ربما هناك من يعتقد بأنه لم يعد ما يقال عن أصحاب الروايات الكلاسيكية، أكثر مما قيل سابقا، وربما يرسخ هذا الاعتقاد، في حالة الكاتبات. فهن الأسهل تصنيفا ضمن دائرة من خضعن إلى الاستبعاد أكثر، وتقليل الشأن، من دائرة نقاد الأدب الرجال، باستثناء ربما فرجينيا وولف. لكن المسلسل الإنكليزي القصير "الآنسة أوستن" الذي جاء في أربع حلقات، من إنتاج شبكة "بي بي سي"، ومن قبله الرواية الذائعة الصيت المأخوذ عنها السيناريو، قد يقولان العكس.
المسلسل الذي تصدت لتأليفه وإخراجه وتمثيله نساء، عن رواية جيل هورنبي، وسيناريو آندريا جيب، وإخراج آيشلينغ والش، يحكي حيوات مجموعة من الآنسات المنتميات إلى عائلة أوستن، أبرزهن الكاتبة الشهيرة جين أوستن، ممن فرضت عليهن حياة العزوبية، أو اخترنها، في زمن كان من الصعب تخيل تتمة لحياة النساء خارج إطار الزواج، وخارج حدود الانتماء إلى رجل ما، زوج أو أب. صحيح أن المثال الأقوى هنا، هي جين أوستن نفسها، إذ وعت مبكرا بهذه الديناميكية الاجتماعية القاصرة، وتمردت عليها بالكتابة والخيال، ثم لم تر لهذا التمرد، في حياتها، أثرا إيجابيا. إلا أن مسلسل "الآنسة أوستن" يحسن صنعا حين يقرر ألا ينحصر في جين بشهرتها أو نجوميتها اللاحقة على حياتها، فهو رهان فني وتجاري مضمون بلا ريب، ولعله حتى من قبيل اللا رهان. بل يذهب أبعد، باتخاذه من شقيقتها كاسندرا أوستن، الأقل شهرة في طبيعة الحال، بطلة رئيسة وحقيقية في هذه السيرة.. هي التي رعت موهبة جين حين لم يؤمن بها أحد، وهي التي قدمت التضحيات الكبرى، وفاء لأختها الكاتبة البصيرة القصيرة العمر. هي كذلك التي بقيت لتشهد على الحياة نفسها، كيف كانت مع شقيقتها، مع سيدات عائلتها، كما لم تتوان عن تقديم يد العون إلى إحداهن على الأقل لتجاوز المصير شبه المحتوم للنساء، إما الزواج وإما السقوط طي النسيان. وكما تقول كاسي (أدت دورها متقدمة في السن كيلي هاوز) في الحلقة الأخيرة: "علينا نحن النساء أن نحمل عبء ذاكرتنا، وأن نتناقلها جيلا بعد جيل، وإن لم نفعل فمن غيرنا يهتم؟".
نساء أوستن
ما سلف لا يعني أن "الآنسة أوستن" يتجاهل جين أوستن أو يهمشها، على العكس تبقى جين في السرد هي الشجرة التي أشعت لمحيطها، بكلماتها ومشاريع كتابتها. وشخصيتها هي القلب النابض للعمل، لا سيما مع طلاقة أداء الممثلة باتسي فيران لدورها، بعفويتها وتجسيدها براءة جين وصراحتها في مواجهة العالم، واختبارها امتزاج البلايا بالمعجزات في حياتها. والحال أن جين أوستن، كما يروي المسلسل سيرتها، لم تتسم هي نفسها بالنرجسية، ولم تتضمن علاقتها بكاسي شقيقتها، خيط منافسة، على النقيض مثلا من فرجينيا وولف وعلاقتها الملتبسة بشقيقتها فانيسا بيل، التي لا تزال إلى اليوم موضع تكهنات واحتمالات في الأعمال الأدبية والفنية التي تتناول سيرة حياتها.