الرؤيوية والمتمردة، وصوره كشخصية مأسوية منعزلة

يعرض المتحف أيضا عكازة الشاعر الفضية التي نقش عليه اسمه، وخصلا من شعره قصها صديقه جوزيف سنودغراس بعد وفاته، وإبريقا مطليا بالفضة من فندق "ريتشموند هوتيل"، حيث أحيا بو آخر أمسياته الأدبية قبل وفاته، ونسخة من قصيدته الشهيرة، "أنابيل لي"، التي نشرت في مجلة "سارتين يونيون" بفيلادلفيا بعد وفاته بيومين، واحتفت بالحب الذي لا يموت. كان بو ينوي أن يتزامن نشره للقصيدة مع إعلانه زفافه على الأرملة إلميرا شيلتون، لكنه توفي قبل عشرة أيام من الموعد، وبعد وفاته ادعت نساء أن القصيدة مهداة إليهن.

Saul Loeb / AFP
جورج دواير من واشنطن يتجول في متحف ومنزل إدغار آلان بو في بالتيمور

يعرض المتحف أيضا قطعا من كفن بو، وقصة نقل رفاته بعد عشرين عاما من دفنه في قبر غير معلم، مكتوبة على ورقة سمراء معلقة على الجدار. تروي القصة أن التابوت تحطم أثناء النقل، وكشف عن جثة استحالت غبارا، إلا أن العظام وبعض خصل الشعر بقيت سليمة. وأفاد شهود عيان أن الذراعين كانتا ممددتين في وضعية الوفاة نفسها، بينما بقيت عظام الظهر والساقين سليمة، والأسنان بيضاء وفي حالة ممتازة.

Saul Loeb / AFP
غرفة يُعتقد أنها كانت غرفة نوم الكاتب إدغار آلان بو في منزله ومتحفه في بالتيمور

يضم المتحف أيضا سرير إدغار آلن بو، مغلفا بغطاء بلاستيكي، وهو السرير ذاته الذي كان، كما يروى، يثير في نفسه خوفا دائما من أن يراقبه أحد أثناء نومه. وعبر بو عن هذا الخوف لاحقا في قصته الشهيرة، "القلب الواشي"، حيث يختبئ القاتل ليراقب ضحيته العجوز في عتمة الليل. ويعرض المتحف صديرية بو البيضاء الحريرية وجواربه، علاوة على كرسيه الذي اعتاد الجلوس عليه أثناء تحريره مجلة "ساوثرن ليتراري ميسنجر"، وكتب بعض أهم قصصه التي لا تزال تشهد على عبقريته الأدبية.

REUTERS/Finbarr O'Reilly
موظف في دار "كريستيز" يحمل نسخة أصلية من كتاب إدغار آلان بو "تيمورلانك وقصائد أخرى"

ما يميز هذا المتحف حقا هو أنه يتجاوز التقييمات السطحية لشخصية إدغار آلن بو، سواء صور ككاتب سوداوي أو شاعر عبقري أو رائد لأدب الجريمة، ويقدمه في صورة أكثر عمقا واتساعا. فبما يضمه المتحف من صور وأثاث ومخطوطات، علاوة على المعلومات المتوفرة للزوار والباحثين في تفاصيل حياته ومماته، يتجلى بو مبدعا في النثر والشعر، لم تثنه المعاناة والفقر والنقد عن ترسيخ عبقريته، بل شكلت ملامح الرحلة التي قادته ليغدو رمزا خالدا في ذاكرة الأدب. ونجح مؤسسو المتحف، بإدارتهم الناجحة وتعاونهم الجماعي، في تحويل منزل صغير كان مجهولا تقريبا إلى معلم أدبي عالمي لا يقتصر على تذكير الناس بماضي شاعر وقاص، بل يقدم فرصة تعليمية وتأملية، ويلهم الزوار من مختلف الأعمار والثقافات.

 

يتجلى بو مبدعا في النثر والشعر، لم تثنه المعاناة والفقر والنقد عن ترسيخ عبقريته، بل شكلت ملامح الرحلة التي قادته ليغدو رمزا خالدا في ذاكرة الأدب

متحف بو ليس مجرد بناء يعرض أشياء تنتمي إلى ماضي حياة القاص والشاعر، بل رسالة ضد الموت تقول إن الحياة تستمر آخذة شكلا آخر، ربما عظمة لا تتجسد ماديا ولا تقاس بالشهرة، بل بتأثيرها الذي يتواصل بعد الموت. ولقد تمكن إدغار آلان بو، رغم ظروف حياته القاسية والتهميش الأدبي الذي تعرض له، من أن يحدث تأثيرا ملهما لا يمحى في الأدب العالمي، ويشكل متحف ريتشموند شاهدا حيا على هذا التأثير، وعلى قدرة الأدب الخلاق على ترك بصمة خالدة في سجل تاريخ الإنسانية.

font change