لا تخجلوا من الذكاء الاصطناعي

لا تخجلوا من الذكاء الاصطناعي

استمع إلى المقال دقيقة

غالبا ما يسارع الكتاب والفنانون، إذ يطرح عليهم سؤال الذكاء الاصطناعي، وتأثيرهم على صنعتهم أو فنهم، إلى إنكار علاقتهم به، إنكارا يشبه دفع تهمة، أو التبرؤ من نقيصة. هذان الإنكار والتبرؤ مفهوما المصدر. فالسؤال الأول الذي يطرح على كلّ مبدع، ويطرحه هو على نفسه أولا قبل الآخرين، هو سؤال الأصالة: هل ما أكتبه أو أنجزه فنيا يتمتع بما يرقى إلى أن يكون فنا في المقام الأول، هل أفلحت في خلق صوتي الخاص، وهل نجحت ذاتي الإبداعية في إظهار نفسها، نقية صافية، خالية من شوائب التأثر والتقليد؟

سؤال مشروع، بل ضروري، إذ من دون إلحاحه على المبدع، حتى في أثناء خلق العمل الفني، كتابة أو لوحة أو فيلما أو قطعة موسيقية أو حتى ترجمة، يخشى المبدع أن يجد نفسه يجذف دون وعي منه بين أمواج التأثر العاتية، فيخرج نصه أو عمله الفني واهنا، صورة باهتة عن إبداع سبقه إليه سواه. لذلك، ترى المبدع يميل غالبا إلى إرجاع سرّ إبداعه عملا ما، إلى ذاته حصرا، دون العوامل الخارجية، الموضوعية، بما فيها إبداعات الآخرين، التي قد تكون دخلت بوعيه أو دون وعيه في نسيج العمل.

في العالم العربي تحديدا، يتم التعامل مع التقنية عموما، وخصوصا مع الإنترنت الذي جعل المعلومات شائعة رهن ضغطة زر أو كلمات بحث، بشيء من الارتياب. فإذا أردت، على سبيل المثال، أن تقلّل من شأن مقال قلت إن مصدره هو "غوغل"، أي الإنترنت عموما، وإذا أردت أن تشكك في معلومة، قلت إن مصدرها هو هذا الفضاء الإلكتروني. وهذا القلق أو الارتياب بالطبع ليس دون سبب. فكم من معلومة خاطئة يحفل بها العالم الافتراضي، وكم من اقتباس ينتحل، وكم من رقم إحصائي يسهل ردّه إلى أهواء سياسية أو أيديولوجية.

إلا أن هذا لا تتحمل وزره التقنية نفسها، بقدر ما طرق استخدامها المسيئة، وما ظهور الأدوات، التقنية أيضا، التي تفحص دقة معلومة أو منشور أو رقم، إلا نتيجة من نتائج هذا الفيض المعلوماتي الضخم، والذي استدعى الفحص والغربلة والتدقيق. ويبدو ملحوظا أن ما تطلب سنوات لتدارك هذه الثغرات في محركات البحث، تمّ بسرعة هائلة نسبيا في ما يخص الذكاء الاصطناعي تحديدا، ومع ذلك، ومهما تطورت تلك الأدوات، فسيظلّ سؤال الأصالة مطروحا، وستدعو الحاجة أكثر فأكثر، مع تطور برامج الذكاء الاصطناعي نفسها، إلى خلق أدوات موازية تساعد على التمييز بين الزائف والحقيقي، بين الأصل والتقليد.

في العالم العربي تحديدا، يتم التعامل مع التقنية عموما، وخصوصا مع الإنترنت الذي جعل المعلومات شائعة رهن ضغطة زر أو كلمات بحث، بشيء من الارتياب

لا نعرف إلام ستؤول الأمور، وما إذا كنا سنجد أنفسنا بالفعل أمام برامج ذكاء اصطناعي قادرة على إدارة نفسها ذاتيا، وعلى "إنتاج" المعرفة دون تدخل الصانع البشري، كما تخشى بعض أكثر النظرات تشاؤما، ولكن إن حدث ذلك فسيكون منسوبا في المقام الأول إلى البرامج التي من شأنها إحداث الدمار والخراب، كتلك التي شرعت دول بالفعل باستخدامها في مجال الحروب. البرامج اللغوية هي في حقيقة الأمر الأقلّ إثارة للقلق في ما يتعلق بتدخل التقنية بحياة البشر وتطور المجتمعات. البرامج المثيرة للقلق هي أيضا تلك التي يستخدمها البشر، كما رأينا في الحالة الإسرائيلية خلال حرب غزة، لإحداث الأذية – وصولا إلى القتل الجماعي - دون تمييز أو وازع أخلاقي.

أما ما استقرّ عليه الأمر حاليا، في الجانب اللغوي والإبداعي، فهو برامج يديرها الأفراد، لتسهيل أو تسريع أو تجويد عملهم. كمحرّر صحافي، وجدت نفسي أكثر من مرة، أشجع بعض الكتاب على استخدام برامج الذكاء الاصطناعي لتنقيح نصوصهم قبل إرسالها. النتيجة كانت رائعة، إذ باتت المعلومات أكثر دقة، واللغة أكثر سلامة وسلاسة، مما يدلّ على حقيقة لا مفر منها: أمام كثافة إنتاج المحتوى، بسبب الإنترنت وشيوع المواقع الإلكترونية والتواصل الاجتماعي، باتت هناك ضرورة ملحّة لأدوات تضبط هذا المحتوى وتحسّن من إنتاجيته، وتساعد على كسب الوقت، فجاء الذكاء الاصطناعي بمثابة هبة حقيقية، وأداة للتعامل مع هذا الكم الهائل من المحتوى.

أما في جانب الكتابة الإبداعية، فيفترض ألا يكون الأمر مختلفا. على سبيل المثال، كم كنا نشكو في مجال النشر العربي، من غياب المحرّر الأدبي، وكم من الكتب التي تصدر تحفل بالأخطاء اللغوية والمطبعية التي بات يمكن تلافيها بسهولة من قبل الكاتب أو المترجم نفسه، قبل وصولها إلى دار النشر. أما الترجمة، إذا استخدمت برامج الذكاء الاصطناعي اللغوية، بشيء من الحصافة، فمن شأنها أن توفّر على الأقلّ نصف الوقت الذي كانت تتطلبه هذه العملية، على الأقل من حيث العثور على معاني المصطلحات وتوحيدها وتدقيق المعلومات وسلامة اللغة وضبط النصوص عموما، وهذا من شأنه أن يسدّ ثغرة أساسية لطالما كنا نشكو منها، وهي قلة ما يترجم قياسا بما ينتجه العالم من أعمال أدبية وفكرية وعلمية.

كثر ممن يستخدمون تلك البرامج باتوا يطلقون عليها أسماء بشر من الجنسين، وكأنهم بذلك يقللون من لمسة الآلة الباردة، ويسبغون عليها طابعا بشريا أليفا، والأهم أنهم يصنعون قرينا لأنفسهم في العالم الافتراضي

هي فرصة إذن وليست نقيصة. كثر ممن يستخدمون تلك البرامج باتوا يطلقون عليها أسماء بشر من الجنسين كما يفعلون مع حيواناتهم الأليفة، وكأنهم بذلك يقللون من لمسة الآلة الوحشية الباردة، ويسبغون عليها طابعا بشريا أليفا، والأهم أنهم يصنعون قرينا لأنفسهم في العالم الافتراضي، يعمل معهم ويساعدهم على إنجاز مهامهم، والأهم أنه يحاورهم، أو يسمعهم صدى أصواتهم، في عالم – عالم الإبداع – كانت سمته العزلة التامة.

المسألة في النهاية، ليست رفض استخدام هذه البرامج، أو إنكار استخدامها إن كان ذلك حاصل حقا، بل في التكيف معها، وإيجاد لغة مشتركة معها، و"تدجينها" إن جاز القول، وإدخالها في آلية العمل، وصولا إلى نتائج أسرع من حيث الزمن، وأفضل من حيث النوعية، وليس في ذلك كله ما يدعو إلى الإنكار أو الخجل.

font change

مقالات ذات صلة