فيلمان يرويان التجربة المعقدّة للمرأة المصرية في الزمن الراهن

"لحظات انتحارية" و"حمام سخن"

مشهد من فيلم "حمام ساخن"

فيلمان يرويان التجربة المعقدّة للمرأة المصرية في الزمن الراهن

للوهلة الأولى يبدو أن لا شيء يربط بين فيلم "لحظات انتحارية" إنتاج عام 2016، كتابة وإخراج إيمان النجار، وفيلم "حمام سُخن" إنتاج عام 2021، إخراج منال خالد التي تشترك مع الكاتبة الصحافية رشا عزب في وضع السيناريو.

هناك ستة أعوام، على الأقل، على مستوى الفارق الزمني بين الفيلمين. كما أن المشاركين في أحد الفيلمين يختلفون عن المشاركين في الآخر. ناهيك بالاختلاف الأكيد في القصة والأسلوب الفني والموسيقى، وحتى في المزاج العام بين العملين. إلا أننا، ببعض التأني، وبعض التأمل، نعثر على خيوط مشتركة، قدتقودنا إلى قراءة أفضل لكل فيلم على حدة بوصفه إنجازا سينمائيا مستقلا وفريدا، وبوصفه كذلك نصا يعبّر عن الرحلة الشاقة التي تخوضها السينمائيات المصريات في اللحظة الراهنة، في بحثهن المضني عن وسيلة يُعبّرن بها عن تجاربهن ورؤاهن، في واقع إنتاجي يقيدهن ولا يمهّد لهن الطريق.

مناسبة الحديث عن "لحظات انتحارية"، أن المخرجة السينمائية ماجي مرجان اختارته قبل أسابيع قليلة الماضي (شيء ما ناقص)، ليُعرض ضمن برنامج "البروجكتور" الذي يستضيفه معهد غوته الألماني في وسط القاهرة. حظي العرض بحضور كبير، وبعده دارت ندوة نقاشية بين الجمهور والمخرجة، تولت فيها الأخيرة شرح ظروف إنتاج العمل وعرضه، علما أنه إنتاج مستقل اشتركت في تمويله المخرجة نفسها مع محمد التهامي، بدعم من "مؤسسة المورد الثقافي" و"المركز القومي للسينما في مصر". يمكن القول إن هذا العرض في معهد غوته كان وصلا بعد انقطاع أعوام طويلة، لم يحصل الجمهور المصري خلالها على فرصة لمشاهدة الفيلم، بعيدا عن عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 2016، وعروضه المتفرقة التي أقيمت بعد ذلك في سينمات "زاوية" بمصر.

أما "حمام سُخن"، فعُرض في مهرجانات عدة، أولا في مهرجان "ساوث باي ساوث ويست" بالولايات المتحدة عام 2021، ثم شارك في "مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان" في بيروت، ومهرجان سلطنة عمان السينمائي. اقتصرت عروضه في البداية على الجمهور المتخصص، إلى أن حظي أواخر العام الماضي، بفرصة العرض عبر منصة "نتفليكس"، ما يضمن وصوله إلى جمهور واسع بكل تأكيد. بدأ تصوير الفيلم، قبل أكثر من عشر سنين من الآن، تحديدا في عام 2011، لكنه سرعان ما توقف ليستأنف التصوير مجددا عام 2014. خلال ذلك، سعت المخرجة منال خالد إلى البحث عن مصادر تمويل لا تشترط التدخل في السيناريو، لكن من دون فائدة.

هل هي صعوبات إنتاج الفيلمين بشكل مستقل، وبالتالي صعوبة عرضهما في دور العرض المصرية، ما يدفعني فحسب إلى الجمع بينهما في مساحة كتابية واحدة؟

ملصق فيلم "لحظات انتحارية"

"لحظات انتحارية"

تقول إيمان النجار كاتبة ومخرجة "لحظات انتحارية"، إن فكرة الفيلم راودتها عندما حكى صديق لها عن اضطراره إلى المبيت مع جثة والدته في بيت واحد، لأنه لم يتمكن من دفنها عقب الوفاة مباشرة. لا بد أن المخرجة التي بدأت تتأمل الحادثة، قد استدعت ما يُمكن أن نستدعيه نحن أيضا تلقائيا عندما نسمع كلمة "جثة"، من مثل علاقة الأحياء بالأموات من الناحية الجسدية، والعلاقة مع فكرة الزمن. فالجثة تثبيت للحظة كان ينبغي أن تمضي، كي يستقر الحاضر، ويأتي المستقبل، وحين لا يحدث ذلك، فنحن مهددون باختلاط مروّع للأزمنة والأحداث. تقع مروة بطلة الفيلم التي تلعب دورها دنيا ماهر، تحت ذلك التهديد من الزمن، حين تضطر إلى ملازمة شقة والدتها بوسط البلد إلى جوار جثة الأم، لأن الشخص الموكل بالدفن لم يتمكن من الحضور إلى المنطقة التي صارت البقعة الملتهبة في لحظة الثورة. مروة، كما اختارت لها صانعة العمل، هي أسيرة حصارين، حصار مع الموت، وحصار الصراع الدائر في شوارع أخذت تشهد مواجهات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين.

تدور الأحداث حول نساء من خلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة، يجمع بينهن تعرضهن للقهر على يد السلطة بمعناها السياسي أو الاجتماعي وأحيانا الثقافي

حصار

حالة الحصار هذه هي التي تعيشها أيضا بطلات فيلم "حمام سُخن" الذي يأتي عنوانه الإنكليزي على "نتفليكس" Trapped أي محاصر، والأدق محاصرة أو محاصرات، لأن جميع أبطال الفيلم من النساء.لكن ليس الموت هنا هو الذي يلعب دور السجّان، بل السلطة بمعناها المباشر. وكانت بطلات القصص الثلاث المستقلة التي يتشكل منها الفيلم، في الشارع، حين اندلعت التظاهرات. حتى اللواتي كن في البيوت، لم يسلمن من هذا الحصار. علينا ألا ننسى أن إحدى اللوحات الأولى من التيترات الفيلم (غير مفهوم وغير واضح) تذكر أن القصص قد استُلهمت من أحداث حقيقية عاينتها المخرجة أو الصحافية رشا عزب، في زمن تظاهرات 2011، وهذا يعني أننا إزاء الواقع لكن من باب الفن. تدور الأحداث حول نساء من خلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة، يجمع بينهن تعرضهن للقهر على يد السلطة بمعناها السياسي أو الاجتماعي وأحيانا الثقافي؛ بعضهن قررن الخروج والمطالبة بحقوقهن، وبعضهن الآخر، دفعن ثمن الحاجة إلى مواصلة الحياة اليومية في أبسط صورها، كالخروج إلى العمل في هذه اللحظة بالذات تحت ضغط الحاجة المادية للأسرة.

 

ثورة!

بعيدا من الخوض في النقاش السياسي، لأن أحدا – وفي المقدمة صانعتا الفيلمين – لم يصف لا "لحظات انتحارية" ولا "حمام سُخن" بأنهما فيلمان سياسيان، فإن الزمن الذي تستند إليه الأحداث في الفيلمين هو زمن ثورة يناير 2011 في مصر، إلا أن الأكيد هو أن المفهوم نفسه ينطبق على التطورات التي تمر بها بطلات الفيلمين، أكثر مما على الحياة الخارجية.

المخرجة إيمان النجار خلال تصوير فيلم "لحظات انتحارية"

إن الثورة هنا هي مسرح الأحداث، وهي الخلفية الضاغطة التي تدفع البطلة إلى إعادة النظر في حياتها وفي حياة من هم حولها. إنها لحظة ترغيب وترهيب، غير أن نتيجتها تظل معلَّقة في الأفق البعيد، مجرد احتمال من بين احتمالات عديدة. في "لحظات انتحارية"، تتعرض مروة إلى صدمة وهي في طور الاستعداد للهجرة من مصر. يحدث المشهد الأول في الفيلم داخل مكتب شركة الطيران، أمام ماكيت الطائرة الذي يُغوي مروة بمستقبل جديد، وهي تنظر إليه نظرة حالمة. ثم في المشهد اللاحق، تعيش صدمة موت الأم، التي كانت من بين ما ومن ستتركه مروة في الماضي كي تخطو إلى المستقبل. يؤدي هذا الغياب المفاجئ للأم، إلى إظهار الثقوب في ثوب الماضي الذي كانت مروة تعتقد أنها توشك على التخلص منه. يتبيّن أن الأم قد أورثتها ألغازا عدة، فتضيع مروة ونضيع معها في محاولة حل هذه الألغاز. هل كان ما تخفيه الأم يستحق أن تُرجئ مروة سفرها لأجله، وقد أعدت هي وزوجها كل شيء من قبل؟ أم أن مروة لم تكن واثقة من البداية في قرار سفرها؟

 

المستقبل

مع الحصار بين الجثة في الداخل والثورة في الخارج، يطرح الفيلم أسئلته الحساسة: هل نبقى في بلاد لا نرى مستقبلنا فيها، أم نهاجر إلى بلاد أخرى؟ هل نحاول أن نغيّر ما لسنا نرضى عنه هنا، أم نتجه إلى هناك، حيث يُمكن لأولادنا أن يعيشوا حياة أفضل من التي عشناها؟ في الواقع، لا يقدم الفيلم إجابات نموذجية. بطلته مروة، ليست نموذجا للبطلة التي تعرف إلى أين تذهب، ومع ذلك فإن حيرتها وترددها هما بين أكثر الملامح التي تشترك فيها معنا، وقد تكون الثورة هنا في حالتها، هي القبول بهذه الحيرة، بهذه اللحظات التي تدفع إلى الحافة، كما يحدث في اللحظات الانتحارية.  

نساء محاصرات في فيلم "حمام ساخن"

أما في "حمام سُخن"، فإن الثورة تبدأ بالمواجهة المباشرة بين المتظاهرين وأفراد السلطة الذين يمارسون عنفا مخيفا. تبدأ القصة الأولى ليلا بمحاولة البطلة التي تلعب دورها ريم حجاب بالاحتماء من العنف الخارجي، داخل محل بيع موبايلات يديره رجل عادي من الطبقة المتوسطة، يلعب دوره أسامة أبو العطا. إنها ثائرة، تؤمن بحقها وواجبها في الخروج لإعلان موقفها، لكن هذا الرجل أمامها لا يستطيع أن يفهمها ويصر على محاولة تصنيفها. إنه محكوم بالأفكار التقليدية والمقيدة عن النساء: لماذا تخرج امرأة وحدها في هذا الليل؟ وهل هي مسيحية أم مسلمة؟ هنا أيضا، يصبح موقفه منها، موقفا ثوريا بحد ذاته، يوازي ثوريتها هي في الاعتراض، إن كان سيسمح لها بالبقاء حتى الصباح كي لا تعثر عليها الشرطة، أو إن كان سيتركها لمصيرها، وهو يعرف من تعامله اليومي مع الضباط أي بطش يمكن أن تتعرض له. 

الممثلة ريم الحجاب في فيلم "حمام سخن"

تحكي القصة الثانية عن الطفلة فرح التي تعيش حياتها كاملة أمام التلفزيون، محرومة من الطفولة الحقيقية، ولا نتعرف لها على أسرة تقريبا سوى في وجه أمها، الممرضة التي ترى أخبار الاشتباكات على شاشة التلفزيون، فلا تفكر سوى في سؤال واحد: كيف ستصل إلى المستشفى الذي تعمل فيه، وكل الطرق مقطوعة؟ إنها من جانب آخر مضطرة إلى الخروج، فليس هناك لا مال ولا طعام في البيت. وبسبب الخوف الذي تستشعره من الجهول، تغلق الأم الباب بإحكام على ابنتها التي لا تملك مفتاحا، وتصبح سجينة حقيقية خلف القضبان، إلى أجلٍ غير معلوم، في اللقطات التالية التي تستعرض حوارها مع تلك المتظاهِرة التي صعدت إلى العمارة نفسها كي تختبئ من الشرطة. أن تتحمل الطفلة، كل الخوف، والحصار، هو تعبير فني ذكي وفريد عن أوضاع اجتماعية ظالمة تواجهها النساء المُعيلات بلا زوج في مصر، وعن انعكاس هذه الأوضاع على الصغار.

أما القصة الثالثة، فهي التي تحمل عنوان الفيلم، وتدور في حمام شعبي للنساء في منطقة قريبة من وسط البلد، حيث يمارس أفراد من الشرطة قهرا متعدد الأطراف. عندما يتعرضون بالضرب أولا لمتظاهرتين، إحداهما سيدة محجبة من الطبقة المتوسطة تلعب دورها كارولين خليل، والثانية صحافية شابة ثائرة. ومن أجل معاقبتهما على التظاهر، تُقتاد السيدتان إلى هذا الحمّام، وتُحتجزان بأمر من الضباط، وإذ بالحمام الذي ينبغي أن يكون مساحة آمنة للتنفيس عن الجسد الأنثوي والعناية به، يتحوّل إلى سجنٍ حقيقي، وسريعا نعرف أنه حتى السجّانة، أو مديرة الحمام (تلعب دورها زينة منصور) لا تؤدي هذه المهمة بإرادتها، بل هي الأخرى تتعرض لبطش الضابط، الذي يلاحقها أينما ذهبت ويُذيقها ألوانا من القهر.

لكن هل تستمر هذه الأوضاع إلى الأبد؟ في الإجابة عن هذا السؤال، ربما يكمن المعنى الثوري كما يقدمه "حمام سُخن".

 مع أن الزمن الذي تستند إليه أحداث الفيلمين هو زمن ثورة يناير 2011 في مصر، إلا أن الأكيد هو أن المفهوم نفسه ينطبق على التطورات التي تمر بها بطلات الفيلمين، أكثر مما على الحياة الخارجية


الأسلوب الفني

تستخدم إيمان النجار في "لحظات انتحارية" أسلوبا سينمائيا أقرب إلى التسجيلي يناسب تتبع حياة البطلة مروة في حيرتها وأرقها ومحاولة بحثها عن حلول لأزماتها، كما تستعين المخرجة في أكثر من موضع بلقطات تسجيلية للتظاهرات والاشتباكات، لتُشهِدنا على شكل الحصار الذي تعايشه مروة. وليس صعبا أن نستنتج تأثير النمط الإنتاجي التقشفي، الذي اتبعه صُنّاع الفيلم وجعل الأبطال والبطلات يتحركون في بيوت حقيقية وليس ديكورات مصنوعة، بتفاصيل واقعية لمنازل الطبقة المتوسطة المصرية، كما لعبت الإضاءة التي اعتمدت على المصادر الطبيعية - للظروف الإنتاجية نفسها - دورا في التعبير عن العتمة والتخبط التي لا يساعد مروة على التخلص من ترددها.

من جانب آخر، تَرجَمَ الأداء السهل الممتنع لدنيا ماهر حيرة مروة، ولا مبالاة الخالة التي تلعب دورها ياسمين النجار، أو ادعاءها اللامبالاة بخفة الظل التي أضافت لمسة لطيفة على الكآبة التي يبعثها حضور جثة الأم في الفيلم، إضافة إلى الطابع الغرائبي وخفة الظل التي ظهرت على الشخصيات التي لعبها: زكي فطين عبد الوهاب وسلمى الطرزي وصدقي صخر ويارا عماد وثناء سرايا وإيمان غُنيم، إضافة إلى الأداء الصموت الذي لعبته سلمى سامي وأضفى هالة من الغموض على اللغز الذي تركته الأم.

الممثل زكي فطين عبد الوهاب في دور "سامي"

أما في "حمام سُخن"، فإن السؤال الفني أكثر بروزا وهو أمر منطقي مقارنة بالعشر سنوات التي استغرقها العمل على الفيلم. هنا تنفتح الصورة على مفردات شوارع وبيوت القاهرة، على الغسيل المنشور على الحبال وتفاصيل النوافذ والأبواب، كما يمتلئ شريط الصوت بالأغنيات المصرية الحنونة وعبارات من حوارات الأفلام المصرية القديمة كأنها تحية عرفان للسينما المصرية في تاريخها الكبير. وكان الانتقال من قصة إلى قصة، على الرغم من قسوة بعض نهايات القصص، يعتمد كليا على هذه المشاهد والأصوات الأليفة من الحياة اليومية في القاهرة. يشيع ذلك كله جوا حميما ومتفائِلا في الفيلم الذي تلعب أدوار البطولة فيه ممثلات موهوبات، مثل: كارولين خليل ونعمة محسن ومنى مختار وثراء جبيل ورجوى حامد وحبيبة عفت. يُخبرنا "حمام سُخن" من طرف ما، أن النساء في حبسهن يبحثن، بعضهن عن بعض، ويحاولن التواصل، فيتخلصن بذلك من الحصار، ويصنعن الثورة على طريقتهن الخاصة.

 

font change

مقالات ذات صلة