الناشر العربي، في الغالب الأعم، ومع استثناءات قليلة، هو في حدّ ذاته أحد أوجه مأزق النشر في المنطقة العربية، إن لم يكن الوجه الوحيد لهذا المأزق.
هناك أولا، الناشر الراسخ، ذاك الذي مضت سنوات أو عقود على امتهانه النشر. وهناك ثانيا الناشر الحكومي أو الرسمي، المدعوم من الدولة، وهناك الناشر المستجد ويشمل الطامحين إلى احتلال مكان في دنيا النشر، وتشمل هذه الفئة الكتاب والمثقفين الذين بلغ تبرّمهم من دور النشر الراسخة، حدّا يجعله يخوض المغامرة بنفسه، وأيضا قلة من أصحاب الحسابات التجارية الذين يرون في النشر فرصة سانحة.
المشترك غالبا بين ناشر وآخر، أيا يكن موقعه ومكانته ومنطلقاته وأسبابه، وجودة ما ينشر من عدمها، هو السرية التامة. فالجميع تقريبا لا يفصحون عن أرقام مبيعاتهم، لا للكتاب أنفسهم، ولا للجمهور، ولا للمؤسسات المختصة التي تبني استنتاجات وترسم ملامح اتجاهات بناء على تلك الأرقام.
ليس التهرّب من الضرائب وحده سبب هذا التعتيم، كما يتبادر بداهة إلى الذهن. فالأنظمة الضريبية، حيث وجدت وطبقت، لا تبالي بما يعلنه الناشر أو لا يعلنه، ولديها آليات تحقق وتثبّت واضحة، كما أن قطاع النشر يتمتع بإعفاءات ضريبية تكاد تصل حدّ الصفر في بعض البلدان. السبب الأقلّ شأنا، والأكثر شيوعا، هو التهرّب من الكاتب نفسه، وفي حالة الكتب المترجمة، التهرب من المترجم ومن الجهة الأجنبية المانحة لحقوق الترجمة.
فالناشر العربي يؤدّي دوما دور الضحية. فهو دائما يخسر. وهو دائما يعاني ويصارع للاستمرار في عمله. ودائما يشكو تكدس الكتب لديه، كما يشكو غلاء أسعار كل شيء متعلق بعملية النشر، بما في ذلك الشحن والتوزيع. وبالتالي، يشعر الكاتب، لاسيما إن كان شاعرا، بأن الناشر يتفضّل عليه ويضحي في سبيله، إن هو قرّر نشر ديوانه. بل يصبح الناشر بطلا استثنائيا، إن قرّر أن يتكبّد كلفة الشحن ليحمل معه إصداراته الشعرية إلى معارض الكتب. هذا إذا استثنينا دور النشر، وما أكثرها، التي تطالب الشاعر، بـ"المساهمة" في تحمّل كلفة النشر، أي بعبارة أصرح "النشر على حسابه الشخصي".
حالة الإنكار هذه، إنكار البيع والربح، لا تنبع من خوف الناشر من العين والحسد، بل هي باتت منهجية عمل كأنها مفردة من مفردات عالم النشر، وأداة من أدوات النجاح فيه. وبات الناشرون يكرّرون مظالمهم بصورة آلية وتلقائية، كأنها حجج لا تناقش ولا تُردّ. أما حين يُسألون عن سبب استمرارهم في هذا "البيزنس" الخاسر والمضني، فإنهم يردونه إلى إيمانهم العميق بالثقافة وسعيهم الحثيث لخدمتها.
أما من يراقب عالم القراءة العربي، فسيجد واقعا مغايرا تماما لكلّ هذا الواقع الذي يحاول الناشرون تعميم صورته الزائفة. سيجد أن الكتاب، ورقيا أم إلكترونيا أم مسموعا، لا يزال يحظى بانتشار كبير، خصوصا بين فئة الشباب. سيجد عبر التواصل الاجتماعي، احتفاء دائما بجديد الكتب، ونقاشات، وأندية مكرسة لمختلف أنواع الإصدارات. صحيح، أنه يصعب تخيّل كتاب يبيع عشرات آلاف النسخ، كما الحال في الغرب، إلا أنه قياسا بما يطبعه الناشر العربي، والذي لا يتجاوز في أفضل الأحوال، وبين أكثر دور النشر شهرة وانتشارا، الألفي نسخة، يصعب أيضا تخيّل أن هذه الكتب تتكدّس بالفعل في المخازن ولا تجد من يشتريها.
المشترك غالبا بين ناشر وآخر، أيا يكن موقعه ومكانته ومنطلقاته وأسبابه، وجودة ما ينشر من عدمها، هو السرية التامة.
الضرر الذي يلحقه هؤلاء، ليس بحركة النشر وحدها، إنما بالبيئة الثقافية والإبداعية برمتها، ضرر بالغ جدا. فهم بداية مسؤولون عن الفكرة الخاطئة بأن العربي لا يقرأ، وهو استنتاج لا تؤيده أرقام ولا إحصاءات، رغم سهولة تحديدها في زمننا هذا. وهم مسؤولون عن حال الإحباط شبه المزمنة في بيئة النشر العربية، بحيث لم يعد الكاتب الذي يرغب في قياس مدى نجاح عمله، يعتمد على عدد القراء، بقدر ما يعتمد على المقالات التي يكتبها أصدقاؤه عن كتابه، والحالة القصوى طبعا تتمثل في أن يمنح كتابه جائزة ما، أو يُمنع هذا الكتاب لأي سبب من الأسباب، فيصبح حديث الأوساط الثقافية لبعض الوقت.
لم يعد القارئ إذن يدخل في حسبان الكاتب، لأنه يحسب ببساطة أنه غير موجود، لأن الناشر أقنعه بذلك. وبالتالي فإنه يجد نفسه أمام خيارين، إما مواصلة الكتابة لأنه معتاد عليها، ولأنها تحقق له بعض الرضا المعنوي، وإما التوقف عن الكتابة لأنه لا يستطيع رصد العنصر الثاني الأهم في عملية الكتابة، وهو تلقيها. أي إنه باختصار يكتب في الظلام، ولا يملك من بوصلة سوى ما تخبره به ذاته، والمحيطون به، عن قيمة ما يكتبه.
وأمام واقع كهذا، يصعب حقا أن نتصوّر شابا أو شابة، يقبلان على الكتابة بوصفها مستقبلا مهنيا أو مشروعا مستداما. قد نجد من يراهن على الفنون البصرية، أو على الصحافة بمختلف أجناسها، لكننا لن نجد شابا يقرّر أن تكون الكتابة مهنته، لأن ذلك يعني البطالة بالنسبة إليه وإلى المجتمع. فتجد دائما الكتابة وشيئا آخر يدعمها. الكتابة والصحافة. الكتابة والهندسة. الكتابة والطب... إلخ. وكأنه صار أمرا بديهيا أن الكاتب لا يستطيع أن يعيش من مهنته.
قد يقول قائل إن هذا حال الكتاب في العالم بأسره. لكن هذا غير صحيح تماما. قد لا يبلغ جميع الكتاب مرحلة الثراء والبحبوحة، لكن هناك آلاف الكتاب الذين يعيشون فعلا، بصورة مقبولة، من كتاباتهم، سواء عبر نسب أرباحهم من بيع كتبهم، أو عبر عوائد ترجمات تلك الكتب، أو عبر الأمسيات والأنشطة المدفوعة التي يشاركون بها. وحتى حين يعملون عملا آخر، فإنه يكون قريبا من الإبداع، كأن يعملوا في الحقل الأكاديمي أو أن يشاركوا في إدارة دورات الكتابة. ولعلها مفارقة أن الكثير من الكتاب العرب لا يحصّلون فلسا من كتبهم التي تطبع بالعربية، إلا إن كانت محظوظة وترجمت، حيث يبادر الناشر الأجنبي إلى دفع مكافأة للكاتب لقاء قبوله ترجمة كتابه إلى لغته.
الضرر الذي يلحقه هؤلاء، ليس بحركة النشر وحدها، إنما بالبيئة الثقافية والإبداعية برمتها، ضرر بالغ جدا. فهم بداية مسؤولون عن الفكرة الخاطئة بأن العربي لا يقرأ
تدارك الضرر الهائل الذي يلحقه الناشر-التاجر بالثقافة العربية، لا يكون إلا بقوانين صارمة، وبمقاربة مختلفة لا تتعامل مع النشر بوصفه عاجزا باستمرار، ومحتاجا إلى الدعم دائما، بل بوصفه مهنة لها أصولها ومتطلباتها وأخلاقياتها، وأيضا عوائدها. أما إن كان هناك دور نشر حكومية، أو دور نشر صغيرة، ترغب في دخول قطاع النشر، بهدف دعم الإبداع الفريد فقط، لا الربح ولا الانتشار، فإن هذا لا يجب أن يلغي حقوق الكاتب الذي يعدّ الطرف الحقيقي في عملية النشر، لأنه صاحب المحتوى الذي يراكم الناشرون العرب ثرواتهم من تعبه، دون حدّ أدنى من الاعتراف بفضله. أما الأمر الآخر الملحّ، وإن كان شبه مستحيل تحقيقه، فهو أن يؤسس الكتاب العرب هيئات حقوقية (بعيدا من اتحادات الكتاب التي أثبتت فشلها)، تكون صوتهم أمام الحكومات، وأمام الناشرين على حدّ سواء، والذين للمفارقة لديهم اتحاد يحمي حقوقهم، دون أدنى ضغط عليهم للإيفاء بواجباتهم.