رحيل حسونة المصباحي... كاتب الهامش الذي تحدى الأنماط الجاهزة

عاش هائما ومرتحلا وظلت تونس شاغله الأول

الكاتب التونسي حسونة المصباحي

رحيل حسونة المصباحي... كاتب الهامش الذي تحدى الأنماط الجاهزة

انطفأ قلب الكاتب والروائي التونسي حسونة المصباحي (1950 ـ 2025) ورحلت معه الكثير من الأحلام التي حملها معه سنوات طويلة في الغربة والاغتراب والمنفى، قبل أن يعود في السنوات الأخيرة، ليعيش في بلده تونس التي طالما أحب أرضها وعشق بحرها وأغنياتها وقصائدها. وقد نعاه كتاب وأصدقاء وقراء بوصفه واحدا من الأدباء العرب الحقيقيين الذين لم يغيروا وجوههم، وظل أمينا للكتابة والتخييل.

ذلك أن الكتابة بالنسبة إلى حسونة المصباحي لم تكن حظوة رمزية أو بذخا جماليا بل هي جرح الوجود وعلته وترياقه. وهذا هو ما يفسر المؤلفات الغزيرة التي كتبها صاحب "هلوسات ترشيش" بين القصة والرواية والترجمة والنقد الأدبي وأدب الرحلة. إنها سيرة أدبية غزيرة ومتنوعة، ترصد طيفا من القضايا والإشكالات التي طالما دافع عنها المصباحي في كتاباته وحواراته وأسفاره اللامتناهية شرقا وغربا.

حين نقرأ أعمال حسونة المصباحي القصصية والروائية، نجد أنفسنا دائما في حضرة المجتمع التونسي وشجونه، إذ يصور في مجمل أعماله البيئة التونسية وأهلها وتصدعاتها، فالواقع التونسي في كتاباته يحتل مكانة مركزية، لا كعنصر جمالي، بقدر ما يمثل أفقا فكريا ومختبرا للتفكير في العديد من الإشكالات التي يعيشها المجتمع التونسي.

حين نقرأ أعماله القصصية والروائية، نجد أنفسنا دائما في حضرة المجتمع التونسي وشجونه، إذ يصور في مجمل أعماله البيئة التونسية وأهلها وتصدعاتها

وفي حين نعثر في كتاباته على حياته وأسفاره وأفكاره ومواقفه، فإننا، خصوصا في القصة والرواية، نعثر على حكايات أخرى لأناس قريبين منه وعلى قصص لأفراد من عائلته، كما هو الحال في "حكاية جنون ابنة عمي هنية".

رؤية نقدية

عرف عن صاحب "السلحفاة" كونه واحدا من الكتاب الذين طالما انتقدوا الواقع التونسي وخاضوا نقاشات كثيرة منذ سبعينات القرن الماضي، حول اليسار والانحطاط والثقافة والتقدم والهوية، بما جعله يفكر في مغادرة البلد صوب ميونيخ في ألمانيا، حيث أقام نحو 20 سنة. بل إن الجدل الذي تركته آراء المصباحي الساخرة والمستفزة، لا تزال إلى اليوم في الذاكرة الجمعية للمثقفين العرب، بحكم ما طاولها من نقد واستفزاز للسلطة والمثقف والمجتمع ككل. غير أن النقد اللاذع الذي كان يوجهه المصباحي، لم يكن مجانيا، بل كان مبنيا على رؤية فكرية وقناعة ثقافية شخصية تجعله يمارس حقه في النقد ككاتب وأديب، لكن من منظور معرفي يمحص في الحقائق ويفكك ميثولوجيات السلطة ويعري أوهام الخطاب الديني ونتوءاته.

الكاتب التونسي حسونة المصباحي

وعلى الرغم من نقده المستمر للواقع التونسي، سياسة واجتماعا وثقافة وفنا، يعد صاحب "كتاب التيه" من القلائل الذين كتبوا عن الثقافة التونسية وإشراقاتها خلال مراحل معينة من تاريخها، فقد كتب جملة من المؤلفات الخاصة حول بلده تونس وسعى إلى التعريف بالعديد من الكتاب وترجمة بعض نصوصهم الأدبية.

يعتبر الهامش أهم عنصر تخييلي عند المصباحي، بل يمكن أن نعتبره البراديغم الأدبي الذي منه تتبلور القصص والأحلام والأفراح والأحزان

فكلما ذكر المصباحي داخل الساحة الثقافية التونسية كان يتعرض للتضييق، بسبب ما كان يكتبه من مقالات نقدية حول بعض الأنشطة الثقافية والفعاليات الفنية في تونس، مع العلم أن هناك العديد من الأسماء التونسية التي تحترم المصباحي وتعتبره من الأصوات الأدبية التونسية الحقيقية التي ظلت تربط في مجمل كتاباتها بين مرحلة سبعينات القرن العشرين بحكم ما شهدته من تأسيس للحداثة الأدبية العربية، وبين المرحلة المعاصرة التي أخذ الأدباء على عاتقهم فيها ضرورة تجديد هذه الثقافة، سواء على مستوى نسق الكتابة أو لناحية الموضوعات الجديدة التي يطرقونها من ناحية التفكير.

غلاف رواية "ليلة حديقة الشتاء"

المتعدد

الحقيقة أن التعدد الأدبي الذي طبع سيرة المصباحي، نابع من الزخم الفني الذي عاشه في ذاته، متنقلا بين العديد من المدن العالمية وحاملا في قلبه وصايا جده حول المنفى والترحال. لذلك فإن قارئ كتابات صاحب "حكاية جنون ابنة عمي هنية" سيفطن إلى أن الرجل لم يخرج قط من بيئته التونسية، وظل يحاول في كل عمل أدبي له أن يغوص في مرارة الواقع التونسي وشجونه بطريقة يبدو فيها مثل ذلك الرجل الذي ألفناه في الأسواق الأسبوعية وهو ينثر بيننا جملة من القصص ويسرد حكايات تتدفق من جسد مثل الشلال الذي يفيض ماء ومحبة وهواء. لذلك قال عنه الكاتب المصري الشهير يوسف إدريس "يكفي أن تقرأ قصة واحدة لحسونة المصباحي لكي تعرف كيف يعيش الإنسان التونسي، وكيف يفكر، وما هي حكاياته وأساطيره الخاصة كأنك عشت في تونس عشرات السنين".

الكاتب التونسي حسونة المصباحي

ولعل ما يميز مسيرة المصباحي، أنه لم يكن في كتاباته يسعى إلى إظهار الهوية التونسية كمحاولة منه لإضفاء الشرعية الوطنية على عمله الأدبي، بل جاء ذلك على نحو عضوي صميم، فلم يكن يكتب، مهما بعدت المسافات، إلا عابرا البحار والفيافي صوب تونس، ويكتب تلك القصص الصغيرة عن أناس عابرين ومنسيين ومسحوقين هناك، وهو يقربنا من تلك العوالم التي تمزج بين رحابة الحلم وفداحة الواقع وشظف العيش.

عاش المصباحي حياته، هائما صوب المجهول، مفكرا في السراب ومخترقا للحدود والسياجات، مراهنا على الكتابة الأدبية

يعتبر الهامش أهم عنصر تخييلي عند المصباحي، بل يمكن أن نعتبره البراديغم الأدبي الذي منه تتبلور القصص والأحلام والأفراح والأحزان. فقد ظل الهامش التونسي الذي عاش فيه المصباحي وحمله في قلبه معه إلى ألمانيا بمثابة مختبر آسر يعود إليه كلما شعر بجرح الغياب وآلام الوحدة وفداحة الغربة. لقد كان الراحل حريصا منذ أول عمل أدبي له على أن يضع القارئ أمام قريته الصغيرة في الريف التونسي، لكنه لم يكن يعرف أنه سيجعل من هذه القرية فضاء سحريا، كلما ابتعد عنه اقترب منه.

خارج التجنيس

ونظرا للأهمية البالغة التي خص بها صاحب "إشراقات الثقافة التونسية" الريف التونسي، جعله أحد الكتاب التونسيين الذين فازوا بالعديد من الجوائز العربية المرموقة، وعيا من لجان تحكيمها بالمكانة التي يتنزلها المصباحي والقيمة الجمالية التي يقدمها في مؤلفاته الأدبية، قصة وراوية ورحلة. مع العلم أن متتبع منجزه الروائي دائما يربكه شكل الكتابة عنده، فهو وإن يكتب يكتب انطلاقا من مفهوم الجنس الأدبي، يسعى في الآن نفسه إلى التحرر من النمط. وذلك لأن كتاباته تخترق دائما الجنس وتحاول أن تكون تلقائية عابرة للحدود. وهذا الأمر، طالما دافع عنه المصباحي وجعله خاصية جمالية تنطبع بها كل كتاباته الأدبية.

غلاف رواية "على أرصفة الشتات"

ولعل هذا الميسم الجمالي المختلف والمتمثل في الكتابة المفتوحة، هو الذي قاد المصباحي لاحقا إلى الكتابة في أدب الرحلة وتقديم نصوص أدبية مشوقة في هذا اللون الأدبي الذي برع فيه وحاز فيه جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة في فرع اليوميات عن كتابه "أيام في إسطنبول".

كان حسونة المصباحي، واعيا بما يكتبه وما هو مقبل عليه على مستوى كتابة نص أدبي معاصر، لا يريد أن يقوم باجترار شكل قديم، لذلك عمل في مؤلفاته على اجتراح شكل جديد موجود في الكتابة العالمية عند دوستويفسكي وجويس وغيرهما. وتمكن هذه الطريقة الكاتب من التعبير بطلاقة عن أفكاره ومواقفه بكل حرية، دون التقيد ببعض عناصر الحبكة التي عادة ما تكون من شروط الكتابة الأدبية "الصحيحة".

لهذا فإن ثورة المصباحي على هذا الطرح المعرفي الأكاديمي المتحجر، لم يكن يضمر في باطنه إلا الطريقة التي بها عاش المصباحي حياته، هائما صوب المجهول، مفكرا في السراب ومخترقا للحدود والسياجات، مراهنا على الكتابة الأدبية وحاملا بين يديه شعار: لا حياة بدون آلام الكتابة وجرحها.

font change