لم يعد دور الفنان (والرياضي) في الوقت الراهن، مقتصرا على ما يقدّمه من عمل. ربما لم يكن كذلك يوما، أقله في أنحاء كثيرة من العالم، إلا أن رسوخ وسائل التواصل الاجتماعي في حياة الناس، واضطرار الفنان إلى أن يكون له حضور على هذه الوسائل، بات يحتّم عليه إبداء موقف من القضايا التي ربما لا تشغله على مستوى شخصي مباشر، إلا أنه يعلم علم اليقين أنها تشغل جزءا كبيرا من جمهوره. عند الشباب تحديدا، باتت متابعة نتاج فنان ما، ترتبط ارتباطا عضويا بمواقفه من مسائل عامة وحيوية، سواء اجتماعية أو سياسية أو جندرية أو أخلاقية، وهو ما أدركه الفنانون ومكاتب إدارة صورتهم في الإعلام، فصاروا يحرصون على تلبية هذا الجانب.
في مسألة الإبادة في غزة، يصعب حصر جميع أسماء الفنانين والمثقفين والرياضيين الغربيين، الذين وقفوا بغالبيتهم ضدّ الحرب والإبادة، وقلة قليلة وقفت إلى جانب مرتكبي الإبادة، وهو ما يدلّ على حجم حضور هذه المسألة لدى الشباب في وقتنا الراهن. صار يمكن أن تسمع شابا يقول إنه لا يريد حضور حفل موسيقي أو فيلم أو عمل مسرحي أو تلفزيوني، لأن أحد العاملين فيه يؤيد إسرائيل، أو لسبب أكثر دلالة، وهو أن ذلك الفنان لم يبد موقفا واضحا من مسألة الإبادة. مع مرور أشهر الحرب، والكلفة البشرية التي لا تطاق لها، صار التخفّي وراء موقف إنساني عام يطالب بـ"وقف الحرب وإطلاق سراح الرهائن"، على ما نرى في مواقف حكومات وسياسيين، مدعاة شجب من قبل الشباب، لأن المسألة انتقلت في الوعي العام من كونها حربا بين طرفين، كما دأبت الدعاية الإسرائيلية على تصويره، إلى كونها إبادة يشنها طرف ضد الطرف الآخر. الوقوف في المنتصف هو فعليا وقوف إلى جانب رواية الطرف المعتدي الذي ينكر الإبادة ويفضل رواية الحرب المتكافئة.
هذا الوعي يمكن وصفه بالجديد. تجاوزنا مرحلة المناصرة والتأييد والشجب والإدانة، على أسس إنسانية عامة، إلى مرحلة الفرز الواضح بين من يعترف بالإبادة ومن ينكرها. انطلاقا من هنا يتحدد كل شيء. الصمت لم يعد خيارا لأنه يعني ميل كفّة صاحبه إلى الإنكار أو حساباته السياسية والمصلحية التي تدفعه إلى هذا الإنكار. المحكمة الأخلاقية تمتلك المعايير والأدوات للحكم على كلّ موقف. وللمفارقة، فإن ذلك كله سببه التربية الغربية (الأوروبية خصوصا) الراسخة طوال عقود حول "الهولوكوست"، حيث صار إنكار "الهولوكوست"، أو حتى مناقشة أرقام الضحايا، محرّما ثقافيا وأخلاقيا وسياسيا وقانونيا. هناك جيل نشأ على فكرة أن "الهولوكوست" لا تناقش، خشية الوقوع في شبهة الإنكار.
الوقوف في المنتصف هو فعليا وقوف إلى جانب رواية الطرف المعتدي الذي ينكر الإبادة ويفضل رواية الحرب المتكافئة
أمر مماثل بدأ يتشكّل حول الإبادة في غزة، حيث صرنا نرى فنانين، لم نكن نتوقع رؤية بعضهم، يبادرون إلى ذكر الإبادة في غزة باسمها، آخرهم قبل أيام الفنانة الأميركية الشابة جنيفر لورنس التي لم يعرف عنها في السابق مواقف سياسية أو أيديولوجية. هؤلاء ينطلقون من الشعور الملحّ بضرورة فعل كلّ شيء لمحاولة وقف الإبادة، والتعبير عن غضبهم مما يحدث، والأهم أنهم ينطلقون من درس "الهولوكوست"، حيث يجلّل بالخزي والعار كل من دعم إبادة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، أو أنكر وقوعها بعد ذلك. رأينا كتابا مرموقين، بعضهم حائز على جائزة نوبل، يوصم بأنه كان في يوم من الأيام، ولو قبل زمن الهيمنة التامة للنازية، مشاركا في أي مؤسسة أو جمعية لها علاقة بالنازية.
في أثناء ذلك، وبينما يشهد العالم هذا الوعي الجارف الذي تجاوز المشاركة في المظاهرات والتوقيع على العرائض، إلى اتخاذ مواقف صريحة يعرف أصحابها من الفنانين والإعلاميين والرياضيين والكتاب والمثقفين، أنهم قد يدفعون ثمنها راهنا ومستقبلا. وبينما يشهد العالم الغربي تحديدا هذا الوعي، تشهد المنطقة العربية برمتها صمتا شبه مطبق. غالبية المطربين والممثلين والرياضيين العرب، لا يذكرون الإبادة بكلمة، ويواصلون حياتهم المهنية كأن شيئا رهيبا لا يحدث في محيطهم القريب. يصعب فعلا فهم هذه المفارقة، لاسيما إذا ما قارناها مع سنوات الانتفاضتين الأولى والثانية في فلسطين، حيث كنا نرى الفعاليات والنتاجات الفنية وحملات جمع التبرعات تكاد لا تتوقف.
بعضهم لا يريد أن تلحق به وصمة "السياسة". بعضهم يرى أن جمهوره غير مهتم بالفعل ولا يطالبه باتخاذ موقف. بعضهم يعتقد أنه بذلك يلتزم بتوجهات رسمية (علما أن جميع الحكومات العربية تقريبا أعلنت موقفا واضحا من الإبادة). تتعدّد الأسباب، لكنّ الأرجح أن الأمر يتجاوز ذلك إلى ما هو أعمق، إلى علاقة الفنان والمثقف في العالم العربي بالشأن العام، وهي علاقة ملتبسة إذ لا تحكمها معايير أخلاقية واضحة، بقدر ما تنطلق من محددات أيديولوجية وانحيازات سياسية وأجندات مصلحية. رأينا مثلا حجم النتاج الفني في زمن الناصرية والبعثية، والذي كان مدفوعا من ضغط مباشر وغير مباشر تمارسه المؤسسات الحاكمة. عند قلة كان الأمر خيارا ذاتيا، لكن عند الأغلبية كان الأمر استجابة لما يعتقد الفنان أو المثقف أو الإعلامي أو الرياضي، أنه مطلوب منه في هذه المرحلة أو تلك. الفنان العربي اليوم يعتقد أنه مطلوب منه الابتعاد عن السياسة، فيفعل ذلك دون نقاش.
سبب آخر ربما كان متعلقا بما شهدته المنطقة العربية، أقله منذ بداية الألف الثالث، من عنف دمويّ غير مسبوق. مئات الآلاف قتلوا وشردوا في أكثر من بلد عربي. مشاهد القتل والدمار لم تعد صادمة. بدت الإبادة في غزة استكمالا لمشهد الموت الزاحف والمستفحل هنا وهناك. يكفي نموذج العراق منذ الاحتلال الأميركي ثم سوريا واليمن منذ 2011. بعض الفنانين يجد أن دوره يقف عند توفير نوع من البهجة وسط كلّ هذا الحزن. نظرة يراها كثر قاصرة وغير مبررة، لكن هذا لا يعني أنها غير موجودة.
كل هذا الصمت، هو عارض يدل على الأمراض المستفحلة في النسيج الاجتماعي والثقافي والهويّاتي العربي، وليس المرض في حدّ ذاته
في منطقة اعتادت، طوال عقود، أن يكون القتل والقمع والدمار جزءا من مشهد الحياة العامة، واعتادت أن كلفة المواقف أحيانا قد تكون التهلكة، وليس فقط خسارة بعض المعجبين والمتابعين، وعلى أن السياسة مشبوهة في أفضل الأحوال ومؤذية في أسوئها، ولم تحصل شعوبها على وعي متراكم يعينها على تحديد بوصلة أخلاقية واضحة، لا يبدو مستغربا تماما كل هذا الصمت، فهو عارض يدل على الأمراض المستفحلة في النسيج الاجتماعي والثقافي والهوياتي العربي، وليس المرض في حد ذاته.