دراما رمضان.. وجبات عاطفية قاتلة

دراما رمضان.. وجبات عاطفية قاتلة

لا أعتقد أن هناك منطقة في العالم، تطلق ما يصل إلى خمسين برنامجا ومسلسلا تلفزيونيا في يوم واحد، بل في فترة واحدة من اليوم، وهي فترة المساء، مثلما تفعل المنطقة العربية خلال شهر رمضان، أو ما بات يسمّى بلغة التلفزيون "موسم" رمضان.

هذه الكثافة الإنتاجية لا تعني، للمفارقة، طفرة إنتاجية ولا سوقا مزدهرة، بقدر ما تعني العكس تماما. عدم استقرار السوق العربي وضآلة حجمه النسبية، وانصراف المشاهدين العرب طوال العام إلى البرامج والمسلسلات الغربية، ولاسيما الأميركية منها، هي العناصر التي تجعل الإنتاج متركّزا خلال الشهر الوحيد الذي يضمن أعلى نسبة مشاهدة، وبالتالي أعلى الإيرادات الإعلانية، لأن معظم الجمهور المستهدف يكون جالسا في البيت خلال معظم أمسيات هذا الشهر الكريم دينيا ودراميا على حدّ سواء.

مفارقة أخرى هي أن هذه الإنتاجات مجتمعة، من برامج ومسلسلات مصرية وسورية ولبنانية وخليجية ومغاربية، لا يتجاوز حجمها الفعلي بحسب بعض التقديرات عتبة الـ 300 مليون دولار في أفضل الأحوال، فإذا ما قارنا هذا الرقم مع ميزانية الموسم الأول من مسلسل "سيد الخواتم" على "أمازون" والتي بلغت مليار دولار، أو آخر فيلم تنتجه "نتفليكس" وهو "الرجل الرمادي" بمبلغ 200 مليون دولار، أو بأجور النجوم الخمسة الرئيسيين فقط في مسلسل "توريث" الذي تنتجه "إتش بي أو" ويبث حاليا موسمه الرابع والأخير، وهو نحو 15 مليون دولار (دون الأكلاف الإنتاجية الأخرى)، لبدا مبلغ 300 مليون دولار هزيلا بالفعل.

يبقى السوق العربي محصورا بجمهوره، ومحصورا أكثر، إلا في استثناءات قليلة، بأن يتركّز بهذه الصورة السريالية، إنما الفعالة وإلا ما كانت لتستمر، خلال شهر واحد فقط هو شهر رمضان

العرب لا يشكلون من الناحية السوقية رقما صعبا حتى في نتاج تلك المنصات الكبرى المذكورة، سواء من حيث الإنتاج الموجّه للمنطقة العربية والذي لا يزال شديد التواضع (تجربة نتفليكس على سبيل المثال لم تحقق الطفرة المنتظرة حتى الآن)، أو من حيث القدرة على فرض أيّ اتجاه أو ضغط على تلك المنصات لعرض أو التراجع عن عرض أيّ برنامج أو مسلسل. يبقى السوق العربي إذن محصورا بجمهوره، ومحصورا أكثر، إلا في استثناءات قليلة، بأن يتركّز بهذه الصورة السريالية، إنما الفعالة وإلا ما كانت لتستمر، خلال شهر واحد فقط.

المفارقة الثانية هي أن هذا الإنتاج، في الجانب الدرامي منه تحديدا، لم يكن مرة من المرات مقتصرا على الجانب الترفيهي والفني، مثلما يجب أن يكون. هناك دائما هوامش سياسية وأيديولوجية واجتماعية ودينية، تحكم هذه الحركة الإنتاجية وتتحكم بانتشار بعض الأعمال وبروزها أو خفوت بعضها الآخر. هذا العام لنا شواهد في معارك صغيرة ساحتها الأساسية التواصل الاجتماعي حول مسلسلات مثل "معاوية" و"الفلوجة" و"ابتسم أيها الجنرال" و"رسالة الإمام" و"النار بالنار" وغيرها.

مسلسلات تُحمّل غالبا أكثر مما تحتمل من تأويلات وسجالات، لا تبدو تعبيرا عن حيوية فكرية وتداول حرّ للأفكار، بقدر ما هي انعكاس لانسداد آفاق الكلام، في منطقة عصفت بها تحولات واقعية تتجاوز خيال أكثر الأعمال الدرامية جنوحا، فبقيت المسلسلات ومواقع التواصل الاجتماعي، شوارع خلفية أو أزقة جانبية للتنفيس عن المكبوتات الشتى التي يعجز الناس عن معالجتها أو حتى فهمها، أو ربما لا يرغبون (في حالة السجالات الدينية والطائفية) على أرض الواقع.

تُحمّل المسلسلات غالبا أكثر مما تحتمل من تأويلات وسجالات، لا تبدو تعبيرا عن حيوية فكرية وتداول حرّ للأفكار، بقدر ما هي انعكاس لانسداد آفاق الكلام، في منطقة عصفت بها تحولات واقعية تتجاوز خيال أكثر الأعمال الدرامية جنوحا

لا يبقى أمام الدراما العربية، في سعيها إلى التفاعل مع الواقع، وهو تفاعل يبقى برّانيا في أفضل أحواله، سوى أن تعلي إلى الحدّ الأقصى كلّ لقاء يجمع شخصيتين أو أكثر، أيا يكن موضوع هذا اللقاء أو خلفيته. في الغالب لا نجد (إلا في حالات استثنائية قليلة) الحبكة الذكية، ولا النمو الدرامي الهادئ ببنائه ومراميه، بقدر ما نجد ذلك السعي الحثيث للقبض على عواطف المشاهدين. هناك تنافس مرهق بين الممثلين (الذين يحملون على أكتافهم عبء النهوض بالمسلسلات أكثر مما باتت تفعل الكتابة أو المعالجة الإخراجية والفنية)، على تلك اللحظات "العالية" إلى درجة أنها – تلك اللحظات – تفقد معناها ووقعها الدراميين. لا وجود في الدراما العربية تقريبا لما نراه في الدراما الغربية، الأميركية على وجه الخصوص (وهي المرجعية الأساس نظريا لكل الدراما العربية)، من أداءات تلعب على الخفيّ والداخلي واللامباشر واللامحسوس والبارد من أفكار ومشاعر، فلا يجد الممثلون، وكثر منهم محترفون جدا، بدا من جلد المتفرّج بأقصى طاقة شعورية ممكنة، حتى تتحول مشاهدة حلقة واحدة من مسلسل درامي عربي إلى تجربة مؤلمة مع الصبر والاحتمال، لا مع متعة المشاهدة، مثلما يفترض بالحال أن يكون.

هكذا ترتسم صورة المائدة الدرامية الرمضانية المتخمة، مليئة بسعرات المشاعر الحرارية ودهون الانفعالات القصوى وكاربوهيدرات التشخيص النمطي الجاهز، إلى درجة أنه حتى البرامج والمسلسلات التي يفترض أن تكون كوميدية، تمارس الاضطهاد نفسه على المشاهد، الذي لا يبقى أمامه، بعد تجفيفه عاطفيا مساء كل يوم، سوى أن يعد نفسه بيوم طويل آخر من الصيام عن الطعام والمشاعر معا.

font change