حياة المعاجم وموتها

حياة المعاجم وموتها

استمع إلى المقال دقيقة

في 2025، أضاف معجم "كمبريدج" وحده، وحتى أغسطس/ آب الماضي، أكثر من 6000 كلمة جديدة، تضمنت كلمات وعبارات وصيغا لغوية، راجت خلال العام، لاسيما عبر الإنترنت أو كلمات مستقاة من العامية (العاميات الإنكليزية) اكتسبت انتشارا و"مشروعية" بسبب وسائل التواصل الاجتماعي. هذه الكلمات المضافة ليست جميعها جديدة تماما، بل بعضها تحريف لكلمات موجودة أساسا، مثل كلمة delulu المستقاة من كلمة delusional، وتعني "اعتقاد شخص ما بأن شيئا ما غير حقيقي لأنه اختار ذلك". وبعضها الآخر إعادة تعريف أو تنقيح لكلمات مدرجة أساسا ضمن المعجم، وذلك لمراعاة التحولات الدلالية التي قد تكون طرأت على الكلمة.

فعلى سبيل المثال، ربما لا يعرف كثر، أن كلمة Guy الإنكليزية التي تعني "الشاب" أو "الرجل" أو ببساطة "شخصا ما" (ذكر)، هي في الأصل اسم رجل حقيقي كان يعيش في مطلع القرن السابع عشر، وهو "منشق كاثوليكي" يدعى غاي فوكس، وقد حاول في 1604 تفجير "مجلس اللوردات" بهدف اغتيال الملك جيمس البروتستانتي. فشلت المحاولة، وصارت هناك ذكرى سنوية لعملية الاغتيال الفاشلة هذه عرفت باسم "يوم غاي فوكس" يتخللها حرق دمى من القماش تمثّل صاحب محاولة الاغتيال الفاشلة. بمرور الوقت، وبإيحاء من شكل تلك الدمى الأشعث وما تتعرض له من تنكيل على أيدي العامّة الحانقين، صار اسم "غاي" يعني الشخص الأشعث أو التافه المرذول أو الحقير الهيئة. لكنّ المعنى لم يبق على حاله، فقد تبدّل على مرّ العقود ليصل إلى معناه الحالي الذي ليدلّ حصرا على الشخص الذكر، تساوقا مع كلمة Gal التي تعني بالإنكليزية "فتاة" أو "امرأة".

إدراج كلمة في معجم ما لا يمنحها شرعيّة أبدية أو أي شكل من أشكال القدسية، بل يعدّ سجلا لولادتها وتطورها وتبدّل معانيها، أو موتها

ما تعنيه هذه العملية التراكمية ببساطة، هو أن المعجم، في الأصل، هو مرآة التحولات والتحوّرات التي تطرأ على اللغة، انطلاقا من وظائفها الاجتماعية الثقافية، وبقدر ما أن المعجم انعكاس للكلمات الحيّة المستخدمة في الزمن الراهن، فإنه سجلّ للكلمات التي لم تعد مستخدمة أو التي نسميها اختصارا كلمات ميتة، لأنها لم تعد متداولة على ألسن الناس. في الحالين، أو في الوظيفتين، فإن المعجم هو أحد الأدلة الأساسية على حيوية اللغة وارتباطها العضويّ بالناس.

المعجم إذن، ليس المكان الذي "تحفظ" فيه الكلمات (وإن كان هذا دوره الأساس)، أي أن إدراج كلمة في معجم ما لا يمنحها شرعيّة أبدية أو أي شكل من أشكال القدسية، بل يعدّ سجلا لولادتها وتطورها وتبدّل معانيها، أو موتها. وفي هذا السباق، لا تزال المعاجم العربية تقع في معضلة حقيقية، إذ أصبحت محض مخازن أو مستودعات توضع فيها الكلمات، وتهمل أو تنسى أو تستعاد، لكنها في الأحوال كافة، تعامل غالبا بوصفها أصولا لا تُمسّ، بل تعامل أحيانا بوصفها مراجع تدلّ على حسن الاستخدام وأصالة اللسان.

من هنا، درج خلال العقود الأخيرة، استخدام بعض الكتاب والمترجمين العرب، كلمات "وحشية"، بأريحية يراد منها الدلالة على فصاحة الكاتب أو المترجم وسعة قاموسه وقوّة لغته. فتراه يجلب من القواميس القديمة كلمات لم يعد يعرف الناس (القراء) اليوم معناها، فيصفق له من يصفق، لأنه بنظر هؤلاء منافح عن أصالة اللغة، أمين على معانيها حريص على "إعادة إحيائها". لا يدرك من يقول بمثل ذلك، أنه ليس هناك ما يسمّى إعادة إحياء اللغة، فاللغة تبقى حيّة بقدر ما يستخدمها أهلها ويستدخلونها في حياتهم اليومية وكتاباتهم وتعبيراتهم المختلفة، وليس بقدر ما تستعاد مفرداتها، ثابتة جامدة، ولو لم تعد تجري على أيّ لسان.

شهدت نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، محاولات حثيثة لتحديث المعجم العربي، أخذا في الحسبان التطورات المتسارعة التي جاءت بها الثورة الصناعية، وأيضا سعيا لـ "حماية" اللغة العربية في ديارها، سواء من آثار الاستعمار العثماني أو الغربي اللاحق له، ولنا في تجربة الدمشقي الرائد محمد كرد علي (1876-1953) مؤسس وأول رئيس لمجمع اللغة العربية في سوريا، والعضو المؤثر في مجمع اللغة العربية في القاهرة (1932) والذي أطلق في 1921 "مجلة المجمع العلمي العربي"، خير مثال على الدور الجوهريّ الذي تؤديه المعاجم في النهوض باللغة العربية وجعلها ابنة عصرها.

هذه اللغة تتمتع بقدر كاف من المرونة والحيوية والثقة بالنفس، لاستيعاب هذه المفردات وإيجاد طريقة لإكسابها شرعية لغوية، ما دامت تتمتّع أساسا بالشرعية الشعبية

لقد كانت تلك الحقبة مليئة بالاختراعات الغربية الجديدة التي توجّب العثور على مقابل لها بالعربية، والأمثلة على ذلك لا مجال لذكرها أو حصرها، إلا أنها تؤكد المؤكّد وهو مقدرة اللغة العربية على استيعاب كل طارئ وجديد في مختلف المجالات، وجعله جزءا لا يتجزأ من عائلتها الواسعة الممتدة. ولعلّ من بين أبرز أبواب مجلة محمد كرد علي، هو الباب الذي لا يزال منتشرا إلى يومنا هذا بأشكال عدة (خصوصا في الأدلة الصحافية) تحت العنوان الشائع "قل" و"لا تقل"، والتي يكفي أن نكتبها في خانة البحث على الإنترنت حتى نعثر على آلاف النتائج المرتبطة بها.

كان المقصود بهذا الباب تنبيه أهل الكتابة (من صحافيين وكتاب) إلى "الأخطاء الشائعة" التي يقعون بها، وذلك مع اتساع انتشار المنشورات بمختلف أنواعها، وخصوصا المجلات والجرائد، وهو جهد لا يزال نافعا وضروريا إلى وقتنا هذا، غير أنه أدّى، رغم فوائده الجمة، إلى بعض النتائج السلبية، ومنها صرف الجهد إلى ما يُعتبر قواعد ثابتة في اللغة العربية، دون الجهد الأساسي المتمثّل في التعامل مع ما يدخل على هذه اللغة من خلال شيوعه بين الناس، ولاسيما الشباب. ويترافق ذلك في وقتنا هذا مع صرف النظر تماما تقريبا عن المفردات العامية أو الألفاظ أو التصاريف اللغوية المستقاة من عالمي الإنترنت والتواصل الاجتماعي، حتى لكأن الناس يتكلمون في حياتهم اليومية بلغة، ويكتبون بلغة أخرى، وهو تناقض لا يزال يترك أثرا ثقيلا على علاقة الأطفال والناشئة والشباب، وأيضا على فئة الكتاب والمبدعين، بلغتهم الأم. وحلّ هذه المعضلة، وهو تحدّ هائل لا يمكن لفرد النهوض به، بل يحتاج إلى جمعيات ومؤسسات ضخمة، لا يكون باعتبار أن اللغة العربية بحاجة إلى "تطهير" مما يدخل عليها يوميا تقريبا من مفردات عامية و"أعجمية"، بل بإثبات مرة أخرى أن هذه اللغة تتمتع بقدر كاف من المرونة والحيوية والثقة بالنفس، لاستيعاب هذه المفردات وإيجاد طريقة لإكسابها شرعية لغوية، ما دامت تتمتّع أساسا بالشرعية الشعبية المتأتية من شيوعها بين الناس.

font change