مسألة تشارلي كيرك

مسألة تشارلي كيرك

استمع إلى المقال دقيقة

مسألة تشارلي كيرك ليست حقا مسألة تشارلي كيرك. كل طرف ينظر إلى واقعة اغتياله انطلاقا من زاويته ومصالحه وأيديولوجيته. التيار المسيحي الأبيض ينظر إليه بوصفه نموذج "المسيحي الصالح" و"الوطني" أو "الأميركي الأصيل"، والآن يعتبره "بطلا" و"شهيدا". الأقليات العرقية والجنسية تنظر إليه بوصفه "محرضا" ومؤججا لخطاب الكراهية وبوقا لـ"التفوق الأبيض" والترمبية. دعاة تقنين السلاح يعتبرونه خادما لمصالح المجمع الصناعي العسكري، وبالتالي اعتبروا أنه بمقتله شرب من الكأس التي لطالما روج لها.

بالنسبة إلى العرب والمسلمين هناك بالطبع قضية حرب غزة ودعم كيرك لإسرائيل، فضلا عن موقفه المعادي للمهاجرين عموما، وهناك طبعا موقفه من الإسلام، إذ ما فتئ يكرر أن الشريعة الإسلامية لا تتماشى ومبادئ الديمقراطية والحداثة الغربية وينشر فكرة أن الغرب هو في حالة حرب مع التمدد الإسلامي في مجتمعاته.

مسألة تشارلي كيرك هي كل هذه المسائل مجتمعة، فهو الوجه الإعلامي والخطابي الأكثر تعبيرا عن الترمبية وعن المسيحية اليمينية التي تحكم الولايات المتحدة اليوم. وهو وجه محبوب بالفعل. فضلا، عن شبابه ووسامته، هو رجل عائلي، يصور على أنه زوج وأب مخلص، يمثل صورة العائلة الأميركية النموذجية، لم تعرف عنه فضائح أخلاقية، ولم يشر إليه في قضايا فساد، والأهم من هذا كله أنه رجل محاور.

تكفي متابعة مقاطع الفيديو المنتشرة له على الإنترنت، بما في ذلك كلامه مع حشد جامعي في يوتاه حيث اغتيل، لنرى هذه الصفة الفريدة فيه. صحيح أننا نجده في بعض المقاطع يخرج عن طوره وينفجر غاضبا في محدثه أو مهددا له، لكنه بصورة عامة يظل منضبطا، مستعدا لمناظرة مخالفيه في الرأي، محافظا على أعصابه، مبتسما، حتى حين توجه له إهانات مباشرة.

 المسألة ليست تشارلي كيرك، بقدر ما هي مسألة هذا الجمهور الآخذ في الاتساع. فالمواجهة هنا ليست مع شخص ولا حتى حزب بل مع تيار شعبوي فكري ثقافي كامل


استراتيجية إعلامية ذكية، لا تنطلق بالضرورة من احترام رأي الآخر، ولا الاستعداد لإيجاد منطقة وسطى معه، بل إنها في كل مرة تنطلق من قاعدة بسيطة: دع الآخر يتكلم وسوف يخطئ (من وجهة نظره) في نهاية الأمر، وأيا كانت الحجج التي سيسوقها، فإنها تصب في النهاية في مصلحة كيرك وأفكاره. كثير من مقاطع الفيديو تبدو "ممسرحة" سلفا، مثل مقطع فيديو يحاور فيه طالبا يدرس الآداب الإنكليزية منذ أربع سنوات، وحين يسأله كيرك عن رواية جاين أوستن المفضلة لديه، يجيب الطالب بأنه لا يعرف من تكون أوستن. لا تحتاج إلى أن تكون طالب آداب إنكليزية لتعرف أوستن، فهي ثقافة شائعة لدى الجمهور الأعم، لكن الرسالة المراد إيصالها من خلال هذه المسرحية هو أن الجامعات "الليبرالية" (التي يكرهها ترمب وتكرهه) ليست حقا أماكن لتحصيل العلم الحقيقي بل الأيديولوجيات الفاسدة وعلى رأسها الليبرالية. بعد القبض على المتهم بقتل كيرك، وحين تبين أنه شاب أبيض في الثانية والعشرين من عمره، انتشرت على التواصل الاجتماعي اتهامات للجامعات بالتحريض على مقتل كيرك، بما أنه "تعلم الليبرالية والكراهية وتغسل أدمغة الشباب".

بصرف النظر عن ذلك كله، ودون إهمال حقيقة أن تشارلي كيرك هو أحد وجوه آلة إعلامية عملاقة وتيارات ومصالح أيديولوجية ودينية ومالية تستثمر الكثير في أمثاله، إلا أنه لا يمكن أيضا إهمال أن الرجل له ملايين المتابعين المخلصين المؤمنين بأفكاره والمتبنين لتوجهاته. لذا، مجددا، المسألة ليست تشارلي كيرك، بقدر ما هي مسألة هذا الجمهور الآخذ في الاتساع. فالمواجهة هنا ليست مع شخص ولا حتى حزب بل مع تيار شعبوي فكري ثقافي كامل، وكم من مرة ذكر كيرك في معرض حججه ضد المهاجرين والإسلام مسألة اللغة التي يجب أن تكون، بالنسبة إليه، واحدة متناغمة صافية، فلا حضارة بحسبه دون هذا الصفاء اللغوي.

هذا الدفاع المستميت عن الصفاء الثقافي وعن "نمط الحياة الأميركية"، هو ما يسهل تفسيره على أنه نزعة فاشية، تلك التي يلصقها خصومه به، فإذا ما أضفنا إلى ذلك موقفه مثلا من السود، بوصفهم مجرمين بالولادة، مفككين عائليا، سلالة عبيد جلبت من الخارج، وموقفه من الإسلام بوصفه مضادا للقيم الحضارية، لفهمنا حجم الجدال الذي تثيره شخصيته في المجتمع الأميركي، وأوسع من ذلك في المجتمعات الأوروبية أيضا. حيث يجد نموذج كيرك ما يماثله في الخطاب والأيديولوجيا.

تشارلي كيرك كان رجلا متكلما ومناظرا، ومواجهته يجب أن تكون الكلام والمناظرة وبناء الحجج الذكية المقنعة، أما محاججته بالرصاص فهي نقطة تسجل في صالح أيديولوجيته


يحيي نموذج تشارلي كيرك مفهوم "صراع الحضارات"، إذ يعتبر أن الفروقات الثقافية والدينية والإثنية، هي العامل الرئيس في تأجيج الصراعات والحروب، يضاف إليه عند الترمبيين النزعة القومية والمصالح الاقتصادية الوطنية، إلا أن ظاهرته وأمثاله في العالم الغربي، باتت تتطلب أكثر من مجرد اللامبالاة أو إدانة المواقف العنصرية، إذ تذكر بالعمل الشاق الذي بات ضروريا أكثر من أي وقت، لمواجهة الحجج التبسيطية التي يسوقها هؤلاء لبناء الكراهيات والاستقطابات الحادة، وذلك انطلاقا من أنها ليست ظاهرة معزولة ضيقة، بل هي التيار الأوسع والأعمق تأثيرا في زمننا، ففي نهاية المطاف تشارلي كيرك كان رجلا متكلما ومناظرا، ومواجهته يجب أن تكون الكلام والمناظرة وبناء الحجج الذكية المقنعة، أما محاججته بالرصاص فهي نقطة تسجل في صالح أيديولوجيته، إذ كما علق كثر من مناصريه على التواصل الاجتماعي: "لحظة قتل تشارلي كيرك، ولد مليون تشارلي كيرك آخر".

font change