السيدة "حِنّات"... وسيرة ملكات الأنباط

إعادة ترميم رقمية تعيدها إلى الحياة

Barry Falls
Barry Falls

السيدة "حِنّات"... وسيرة ملكات الأنباط

مدينة العلا (غرب السعودية)، تلك الواحة الهادئة التي كانت تغفو بين أروقة التاريخ وتنام بصمت في ظلال الكتب وذكريات الرحالة المستكشفين، تستيقظ اليوم، وتميط اللثام عن وجهها كفتاة بهية فتية فاتنة الجمال، تكشف عن خزائن كنوزها التي تحفظ حضاراتها العريقة في أعماق الزمن، عن طرق التجارة، وملتقى الشعوب، عن الإنسان العربي الأول، عن رحلة الثقافات وتمازجها، عن حكايات وأسرار لا تزال دفينة، وأخرى تعلن نفسها على قمم الجبال منحوتة بأبهى حلة، وأزهى صورة، تخطف الأنظار. إنها تخطف أنظار العالم.

حضارة عريقة

في آخر أخبارها وكنوزها التي تتكشف كل يوم، أعلنت الهيئة الملكية لمحافظة العلا أخيرا إعادة تجسيد أحد ملامح تلك الحضارة العربية العريقة، إذ تمكن خبراء في مجال الآثار بالهيئة من إعادة بناء رقمية لهيكل وجه امرأة تعود إلى العصر النبطي وتُعرف باسم "حِنّات"، وهي سيدة نبطية من علية القوم، يُعتقد أنها تُوفيت في القرن الأول قبل الميلاد، ووضع جسدها الذي كان شبه مكتمل في مقبرة اكتُشفت في عام 2008 داخل "الحجر"، وظلت محفوظة لأكثر من ألفي عام.

حِنّات - ذلك اسمها المنقوش جوار قبرها- لم تكن امرأة عادية، بل امرأة رفيعة الشأن في مملكة الأنباط، فهي تمتلك ثروة كبيرة مكنتها من أن تحصل على مدفن ضخم خاص بها، كان اكتشافه حدثا مهما، أفصح عن جوانب متنوعة من الحياة الاجتماعية لدى الأنباط، ومثل تجسيدها الحي، لمحة عن انسان الأنباط، عن هيئته، وملامحه، ولباسه، ومجوهراته، وأزيائه.

حِنّات لم تكن نموذجا عابرا، أو حالة استثنائية، بل هي تعبير عن المكانة الرفيعة التي تبوأتها المرأة العربية في حضارة الأنباط، حتى أصبحت شريكة رئيسة في إدارة البلاد

مكانة المرأة

حِنّات لم تكن نموذجا عابرا، أو حالة استثنائية، بل هي تعبير عن المكانة الرفيعة التي تبوأتها المرأة العربية في حضارة الأنباط، حتى أصبحت شريكة رئيسة في إدارة البلاد، بل وملكة في بعض الأحيان.

يؤكد المحقق والمؤرخ إحسان عباس هذا الأمر، في كتابه الجميل "تاريخ دولة الأنباط" حيث يشير إلى أن الدارسين تواتروا على القول إن المرأة النبطية كانت تتمتع بمنزلة مرموقة في المجتمع، وإنها كانت تعامَل باحترام، فهي مصونة الحقوق، ولها شخصية اعتبارية مستقلة، وإرادة حرة، وليس ذلك بمستبعد في مجتمع كانت أبرز آلهته تجسيدا للمرأة في خصالها وسماتها، فقد كان لربة الخصب أترعتا مكانة سامية بين الأرباب عند الأنباط، وتتنافس مع قرينتها زيوس-هدد في القوة والسيطرة.

علاوة على ذلك فإن المسكوكات النبطية كشفت لنا نماذج متعددة تظهر فيها المرأة متوجة بأعلى ألقاب الملك والسلطة، ففيها نجد صورة الملكة بجانب صورة الملك ومعها لقبها، ومما يستدل به الدارسون على مكانة امرأة الأنباط أيضا إشارات في النقوش والبردي إلى حقها في الوراثة والتملك والتصرف بأملاكها. وتظهر لنا الاكتشافات الأثرية المتوالية نقوشا تخبرنا عن نساء بنين أضرحة عالية التكاليف، وأنهن فعلن ذلك دون إذن أزواجهن، لتكون مدافن لأفراد العائلة بما في ذلك الحفدة أبناء البنت. من هذه النقوش عدد كبير يتحدث عن إنشاء المرأة أضرحة لها ولأبنائها دون ذكر لأبيهم، وتنتقل وراثة تلك القبور من الأم إلى بناتها دون ذكر للأبناء.

Getty Images
الهيئة الملكية لمحافظة العلا، نجحت بترميم وإعادة بناء رقمية لهيكل وجه "حنّات" التي تعود للعصر النبطي. إذ جرى اكتشافها في مدينة "الحِجر" التي جرى تصنيفها كأول موقع للتراث العالمي لليونسكو في المملكة منذ 15 عامًا.

أدوار

ويبرز دور المرأة النبطية في السياسة والحكم بشكل خاص مع مرحلة الملك رب ايل الثاني (70-106م) حين كان صغيرا لما تولى العرش، لهذا عينت أمه شقيلات أو شقيلة، وصية عليه، وهي تظهر على النقود الأولى من عهده، فلما شب تزوج من فتاة تدعى جميلت أو جميلة، وأصبحت هي الملكة وصارت صورها هي التي تظهر على ما يصدره من نقود، وقد عثر على نقوش ترجع إلى عهده ابتداء من الحجر جنوبا حتى ضُمير شمالا، وأحد تلك النقوش وجد في قبر مخصص لـ أنيشو (أنيس) أخي شقيلت ملكة النبط.

وتشير الأدلة وآخر الاكتشافات الأثرية إلى أن أسماء الملكات المعروفات حتى الآن من تاريخ ملوك الأنباط، هن : هاجر الأم، خُلد، أو خلود، شقيلة الأولى، شقيلة الثانية، جميلة، هاجر. وقد ظهرن في العملات النبطية، وصُوّرن بجانب الملك دائما في الجانب الأيسر للعملة.

ومن ذلك حين أصدر الملك رب ايل الثاني عملة ما بين 75-76م سجل في الوجه الأمامي للعملة تمثال نصفي للملك رب أيل الثاني، وأمه شقيلة، كما صدرت عملة برونزية أخرى يظهر فيها أيل الثاني، وفي ظهرها نقش لزوجته الملكة جميلة.

كانت المرأة النبطية تعامَل باحترام، فهي مصونة الحقوق ولها شخصية اعتبارية مستقلة وإرادة حرة، وليس ذلك بمستبعد في مجتمع كانت أبرز آلهته تجسيدا للمرأة

ألقاب

ونتيجة لهذه المكانة السياسية للنساء، كان لهن ألقاب خاصة في البلاط النبطي، تختلف بحسب حالة المرأة وطبيعة صلتها بالملك، فلقب "ملكت" أي الملكة يطلق على زوجة الملك، كما يطلق على بقية نساء البيت المالك النبطي، سواء كن زوجات للملك أم لم يكن. ومن الألقاب أيضاً "أحت ملكا" أي أخت الملك، وهو لقب لزوجة الملك أيضاً. ولقب "أتته" أي زوجته، وهو لقب استخدم للملكة خلد، زوجة الملك حارثة الرابع، وهناك لقب "أم ملكا" أي أم الملك، وحملته شقيلة الثانية أم الملك رب أيل الثاني، عندما كانت وصية عليه.

هذا الحضور في الفضاء العام، والتوثيق الرسمي لسيدات المجتمع النبطي، لم يكن حكرا على النخبة الحاكمة، بل إن النقوش النبطية أشارت الى أسماء عدد من النساء، لعبن دورا واسعا في شتى مناحي الحياة في المجتمع النبطي، حيث أحصت بعض الدراسات أكثر من 65 اسما من نساء النبط، وردت اسماؤهن في هذه النقوش.

Getty Images
مقابر محفورة في الجبل الأحمر بمنطقة الحِجر بالعلا، المملكة العربية السعودية ، يوم الثلاثاء 6 نوفمبر 2022.

وهذه النقوش التي تنتشر بكثرة في الحجر (مدائن صالح) توضح حق المرأة الكامل في التملك، واستقلالها المالي، وما يصاحب ذلك من صلاحيات أخرى مثل البيع والشراء أو التأجير أو الإهداء. وفي دراسة علمية مثيرة للانتباه، حللت الباحثة فاطمة باخشوين مكانة المرأة في النقوش النبطية، وتوصلت من خلال استعراضها لمجموعة واسعة من النقوش إلى أن انتشار أعلام النساء يظهر بكثرة في نقوش الحجر بالسعودية، وأن معاني أسماء هؤلاء النساء كان يحمل دلالات إيجابية من معاني العلو، والسكينة، والسلام والعمر المديد، والكمال والحماية. فقد تميز الأنباط بالنظرة الإيجابية للمولودة وتسميتها أسماء تدل على الفرح بقدومها، مثل حابو أو حبيبة. كما دلت بعض أسماء أعلام النساء في النقوش على ربط مهن معينة بهن، مما يعني أن حق عمل المرأة كان حاضرا هو الآخر، بل يشير بعض النقوش إلى الأمل بأن تكون المولودة متقنة لمهنة معينة في المستقبل.

إن هذه الشواهد على تنوعها تؤكد أن واقع المرأة العربية قبل الإسلام يختلف كثيرا عن المرويات التاريخية والأقوال الشائعة التي تصورها على أنها محتقرة ومنبوذة أو مسلوبة الإرادة، بل الحقيقة أن الاكتشافات المادية والنقوش الأثرية كانت أكثر صدقا، وأبلغ دلالة على الرقي الحضاري للمجتمعات المدنية في الجزيرة العربية.

font change

مقالات ذات صلة