نساء يواصلن صنع الفارق في الكتابة الدرامية

"الهرشة السابعة" و"كامل العدد" يفوزان بالرهان

نساء يواصلن صنع الفارق في الكتابة الدرامية

ثمة ميل عام ينسب الأعمال الدرامية إلى مُخرجيها أكثر من كتابها، بتأثير ربما من تيار سينما المؤلف حيث يكتب المُخرج عمله في أغلب الأحيان من دون الاستعانة بسيناريست، أو بذريعة الاتجاه الذي يرى في المخرج ربّان العمل الفني الأوحد، وهذه نظرة ربما لا تكون خاطئة كليا، لكنها تغفل عن حقيقة أن المسلسلات التي تُعرض على شاشات التلفزة أو عبر المنصات، كما في موسم رمضان هذا العام، قد صار ينهض تأليفها في الكثير من الأحيان على العمل الجماعي، وورش الكتابة التي يُديرها شخص بعينه يتصدر اسمه عناوين العمل، وتتراجع معه أسماء المؤلفين الآخرين.

على الرغم من الاعتراف التام بهذه الحقيقة وتلك، فإن كاتبة هذه السطور اختارت أن تتأمل نقديا عنصر التأليف في عملَين عُرضا في رمضان هذا العام، اتسما بالحد الأدنى من الجودة الفنية، والقدرة على منافسة أعمال من جنسيات أخرى معروضة على المنصات، لكنهما، وهذا هو الأهم، كانا من تأليف فريق من الكاتبات النساء.

اقرأ أيضا: الدراما السعودية والخليجية: روح الشباب والعصرنة

في وسع كاتبات الدراما أن يُقدمن شيئا نفيسا عن الواقع الذي نعيشه، أن يتركن بصمات حساسة على الورق، أن يحكين الحكايات من وجهة نظر الهشاشة، وليس من وجهة نظر القوة

بدايات واعدة

قبل سنوات، عام 2013، أحدثت كاتبة السيناريو مريم نعوم تغييرا في تلقي الدراما المصرية، عندما استلهمت رواية "ذات" للروائي صنع الله إبراهيم، في مسلسل "بنت اسمها ذات"،من إخراج كاملة أبو ذكري. لم يكن هذا الاستلهام سهلا، لأن "ذات" كما كتبها إبراهيم ربما كانت رمزا ومجازا أكثر منها شخصية حقيقية، فكستها نعوم بتفاصيل وملامح امرأة مصرية من نساء الطبقة المتوسطة. وبالمثل، صنعت من شخصية الزوج، ومن محيط "ذات" كله، بمشاركة المخرجة بالطبع، عالما واقعيا مألوفا استقبله المشاهدون آنذاك استقبالا حسنا، إذ وجدوا فيه شيئا حميما وموجعا، وفنا معبّرا عن الحياة الحقيقية.

أثّر هذا المسلسل على صناعة الدراما المصرية بعد ذلك، وأعطى أملا في أن تكون المسلسلات مجددا أكثر من مجرد "تمثيليات" بالمعنى السلبي للكلمة، بل أعمال حقيقية تدعو إلى التأمل والتفكير. لم يمرّ زمن طويل حتى ظهر إلى النور "سجن النساء"، عام 2014، المأخوذ عن عمل أدبي لفتحية العسال، نقلت بدورها بعض شخصياته من الواقع الذي عايشته بنفسها، كان السيناريو والحوار من تأليف مريم نعوم وهالة الزغندي وكان الإخراج أيضا لكاملة أبو ذكري.

استدعاء مسلسل "ذات" لا يعني أن الدراما المصرية كانت منقطعة الصلة بالواقع قبل ذلك، لكن ربما يكون المقصود بالضبط هو التساؤل عن مدى حضور المرأة في هذا الواقع الذي كانت تجسده المرأة، وعن الرؤية التي يُقدَّم من خلالها هذا الواقع، ولصالح أي وجهة نظر. يمكننا على سبيل المثل أن نتذكر المسلسل الشهير، "هو وهي"، من بطولة سعاد حسني وأحمد زكي، الذي يتحدث بفكاهة واستعراض عن علاقة الرجل بالمرأة من دون تقسيم الأدوار للعالم بين الثنائي إلى خير وشر، ولا يزال هذا العمل يُعرض إلى اليوم بنجاح على الشاشات على الرغم من أن تاريخ إنتاجه الأول يعود إلى العام 1985. كان العمل في الأصل من تأليف الكاتبة سناء البيسي، وكتب له السيناريو صلاح جاهين وأخرجه يحيى العلمي.

على المستوى العربي، تركت كاتبات الدراما بصمات لا تُنسى في ذاكرة المشاهدين العرب، فكان المسلسل السوري "الفصول الأربعة" في جزأيه من تأليف كاتبتين هما دلع الرحبي وريم حنا، ومن إخراج حاتم علي. هناك كان في وسعنا أن نجد صلة بين شخصيات العائلة في المسلسل وبين شخصيات عائلتنا نحن في الواقع. كذلك حقق مسلسل "مذكرات عائلة" من تأليف ريم حنا، تأثيرا مشابها، وقبل سنوات أقل بُعدا حصد "عصي الدمع" ببُعده النسوي نجاحا كبيرا، عربيا وليس سوريا فقط، وهو من تأليف دلع الرحبي. من المؤسف أنه في موسم رمضان هذا العام، تكاد تخلو قائمة المسلسلات السورية من اسم لمؤلفة امرأة، وإن كان هناك مُخرجات حاضرات مثل منال عمران ورشا شربتجي.

ما سلف يعني أنه كان دائما في وسع كاتبات الدراما إذا أمسكن بالقلم أن يُقدمن شيئا نفيسا عن الواقع الذي نعيشه، أن يتركن بصمات حساسة على الورق، أن يحكين الحكايات من وجهة نظر الهشاشة، وليس من وجهة نظر القوة، وهذا الاتجاه لا يحتمل حيوات النساء فقط، إنما يحتمل حيوات النساء والرجال معا.

بالتأكيد تطول قائمة الكاتبات العربيات اللواتي شاركن في كتابة الدراما التلفزيونية على المستوى العربي، ما سبق مجرد أمثلة. فالهدف من هذا المقال ليس حصر جهود المرأة ككاتبة دراما، وإن كان الواقع يقول إن الرجل ككاتب لا يزال مسيطرا على المشهد بأعماله ورؤيته للواقع. من جانب آخر لا يسعنا تجاهُل أن بعض كاتبات الدراما عملن وفقا للمنطق التجاري، الذي يغرد مع السرب لا خارجه، حيث لا يزال هناك رجل فِتّوة، أو عالم ينقسم بحدة بين الخير والشر، وعلاقات أفراد الأسرة ليست سوى ذريعة لخلق المزيد من الصراعات ونقاط التوتر، لأن ظروف الصناعة تشجع الكاتبات على العمل "في المضمون" أو وفقا للسياقات السائدة، أكثر مما تشجعهن على التعبير عن العالم من وجهة نظرهن، وهذا يعني أن كاتبات الدراما يحتجن أيضا إلى مناخ إنتاجي مُهيأ وإلى شركاء متفتحين ومغامرين من المخرجين.

في العودة إلى الوضع الحالي، شهد رمضان 2023 تلفزيونيا تقديم مسلسلين ناجحين، لا يتجاوز عدد حلقاتهما خمس عشرة حلقة، هما من تأليف حصري للنساء... العملان هما "الهرشة السابعة" و"كامل العدد".

تناول الأمهات في "الهرشة السابعة"، يعبر عن أزمات شريحة من النساء يطالبهن المجتمع عادة بالصبر غير المشروط، ولا ينظر إليهن سوى باعتبارهن شخصيات مساعدة للبطلات والأبطال

"الهرشة السابعة"... حديث الشهر!

لعله أحد أكثر الأعمال المصرية التي أثارت جدالا بالمعنى الإيجابي للكلمة، في النصف الأول من رمضان، ووراءه فريق كامل من الكاتبات. الفكرة والإشراف على الكتابة لمريم نعوم، ورئيسة فريق الكتابة دينا نجم، أما الحلقات نفسها فمن كتابة راجيه حسن وندى عزت، وشاركت في التطوير مريم سعد الدين، والمسلسل من إخراج كريم الشناوي.

أبطال مسلسل "الهرشة السابعة"

من الوهلة الأولى، لا يبدو أن "الهرشة" يقدم شيئا فريدا، إنما محض شخصيات عادية تحاول أن تبدأ علاقات زوجية، أو أن تُنهيها، أو أن تبدأها ثم تُنهيها لاحقا، بحثا عن احتمالات أفضل. هي شخصيات عادية إلى حدّ لا يمكننا معه أن نتهم إحداها بالشر مثلا أو سوء النية. تقدّم لنا كاتبات العمل شبه أعذار لمعظم سلوك الشخصيات، حتى تلك التي كان يمكن أن تُثير ريبتنا في البداية، سرعان ما تكتسب لطفا مع تطور الحلقات، ليعترف الأبطال بأنهم أساؤوا التصرف محاولين البحث عن حلول. وجهة النظر في العلاقات هذه، قد تبدو متفائلة، لأن الحياة ليست حكرا على حسني النية بالطبع، لكنها مع ذلك سمحت بتعمير مساحات درامية جديدة، منها مثلا المتعلق بشخصيات الأمهات. هنا إعادة اكتشاف طازجة لممثلات معروفات سلفا مثل عايدة رياض في دور هناء والدة نادين، وحنان سليمان في دور فيفي أو فاتن أم آدم. الأولى المحجبة المتحفظة تختار أن تواجه وحدتها، بالانفصال عن زوجها "عِشرة العُمر"، لأنها وحيدة على أي حال معه. الثانية تختار العكس، أن تتزوج وتبدأ حياة جديدة، بعد عمر طويل من الإيثار ومنح الآخرين، واحتفاظها بدورها في الرعاية النفسية للآخرين، وليس فقط بابنها وأحفادها، لكن أيضا بسلمى التي تظهر بلا عائلة وتكون هذه إحدى عقد شخصيتها طوال العمل. إن خيط الأمهات هذا، يمكن أن يصنع وحده عملا مستقلا، ويكون معبرا عن أزمات شريحة أخرى من النساء، اللواتي يطالبهن المجتمع عادة بالصبر غير المشروط، ولا ينظر إليهن سوى باعتبارهن شخصيات مساعدة للبطلات والأبطال، سواء في الدراما أو في الحياة. 

وعلى الرغم من الفلسفة الأمومية التي قاربت بها كاتبات العمل حكاياهن، تلقّى أفراد الجمهور من جانبهم الشخصيات بشكل مستقل أحيانا عن السياق الدرامي، فانحازوا أحيانا إلى طرف على حساب الآخر، لا سيما في العلاقة الأساسية بين نادين وآدم، وقد يكون شجّعهم على هذا أن بعض ملامح شخصية نادين السلبية كالرغبة في السيطرة (تلعب دورها أمينة خليل) غير واضحة الأسباب، وأن ذريعة الخلاف الجوهري بين الزوجين بدت أحيانا باهتة، مقارنة بذرائع الخلافات في العلاقات الأخرى بما في ذلك علاقات الجيل الأكبر سنا. لعلها تُركت هكذا بقصد أن تتحمل الشبه مع أي علاقة زوجية أخرى. يمكننا استنتاج هذا على الأقل من مشاهد المواجهات بين آدم ونادين، وفيها سمعنا معظم ما يتبادله المتزوجون من اتهامات في الأحوال المماثلة، بصرف النظر إن كانت هذه الحوارات تنطبق كلها على حالة نادين وآدم، أم لا. 

يستبعد مسلسل "كامل العدد" السيناريو الأسوأ، ويُقدم رؤية متفائلة للعالم، لا تستبعد التحديات، لكنها تراهن على الفرص الثانية والثالثة أحيانا للنساء، طالما أن الحياة لم تنتهِ، وهي فكرة تجادل أفكار المجتمع النمطية

"كامل العدد" الكوميديا أيضا يمكن أن تقول شيئا!

بدأ عرض "كامل العدد" قبل أيام من بداية موسم رمضان المبارك، على منصة "شاهد". هو من تأليف: يُسر طاهر (ابنة الروائي الراحل بهاء طاهر) ورنا أبو الريش، ومن إخراج خالد الحلفاوي. فكرته المستلهمة من فيلم مصري مستلهم بدوره من عمل أميركي، ليست جديدة، تدور حول قصة حب بين ليلى (تلعب دورها دينا الشربيني)، وأحمد (شريف سلامة)، ومن المفترض أن ليلى هي أم عزباء لأربعة أبناء في مراحل عُمرية مختلفة، وأن أحمد أرمل وأب لثلاثة أبناء يعيشون بعيدا عنه في الولايات المتحدة الأميركية، ولا نجتهد كثيرا حين نتوقع أن قصة الحب هذه ستُسفر عن زواج، هدفه الدرامي جمع الأبناء السبعة في بيت واحد، كما حدث في الفيلم الشهير "عالم عيال عيال"، وكما "يُغشّشنا" أفيش المسلسل.  

لكن العِبرة هنا ليست في النهايات، بل في الطريق الذي يقود إلى هذه النهايات، وهو طريق ليس طويلا وقد أحسن صُنّاعه التمهيد له من دون شبهة التطويل أو مطّ الأحداث. ثمة شيء مختلف في تكوين شخصية ليلى، وهو أنها لم تتخلّ، على الرغم من المهام المتراكمة عليها كأم، عن رومنسيتها وبحثها عن الحب، مع أنها تعرف أن هذا ليس المتوقع أو المطلوب منها. إنها إنسانة تعيش ببساطة وصدق. وكذلك شخصية أحمد، الذي يتمتع بروح مرحة تحب الحياة، ويحاول الاستمتاع بها على الرغم من وضعه المفترض أن يكون حزينا كأرمل. هذه السمات الرئيسية المسيطرة على الشخصيات، هي التي تحدّد الخط العام لعمل كوميدي خفيف.

اقرأ أيضا: دراما رمضان.. وجبات عاطفية قاتلة

يستبعد "كامل العدد" السيناريو الأسوأ، ويُقدّم هو الآخر رؤية متفائلة للعالم، لا تستبعد التحديات، لكنها تراهن على الفرص الثانية، والثالثة أحيانا (لأن هذه هي الزيجة الثالثة لليلى في المسلسل)، طالما أن الحياة لم تنتهِ، وهي فكرة تجادل أفكار المجتمع النمطية. بالإضافة إلى المواقف الكوميدية، المكتوبة بسلاسة، تولي الكاتبتان اهتماما حساسا بالشخصيات الجانبية، كخيط هند (تلعب دورها آية سماحة) وتتشارك المسؤولية المعنوية للأبناء مع صديقتها ليلى، ضمن علاقات النساء بالنساء، أو شخصية الشابة المتعلقة برجل يكبرها سنا (تلعب دورها جيهان الشماشرجي) وتواجه طوال الوقت شكوك صديقتيها في حسن نية هذا الرجل. هنا محاولة أخرى للتمرد بنعومة على الكليشيه، ففارق السن لا يعني أنها علاقة استغلال تامة، وإن كانت المراوحة تمنح المشاهدين دافعا آخر لمتابعته.

لقد أرانا صنّاع "كامل العدد" كيف يمكن للكوميديا أن تكون ذكية وممتعة وتجعلنا نعيد النظر في بعض ما نعتقد أنه مسلَّمات. أليست هذه إحدى فضائل صناعة الدراما علينا، أن تساعدنا على فهم أفضل لأنفسنا، وللآخرين والأخريات؟

font change

مقالات ذات صلة