الأم في السينما العربية والعالمية.. حكيمة حنون في أفلام وغامضة قاسية في غيرها

بين الصورة النمطية والخروج عن المألوف

Eduardo Ramon
Eduardo Ramon

الأم في السينما العربية والعالمية.. حكيمة حنون في أفلام وغامضة قاسية في غيرها

يعكس عيد الأم في الحادي والعشرين من مارس/ آذار كل عام، رمزية الأم وتضحياتها المختلفة. إنه الوجـه المحبب تكشفه السينما، وتضيـف عليه جوانب أُخرى.

قبل سقوطه من عل، يصيح جيمس كاغني فاردا يديه: "أماه. أنا ملك العالم". هذا قبل أن يتلقى رصاصات رجال الشرطة ويقطع المسافة بين القمّة التي وقف عليها والأرض التي استقبلته في ثوان.

الفيلم هو "حرارة بيضاء" (White Heat) ويدور حول مجرم له علاقة مركّبة مع أمه (مرغريت وشرلي). بالنسبة إليه هي كل ما يحتاجه من صداقة وحب يملأ قلبه ويمنحه الثقة بالنفس. هو "ابن الماما"، ليس بالمعنى المدلل بل على صعيد نفسي كان فرويد ليعلّق عليه لو أنه عاش حتى سنة 1949 عندما أنتج الفيلم.

شرف الأم

الأم، في الحياة وفي الكثير من الأفلام السينمائية، هي المرأة التي تعرف كل شيء. هي الزوجة المخلصة والأم الحنون ومدبّرة البيت وصاحبة الرأي الذي كثيرا ما يستمع الزوج والابن له ويقرّان به.

هي المدافع عن الأسرة والبيت. وهي المثال الذي يقتدى به ليس بالنسبة للولد فقط بل للابنة كذلك. فالفتيات يتوجهن لأمهاتهن بمشاكلهن، فالأم هي مستودع الأسرار الأول وليس الأب. لكن الأمهات لسن جميعا قالبا واحدا. نعم، هناك القاعدة التي تحتوي على ما سبق، لكن الاستثناءات كثيرة، فقد تكون الأم قاسية وقد تكون مدمنة وقد تكون غير متوازنة أو حتى عاطفية أكثر من اللزوم. والسينما، كونها تعكس الحياة وكل ما تنضح به الأفكار من خيال، نقلت تلك الأوجه وعبّرت عن نماذج الأم في العديد من الأفلام.

عندما يقسم فريد شوقي في بعض أفلامه بـ "وشرف أمي" فإنه يعظّمها إلى أعلى مصاف دنيوي ممكن. فشرف الأم ليس مصدر خلاف. لا يقول، وسواه، "وشرف أبويا" لأن هذا قد يكون مشكوكا به. قابل للتساؤل والشك، لكن “شرف الأم” أسمى من كل شيء آخر.

في فيلم "بداية ونهاية" تقوم الأم (أمينة رزق) بكل ما في وسعها للحفاظ على وحدة العائلة. لديها شاب ما زال طالبا (كمال حسين) وحسنين الشاكي دوما (عمر الشريف) وحسن الذي يقترب من السير في الطريق الخطأ (فريد شوقي) وفتاة ما زالت عانسا تحاول تجنب الوقوع في الخطيئة.

لا تعرف الأم ما وصلت به حال كل فرد من أفراد العائلة. تعتقد أنها ما زالت تجمع أبناءها ولا تعلم أن ابنتها (آمال فريد) باتت فتاة ليل لكي تساهم في تكاليف الحياة، ولا أن ابنها حسن بات بلطجيا ولا أن حسنين ما زال يحلم بما لا يستطيع الوصول إليه بعدما أصبح رجل شرطة. التوليفة بأسرها تؤازر الأم وأمينة رزق تجسد الدور بكل ما أوتيت به من أمارات التقوى والورع والرغبة الحثيثة في الدفاع عن وحدة العائلة، وإن لم تكن تدري أنها فشلت في تحقيق ذلك.

الحبكة، كما وضعها نجيب محفوظ في روايته "بداية ونهاية" وأخرجها فيلما صلاح أبو سيف سنة 1960. مرثاة اجتماعية شاملة، ولولا نهاية الفيلم الضعيفة (تنتحر الفتاة وينتحر شقيقها كذلك) لكان الفيلم أنجز كامل رؤيته حول وضع العائلة المصرية على الأقل في زمن أحداثه.

بداية ونهاية

الممثلة أمينة رزق (1910-2003) كانت نموذجية في أدوار الأم العفيفة الخالية من كل الأخطاء. الرشيدة والبسيطة والواعية معا. الأم التي يمكن اعتبارها نموذجا للتضحية. هذا هو وضعها منذ أفلامها الأولى في الأربعينات مثل "الأم" (1945) و"كل بيت له راجل" (1949) و"البيت الكبير" (1949). في هذين الفيلمين الأخيرين مُنحت دور الأم اسمها أمينة، لكن في “مصطفى كامل” (1952) هي أم الزعيم ذاته وهي، بعد ذلك، الأم في معظم ما مثّلته من أدوار بعد ذلك.

الصورة النمطية

لعل المسألة هي في سمات الوجه، لكن أمينة رزق لم تكن الوحيدة التي كللت عملها بهذا الدور بل هناك علوية جميل وفردوس محمد وكريمة مختار. أحيانا ما يُسجل لهؤلاء أن نسبة تكرار المواقف لديهن والتعامل الميلودرامي مع الشخصية هي أقل مما وفّرته أمينة رزق التي شخّصت الدور ذاته بالملامح والتعابير ذاتها وبالكلمات نفسها.

للتنويع برزت كذلك ماري منيب كأم لا مثيل لها بين أمّهات السينما المصرية. حوّلت ماري منيب الأم إلى كاريكاتور كوميدي ووقفت دوما لصالح بناتها ضد أزواجهن. هي، بذلك، الحماة التي لا يتمناها الرجل في حياته.

لكن السينما المصرية، وربما العربية بكاملها، إذ وضعت الأم في مصاف تستحقه ولو بلون واحد متكرر غالبا، ساهمت في تنميط النظرة إلى المرأة على أساس أن عليها أن تكون أمّا حتى قبل زواجها وإنجابها.

حدوتة مصرية

على ذلك، هناك أفلام لم تجد من البشر من هو أنظف وأنصع من الأم ذاتها. المثال الناصع هنا هو فيلم محمد راضي "أمهات في المنفى" (1981) حيث المفاد الذي يخرج به المتفرج من الفيلم هو أن كل واحد إن لم يكن لصا أو خاطئا فإنه يتمنى أن يكون كذلك. وحدها الأم الطيبة (ومن هي سوى أمينة رزق) تعبر عن الضمير ولو أنه ضمير منهزم لا يقدّم ولا يؤخر كثيرا في مجريات الفيلم بل يحوّلها إلى حيز ثانوي.

الأم على حق في معظم ما تم إنتاجه من أفلام قدّمتها على الشاشة، لكن الأمر تطلّب، في العام 1982 مخرجا أكثر تعمّقا في مسألة الأم وتوابعها ودورها المهيمن على نحو أو آخر في حياة الأسرة. هذا المخرج كان يوسف شاهين والفيلم هو "حدوتة مصرية"، الفيلم الذي تحدّث عن حياة المخرج (أدى دوره نور الشريف) والشخصيات التي تحيط به. في هذا السياق يعرض لثلاث نساء في حياته لكل منهن طريقتها في التعامل معه والهيمنة عليه إلى حد مؤثر وهن زوجته وشقيقته ووالدته. يفتح المخرج أوراقه القديمة ليتكلم عن الجانب الآخر من التأثير العائلي على الإنسان صغيرا وكبيرا. عن تسلط الأم والأخت والزوجة. وعن الشعور الدفين بأنه ينتمي إلى الآخرين أكثر من انتمائه إلى نفسه.

الأم هي المثال الذي يقتدى به لكن الأمهات لسن جميعا قالبا واحدا، فقد تكون الأم قاسية وقد تكون مدمنة وقد تكون غير متوازنة أو حتى عاطفية أكثر من اللزوم.


ذكريات سورية

ضمن الاهتمام الذاتي المختلف عن التقليد أيضا، يندرج فيلم محمد ملص "أحلام المدينة" (1984) الذي ينقل إلى الواجهة انعكاس نظرة صبي إلى أمّه خلال رحلة قاسية بدأت من الهجرة من إحدى قرى الحدود السورية- الإسرائيلية إلى مدينة دمشق. تتوجه الأم (ياسمين خلاط) إلى والد زوجها الراحل (رفيق السبيعي) على أمل أن يستقبلها في داره. بعد اعتراضه يسمح لها بالعيش مع ولديها في غرفة صغيرة. هو عجوز قاس ويعامل زوجة ابنه وولديها على هذا النحو. تمر ست سنوات ونرى ابنها الأكبر ديب وقد أصبح فتى يعمل عند معلم كي الملابس (حسن دكاك). ذات يوم تصدّق الأم كلام امرأة عرضت عليها الزواج من عريس ثري قبل أن تكتشف أن الزواج المعقود هو زواج متعة فقط. يشعر ديب بالثورة في داخله. هو أصغر من أن يفهم كل شيء وأكبر من أن يفوته ألم والدته، فيحاول الوصول إلى الزوج المخادع لقتله. فشله يتجسد في المشهد الأخير حيث يحمل ما هو أكثر من معاناته الشخصية.

إنها الخمسينات وما تبعها من تقلبات سياسية عاشتها سورية قبل وخلال وبعد أيام الوحدة مع مصر. هذا ما يمنح الفيلم كذلك أرضية يلتقي فيها الهم الخاص مع هم شارع العام مانحا المُشاهد نظرة مزدوجة.

صوّر المخرج مشاهد من فيلمه في بيت جدّه، ومنح بطلة الفيلم ياسمين خلاط اسم حياة، وهو اسم والدته. لكن ما يرتسم في البال طويلا هو تلك المشاهد الصامتة التي يلقيها المخرج من خلال أعين الأم حينا وابنها حينا. حين تلتفت الأم خلفها كما لو سمعت من يهمس باسمها، نتذكر مشاهد نفّذها الروسي أندريه تاركوفسكي الذي تعامل مع الظاهر من الحركة والمستتر من الهواجس والأفكار بجمالية بديعة وبصمت جاذب أكثر من أي حوار ممكن.

الأم الهندية

الأم وطناً

لكن من الخطأ البحث في "الأم العربية" بمنأى عن الأم في أي مكان آخر. سينمات العالم لديها دوما مخزون من الحكايات حول الأم وتضحياتها في جانب، والأم ومتاعب حياتها في جانب آخر.

هناك أم من كل بلد وسينما. من اليابان والهند إلى بريطانيا وايران ومن الصين وتايلاند إلى أسبانيا وروسيا مرورا بالولايات المتحدة.

أحد الأفلام المشهودة عن الأم وتضحياتها فيلم محبوب خان "الأم الهند" (Mother India) حول الأم رادا (أدّت الدور الممثلة التي اكتفت باسمها الأول وحده أيضا نرجس). كما العنوان، يقود الفيلم حكايته للتحدث عن الأرض كأم وعن الأم كأرض. رادا عجوز يبدأ الفيلم بها وهي تفترش الحقل وتشم الطمى في حسرة بينما الجرارات الزراعية تجرف وتغيّر المعالم من حولها. إنها لا ترى ما يحاول أهل القرية إقناعها به من أن التغيير سيجلب خيرا للجميع وغصبا عنها توافق، كونها كبيرة القرية مقاما وسنّـا، على تدشين ممر مائي بعد أن يتم حفره. من هنا يعود الفيلم إلى رادا شابّة تُزف إلى شيامو (راج كومار). والدة شيامو التي لا تجيد القراءة والكتابة وقّعت على عقد يمنح من استدانت منه مالا الاستيلاء على ثلاثة أرباع الحصاد السنوي لأرضها. هذا ما يعني أن تقوم رادا وزوجها بالعمل المضني كأجيرين ومن هنا تسير الأمور من سيء إلى أسوأ حسب تقاليد الأفلام الميلودرامية والريفية عموما.

مفهوم الأم هنا مرتبط بالوطن وكذلك الحال في فيلم "أم" للروسي زفيلود بودوفكِن، أحد أعمدة مخرجي السينما السوفييتية في الزمن الشيوعي المبكر. في هذه الدراما المقتبسة عن رواية مكسيم غوركي (1906) سنة 1925 تحاول الأم (فيرا بارانوفسكايا) حماية ابنها من الانخراط في احتجاج ضد مالكي الأراضي (قبيل الثورة الشيوعية) الذي يزمع أبناء القرية القيام به. لكنها تكتشف لاحقا أن ابنها على حق وأن حماية الأرض من واجب الجميع فتسمح له بالانخراط.

أنشودة جندي

بما أننا في روسيا لابد من ذكر فيلم أفضل شأنا وأهمية هو "أنشودة جندي" (Ballad of a Soldier) لغريغوري شوخراي (1959). الفيلم ليس من بطولة الأم (أنطونينا ماكسيموفا) بل ابنها أليوشا (فلاديمير إيفاشوف) الذي نتعرف عليه في الجبهة خلال الحرب العالمية الثانية. ها هو ينال إذنا بزيارة والدته في الريف البعيد. لكنه لا يصل بعدما تعرّف على فتاة في مثل سنّه تحتاج لمساعدته. المؤثر، وجدانيا وسينمائيا معا، مشهد الأم وهي تنتظر عودة ابنها واقفة عند مطلع ذلك الطريق الترابي الطويل حيث من المفترض أن يأتي. تقف وظهرها للكاميرا وتنتظر. لكن ابنها وجد أن إذن الزيارة انتهى ولابد من العودة إلى جبهة القتال مجددا.

بطل "ماما، أنا حي" (Mama‪, I‪'m Alive) للألماني كونراد وولف (1977) يدور بدوره حول الجندي الألماني المستسلم للروس الذي يجد أن آماله بحياة آمنة لن تتحقق فيكتب لوالدته عكس ما يمر به فيكتب لوالدته عكس ما يمر به حاله. لا نرى الأم لكنها موجودة من العنوان وما دونه.


السينما المصرية، وربما العربية بكاملها، وضعت الأم بلون واحد متكرر غالبا، وساهمت في تنميط النظرة إلى المرأة على أساس أن عليها أن تكون أمّا حتى قبل زواجها وإنجابها

عناقيد الغضب

لابد من ملاحظة أن المجتمعات الأوروبية والأميركية تفرض تداولات خاصة لمفهوم الأمومة. طبعا هناك جين داروَل التي تقارب منهج أمينة رزق في تشخيص أدوار الأم من حيث مفهوم الحب والحنان والتضحية، لكنها ابتعدت عن منحى التكرار أكثر مما فعلت الممثلة المصرية الراحلة.

تعرّفنا عليها لأول مرّة سنة 1940 في فيلم جون فورد المأخوذ عن رواية جون تشاينبك "عناقيد الغضب" (The Grapes of Wrath). الرواية تصب في صميم الاحتجاج على كيف عاملت طبقة أصحاب المصانع والمصارف المحتاجين والفقراء والنازحين عندما اشتدت الأزمة الاقتصادية في مطلع الثلاثينات.

ها هي الأم تحاول تجنيب ابنها توم (هنري فوندا) الخطر لكنه يرفض الانصياع لمخاوفها. تنظر إليه بعينين قلقتين وهو يخطب في الجموع: "الأثرياء يموتون وأولادهم ليسوا صالحين ويموتون. لكننا نحن (متحدّثا باسم الفقراء والمعوزين في الفيلم) نواصل الحضور. نحن الشعب الذي يعيش. لا يستطيعون محونا. لا يستطيعون خداعنا. سوف نستمر إلى الأبد لأننا نحن الشعب".

عناقيد الغضب

كانت هناك مخاوف عند المنتج داريل زانوك. خطر له، ولم يكن بعيدا عن الصواب، أن الفيلم، عبر هذه الخطبة وعبر مشاهده المدقعة في البؤس الاجتماعي، سيواجه نقمة المحافظين في زمن كانت العين المكارثية ما زالت تراقب، لكن المخرج (اليميني) جون فورد دعا زانوك لقراءة الرواية قائلا له: "كان لك الحق أن تخشى العاقبة لو نقلتُ الرواية كما كُتبت".

شاهدنا جين داروَل بوجوه مختلف في "ذهب مع الريح"، 1939 و"ماري بوبنز"، 1964 وعدد هائل من الأفلام التي قامت بتمثيلها (181 دوراً) لكن أدوارها التي لعبت فيها دور الأم القلقة على ابنها (هنري فوندا مرّة أخرى) في "حادثة أوكسبو" سنة 1932 و"حبي كلمنتاين" لجون فورد (1946)و"طرق سريعة في الليل"، سنة 1942 والعديد سواها بقيت دمغة ثابتة على مشوارها.

 

أمهات النجوم

يمكن هنا ضم  شيلي دوفال في The Shining وجودي فوستر في Panic Room ودايان لاين في Let Him Go لهذه البانوراما الملوّنة. الفيلم الأول لستانلي كوبريك (1980) وفيه تحاول دوفال حماية نفسها وابنها من زوج فقد عقله (جاك نيكلسن) ونرى في الثاني، من إخراج ديفيد فينشر (2002)  جودي فوستر تحمي ابنتها في غرفة سريّة بعدما داهم أشرار منزلها (وضع يعكس مخاوف أي غزو للوطن). أما في "دعه يذهب" لتوماس بيزوكا (2020) فيدور حول الأم التي تريد استعادة زوجة ابنها من أهل زوجها السابق (انعدام الأمان حتى على صعيد الأسرة الواحدة).

من فيلم "غرفة الذعر"

لكن الوجه الجميل للأم ليس جميلا في كل النتاجات الأميركية. لابد من الاعتراف بأن السينما الأميركية تقتبس من الواقع أكثر مما نود الاعتراف به. فعندما تستلهم السينما حكاية رئيسة عصابة عاشت حياتها الفعلية في الثلاثينات والأربعينات تحت اسم كيت باركر لترتكب وأبناؤها وأفراد عصابتها السرقات والقتل، فإنها، السينما، لا تذهب بعيدا في الخيال. الفيلم، Mama Bloody ، كان عن حقبة من التاريخ الحقيقي لعصابات أميركا الكلاسيكية (بوني وكلايد، بايبي فايس نلسون، ماشين غن كيلي الخ...) لكنه أيضا عن الأم الشريرة.

وهي الأمارة بالسوء في "الأم تعرف أكثر" (Mother Knows Best) للاري شو (1997) عندما تبحث عن قاتل للتخلص من عريس ابنتها وفي حالة "أمي الأعز" (Mommie Dearest) لفرانك بيري (1981) هي أم قاسية لا تريد الخير لابنتها.

لا عجب أن نذكر "حبي الأعز" في هذه المجموعة هنا لأنه مسحوب، بدوره، من وقائع حياة الممثلة جوان كروفورد التي قيل عنها إنها أذاقت ابنتها عذابا نفسيا شديدا وقاسيا. يعكس الفيلم ذلك، أو بعضه، ساندا دور الممثلة الراحلة إلى فاي داناواي.

في الواقع صورة الأم المرتبطة بحياة النجوم ليست زاهية. في العام 1982 كشف فيلم "فرنسيس" عن الحياة الرهيبة التي عاشتها الممثلة فرنسيس فارمر بسبب والدتها التي حكمت عليها بالجنون وأدخلتها المصحّات النفسية حيث عولجت بالكهرباء والحقن وحيث تم اغتصابها أيضا. الفيلم، كما أدت بطولته جسيكا لانغ كان كشفا لإحدى مآسي هوليوود الخفية.

الحال كذلك بالنسبة لحياة الممثلة مارلين مونرو كما نقلتها الكتب والسينما أكثر من مرّة. اخر هذه المرّات في العام الماضي في فيلم من إخراج أندرو دومينيك بعنوان "بلوند" (Blonde) فأم مارلين مونرو لم تكن بدورها نموذجا في التضحية والحنان بل كانت سببا جوهريا في حياة مونرو الصعبة.

 الأم حاضرة في العديد من أفلام هيتشكوك، ليس كوالدة للبطل أو البطلة فقط، بل كحضور معقد ومركّب يختلف عن حضورها في أفلام سواه

سايكو والطيور

لا يتسع المجال لذكر النماذج المتعددة ولا الأفلام التي تحدّثت عن الأم من مختلف جوانبها، لكن لا يمكن المرور بالعلاقة الخاصة التي تربط المخرج الرائع ألفرد هيتشكوك بالأم.

الأم في أفلام هيتشكوك موضوع يصلح لكتاب، ذلك لأنها حاضرة في العديد من أفلامه. ليس كوالدة للبطل أو البطلة فقط، بل كذلك كحضور معقد ومركّب يختلف عن حضورها في أفلام سواه.

في "السيدة تختفي" و"الرجل الذي عرف أكثر من اللزوم" و"تخريب" 1936، وحتى في فيلمه الناطق المبكر "المستأجر" 1927‪كانت أقوى الشخصيات شأنا. المرأة التي تفكّر بصواب وتدفع صوب الفعل الصحيح. تجيد التفكير ولا تعرف التردد.

لكن نظرته أخذت بالتحوّل إلى القتامة والتعقيد كما الحال في "سيء السمعة" و"شمال، شمال غرب" وسواهما، إلى أن وصلت إلى معالجة تضع الأم في صورة قاتمة للغاية.

سايكو

في "الطيور" 1963 تتحكم والدة بطل الفيلم، رود تايلور، وتقوم بالدور جسيكا تاندي، بابنها. هو رجل يقترب من منتصف العمر لكنه ما زال يعيش ووالدته في منزل واحد. ما بين مشاهد الطيور القاتلة يمرر هيتشكوك عقدة فرويدية تبدأ عندما تبوح إحدى شخصيات الفيلم لبطلته ميلاني (تيبي هدرن) بأن والدة ميتش (تايلور) هي السبب في إخفاقها في الزواج منه. لاحقا، وفي منزل الأم وابنها وبوجود حبه الجديد ميلاني، وبينما تحاول الطيور اقتحام البيت لتقتل من فيه، تلتقي ميلاني الأم. الأولى جميلة وشابة ومتحررة. الثانية محافظة وتخشى أن تبقى وحيدة إذا ما تركها ابنها واستقل بنفسه عنها. لكن كلا من ميلاني والأم تتغيران تحت ظروف الخطر الماثل. الأولى تتفهم والثانية تتعلم.

قبل 3 سنوات من هذه التحفة، حقق هيتشكوك تحفة أخرى لا تقل تعقيدا. "سايكو" (1960) كله عن الأم... لكن الأم ميّتة. ما هو حاضر تلك الهيمنة القاسية التي ما زال ابنها نورمان (أنطوني بيركنز) يعاني منها لدرجة إنه يقتل كل امرأة تصل إلى ذلك الفندق المنعزل الذي يديره. هذا ما يحدث للهاربة من المدينة ماريون (جانِت لي) عندما قررت التوقف لتمضية ليلة واحدة في ذلك الفندق.

نورمان تعلّم أن والدته تكره كل امرأة جميلة قد تجذبه بعيدا عنها. الأم ماتت لكنه ما زال يحتفظ بهيكلها العظمي وقد ألبسه بعض ثيابها. وهو يرتدي هذه الثياب عندما يقتحم غرفة جانيت لي متقمّصا شخصية أمه. مشهد القتل في الحمّام يحمل أبعادا كثيرة حول هذا الوضع فالقاتل مزدوج الشخصية. هو الابن والأم معا.

لم يشوّه ألفرد هيتشكوك صورة الأم بل مدّها ببعد آخر لم يكن مطروقا من قبل وقليلا ما تم طرحه على هذا المنوال وبتلك الجودة من بعد.

font change

مقالات ذات صلة