السينما في السعودية: ولادة جديدة

يمكن اعتبار مهرجان «أفلام السعودية» الذي ولد عام 2008 أول ممارسة أهلية تعكس وجود مجتمع للصناعة السينمائية

السينما في السعودية: ولادة جديدة

هذا النقاش هو جزء من نقاش ثقافي أوسع يشارك فيه مثقفون وكتّاب وفنانون ومسؤولون يسعون إلى المشاركة في رسم معالم اللحظة الراهنة والمستقبلية والإجابة عن أسئلة تتعلق بكيفية تطوير صناعة ظلت، لأسباب عدة متداخلة، راكدة لعقود خلت.

 

تطورات

منتصف أبريل/ نيسان 2018، بعد عامين من إطلاق «رؤية المملكة 2030»، أضاءت شاشة سينما (AMC) في مركز الملك عبدالله المالي بالرياض، معلنة عودة العروض السينمائية التجارية للمملكة، عقب انقطاع جاوز ثلاثة عقود. في نهاية الشهر نفسه افتتحت أول دار عرض متعددة الصالة داخل مجمّع تجاري في الرياض، تابعة لشركة (VOX) المألوفة للسعوديين بحكم انتشارها الخليجي. في العام نفسه ظهرت (MUVI) بصفتها أول علامة محلية لسلسلة دور عروض سينمائية.

دارت في تلك الفترة الأحاديث، وتباينت الآراء، حول جدوى الالتحاق بتجربة إنشاء دور العرض السينمائية، فيما يناقش المهتمون بأسواق عدة توقعات انهيار دور العرض لصالح المنصات المسبقة الدفع، وسيل التطبيقات على الهواتف الذكية، والأجهزة اللوحية التي خلّفت آثارها على وسائل الإعلام التقليدية على رغم تجذرها.

بعد أربع سنوات، في أبريل/نيسان 2022، نشرت وكالة الأنباء السعودية «واس»، إحصاء لافتا لما تحقّق من تقدم: 56 دار عرض، تشمل 518 شاشة، تنتشر في 20 مدينة، عرض عليها 1144 فيلما، في 22 لغة، ومن انتاج 38 دولة - تضمنت 22 فيلما سعوديا. فيما بلغت مبيعات التذاكر قرابة 31 مليون ريال، ووظف القطاع نحو 4500 سعودي وسعودية.

تجيب الأرقام عن أسئلة الجدوى التي أثارتها لحظات البداية، كما تفسّر النظرة الاستثمارية المتفائلة تجاه القطاع، التي تحملها أخبار لا تكاد تنقطع، ومن أمثلتها التحاق شركة (EMPIRE)، العاملة في العراق ولبنان بسوق دور العرض في السعودية، حيث تنشر دور عرضها اليوم في جدة والخبر وجازان وأبها وعرعر، وشركة (Cinepolis)، التي تأسست في المكسيك عام 1971، وتعمل في الإمارات والبحرين وعمان، وأسست أخيرا دور عرض لها في جدة والدمام وجازان، وكذلك افتتاح (Grand Cinemas) أولى دور عرضها السعودية، في أبحر بجدة، وهي شركة عاملة في البحرين والأردن والكويت ولبنان. كما نالت شركتا (Reel Cinemas) الإماراتية، و(Nu Metro) الجنوب أفريقية، ترخيصين في العام الحالي لتشغيل دور عرض سينمائية في المملكة.

 

تجيب الأرقام عن أسئلة الجدوى التي أثارتها لحظات البداية، كما تفسّر النظرة الاستثمارية المتفائلة تجاه القطاع

ترد الأخبار عن إنشاء (MUVI) شركة فرعية باسم «موفي ستوديوز» التي ستعمل على إنتاج الأفلام، في حين أعلنت شركة «مينومو» الأسبانية استثمارا مشتركا في صناعة المحتوى السينمائي في السعودية بقيمة 250 مليون دولار أميركي، وافتتاح مقر إقليمي في الرياض، وهي الشركة التي شاركت في إنتاج عدد من الأيقونات السينمائية العالمية، مثل «هاري بوتر» و«أفاتار». وكانت (VOX) السعودية أعلنت في عام 2018 استثمار ملياري ريال سعودي خلال الأعوام التالية، لإطلاق 600 شاشة عرض، وتوفير 3000 فرصة عمل للسعوديين، كما وقّعت شركة مختصة في مجال الترفيه - تتبع لصندوق الاستثمارات العامة- اتفاق شراكة في عام 2019 لدعم انتشار دور عرض (AMC)، التي بلغت اليوم إحدى عشرة دارا، نصفها خارج الرياض وجدة، في الخبر وحائل والمجمعة وحفر الباطن والدوادمي.

تتباين الروايات المتداولة عن بدايات دور السينما في السعودية، وأسباب توقفها، غير أن تقارير عدة تشير إلى توقفها في سبعينات القرن الماضي، وتشير روايات أخرى إلى أن العروض السينمائية في السعودية وجدت على نطاق ضيق ضمن أنشطة شركة «أرامكو» في الثلاثينات، وأن توسعها كان في مطلع السبعينات عبر عروض في الأندية الرياضية، وبعض البيوت، في الرياض وجدة والطائف، قبل توقفها نهاية العقد.

وعلى الرغم من الحضور المحدود لدور العرض المحلية، ثم انقطاعه لفترة طويلة، قبل 2018، إلا أن إنتاج أعمال سينمائية سعودية يسبق هذا التاريخ بسبعة عقود في أوسع الأقوال، حيث فيلم «الذباب» الذي أُنتج في عام 1950. ولم يظهر بعده فيلم سعودي قبل العام 1966، وهو فيلم «تأنيب الضمير» من اخراج سعد الفريح، على مسافة 11 عاما من فيلم «اغتيال مدينة» للمخرج عبدالله المحيسن، 1977، الذي يتناول ما آلت إليه بيروت خلال الحرب الأهلية. ثم فيلم «موعد مع المجهول» في عام 1980، ففيلم «الإسلام جسر المستقبل» لعبدالله المحيسن في عام 1982 الذي نال الجائزة الذهبية في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. قبل ظهور فيلم «الصدمة» للمخرج نفسه في 1991، الذي كان موضوعه غزو الكويت. وهذه القائمة غير المؤكدة، وغير المكتملة، لا تنقصها معلومات المخرجين والمؤلفين والممثلين وفرق العمل فحسب، بل أسئلة العرض في دور السينما خارج البلاد أيضا، بما يجعلها على الجملة ارهاصات لما بعدها، أكثر من كونها تراكما تاريخيا يمثل مرحلة يمكن تمييزها بملامح جامعة. فنحن أمام ما يبدو أنه مبادرات فردية، ومحاولات للتجربة.

2006 يبدو تاريخا مهما في سرد حكاية السينما السعودية، ولحظة جديرة بالتوقف، حيث أنتجت شركة «روتانا» فيلم «كيف الحال»، الذي صُوِّر في دبي، وعُرِض في دور عرض خليجية، وبطاقم عمل سعودي في معظمه تحت إدارة المخرج الفلسطيني إيزيدور مسلم. وبدأ مهرجان دولي. للأفلام في جدة، وشهد العام نفسه، انطلاق موجة من الأفلام القصيرة لمجموعة من المخرجين الشباب، تبعتها موجات مماثلة في الأعوام التالية، وبرز عدد من المخرجين والمؤلفين والممثلين المعروفين اليوم. من هنا يمكن اقتراح هذا التاريخ باعتباره لحظة انطلاق أكثر جدية مما سبق للحركة السينمائية في المملكة بوصفها صناعة إنتاج مستدام، أكثر من كونها مبادرات فردية.

 

ممارسات أهلية

في عام 2008 عُرِض في دبي فيلم «صباح الليل» للمخرج السوري مأمون البني، بطاقم عمل أغلبه من السعوديين. وفي العام نفسه ظهر حدث استثنائي في تاريخ السينما المحلية، كانت له آثار ممتدة، حيث ولد مهرجان «أفلام السعودية» في المنطقة الشرقية. وكان المهرجان ثمرة تعاون بين فرع جمعية «الثقافة والفنون» في الدمام، والنادي الأدبي بالشرقية، ليمثل التظاهرة الكبرى في تاريخ السينما المحلية. عرض خلال المهرجان 44 عملا سينمائيا محليا، وقدّمت جوائز محلية إلى صنّاع الأفلام، وكرّم المهرجان المخرج عبدالله المحيسن، وطبع إصدارات توثيقية لتاريخ السينما المحلية. يمكن اعتبار المهرجان أول ممارسة أهلية تعكس وجود مجتمع للصناعة السينمائية. لم يكن المهرجان الوحيد من نوعه، لكنه تميز باستقراره وتوالي إسهاماته، حيث واصل أعماله في دورات سنوية شبه منتظمة، ليعقد دورته الثامنة في يونيو/حزيران من العام 2022.

ثلاث سنوات أخرى من «كيف الحال»، قبل أن تنتج الشركة نفسها فيلم «مناحي»، وستزيد التجربة على سابقتها عرضه في جدة والطائف وجازان ثم في الرياض، لتشكّل التجربة جس نبض عفويّ للإقبال على دور السينما التجارية، التي ستفتتح بعد قرابة العقد من ذلك التاريخ. عُرِض الفيلم في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض، الذي احتضن قبل «مناحي» بستة أشهر عرضا جماهيريا لفيلم ياباني. وفي عام 2012، صوّرت المخرجة السعودية هيفاء المنصور أول فيلم طويل داخل السعودية، هو فيلم «وجدة»، عُرِض في عدد من المهرجانات السينمائية الأوروبية، ونال عددا من الجوائز فيها، بالإضافة إلى دخوله القائمة الطويلة لجائزة الأفلام الأجنبية في «الأوسكار».

وهذا السرد، وإن تخفف من أحداث لها أهميتها، وأعمال لها تقديرها، يقدم صورة عامة لذاكرة السينما في السعودية، فليس المراد بلوغه هنا بناء رصد دقيق، وإنما نسج قلادة تحيط بعنق التجربة، وتفيد بملامح للبدايات المتتابعة، والتجارب المبكّرة، التي مهدّت للمشهد السينمائي السعودي اليوم.

 

مرحلة جديدة

شهدت مرحلة ما بعد إطلاق رؤية المملكة 2030 إجراءات حكومية منظّمة للقطاع، حيث أنشئت الهيئة العامة للثقافة في منتصف عام 2016، لتشمل خمسة قطاعات، بينها الأفلام، ويبدأ فصل الثقافة عن وزارة الإعلام. كونت الهيئة المجلس السعودي للأفلام، قبل أن تلغى في أكتوبر/ تشرين الأول  2020، مع إحلال وزارة الثقافة وهيئاتها محل الهيئة العامة للثقافة.

المرحلة الراهنة هي البداية لحركة سينمائية احترافية، على صعيدي الإنتاج والتلقي، بما يحمله هذا القول من تأكيد صفتَي الاحتراف والبداية

وزارة الثقافة هي أول وزارة تنفرد في إدارة الشأن الثقافي في البلاد، فقد تولته دائما جهات تشرف على الثقافة بوصفها جانبا مما تشرف عليه. كما أنها الإدارة الثقافية الأولى في تاريخ المملكة التي تعتمد تعريفا أوسع للثقافة، وتغطي 16 اختصاصا. فللمرة الأولى تضم الثقافة الأزياء، والعمارة والتصميم، والطهي، وللمرة الأولى تنتقل المتاحف والتراث من السياحة إلى الثقافة. في منتصف 2018 أنشئت وزارة الثقافة التي ضمت إحدى عشرة هيئة حكومية، ضمنها هيئة الأفلام التي تأسست في فبراير/شباط من عام 2020. وفي نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2021 أطلقت الهيئة استراتيجيتها لقطاع الأفلام، وتضمنت استهداف إنتاج محتوى سينمائي محلي جذاب للجمهور السعودي والدولي، وتقديم المملكة مركزا عالميا رائدا لإنتاج الأفلام في منطقة الشرق الأوسط. ووفقا لوكالة الأنباء السعودية، كشفت الهيئة تفاصيل إستراتيجيتها التي استندت في بنائها إلى مقارنة معيارية مع أهم 20 دولة في صناعة السينما، لاستخلاص أفضل الممارسات المُتّبعة لتكوين إستراتيجية لقطاع الأفلام السعودي، تأخذ في الاعتبار متطلبات المرحلة، واحتياجات صنّاع الأفلام السعوديين، باختلاف تخصصاتهم. وخلصت المقارنة المعيارية إلى تحليل الوضع الراهن، والوصول إلى تعريف للقطاع، ومهام الهيئة واختصاصاتها، إضافة إلى المبادرات والبرامج والمشاريع.

 

استراتيجية

حدّدت إستراتيجية الهيئة رؤية تتمثل في «ترسيخ مكانة المملكة بوصفها مركزا عالميا لصناعة الأفلام في قلب الشرق الأوسط»، فيما نصّت رسالتها على «بناء قطاع أفلام سعودي إبداعي وتنميته، وتعزيز قدراته على مستوى الأسواق المحلية والدولية»، وذلك بالبناء على ستّ ركائز إستراتيجية هي: تطوير المواهب، والبنية التحتية، والإنتاج المحلي، والإنتاج الدولي في المملكة، والإطار التنظيمي، وتوزيع الأفلام وعرضها.

حددت الاستراتيجية أهدافها بضمان وصول قطاع الأفلام في المملكة إلى المواهب المؤهلة، وضمان حصول قطاع الأفلام السعودي على المرافق والخدمات المناسبة وبتكلفة تنافسية، وتحفيز الإنتاج المحلي للأفلام، إلى جانب جذب الإنتاج العالمي للأفلام إلى المملكة، وخلق بيئة تنظيمية تعزّز تنمية قطاع الأفلام، وتحفيز الطلب على الأفلام السعودية في الأسواق المحلية والعالمية المُختارة، معلنة في السياق نفسه 19 مبادرة لدعم القطاع وتمكينه، تشمل 46 مشروعا.

في مارس/آذار 2021، أطلق وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود، استراتيجية القطاع الثقافي غير الربحي، وتضمنت الاستراتيجية مبادرة لتكوين 16 جمعية مهنية للمثقفين والفنانين، بدعم من برنامج جودة الحياة، أحد برامج رؤية المملكة 2030، وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه أعلن إنشاء أول جمعية مهنية للسينمائيين السعوديين، تحت اسم «جمعية الأفلام»، لتضم المحترفين في الصناعة.

إلى جانب الجمعية المهنية، ظهر عدد من المنظمات غير الربحية في قطاع الأفلام، منها «مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» التي أنشأتها وزارة الثقافة، وتتولى تنظيم مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بجدة، بالإضافة إلى جملة من البرامج من أبرزها صندوق البحر الأحمر لدعم المشروعات السينمائية، وجمعية السينما بالمنطقة الشرقية التي آل إليها تنظيم مهرجان أفلام السعودية، وعدد من أندية هواة الأفلام مثل نادي ألوان السينما، ونادي الصالون السينمائي، ونادي «عرب آكت»، في جدة، ونادي وثيقة في الأحساء. تمثل هذه الكيانات، وجوها أهلية للقطاع، ومحفزا للمجتمعات المحلية للانخراط في تكوين صناعة سينمائية.

يحمل المشهد السينمائي المحلي الراهن طابع المعاصرة والتنظيم، بما يجعل العرض السينمائي حدثا يوميّا، ومجالا من مجالات الاستثمار

مرت السينما في السعودية، إذا، بأكثر من لحظة ميلاد، بداية بوجود مكان للعرض، مرورا بانتشار الأماكن المحدودة ثم انحسارها في السبعينات، انتقالا إلى الحضور في مناسبات استثنائية منتصف العقد الأول من القرن الميلادي الحالي، ووصولا إلى لحظة تدشين مشهد مختلف في 2018. وسار الإنتاج السينمائي المحلي في مسار موازٍ منذ مطلع الخمسينات، حيث المحاولات الفردية، منتقلا ببطء نحو إسهام مؤسسي عبر القطاع الخاص، وموجات الأفلام القصيرة، وصولا إلى العروض الجماهيرية المنتظمة في صالات تنتشر في المملكة، وخارجها. ومع أهمية الإشارة إلى جهود الرواد، والاعتزاز بمحاولاتهم، فإن من تحري الدقة القول إن المرحلة الراهنة هي البداية لحركة سينمائية احترافية، على صعيدي الإنتاج والتلقي، بما يحمله هذا القول من تأكيد صفتَي الاحتراف والبداية.

 

حدث يومي

يحمل المشهد السينمائي المحلي الراهن طابع المعاصرة والتنظيم، بما يجعل العرض السينمائي حدثا يوميّا، ومجالا من مجالات الاستثمار، في المعنيين الثقافي والتجاري. وتحفل شاشات دور السينما بعروض أفلام جديدة من مختلف أنحاء العالم، ليشاهد سكّان المملكة أحدث إنتاج السينما لحظة صدوره كرغيف ساخن، وليشارك الصنّاع المحليون بتجاربهم. وبدعم من التنظيم المؤسسي المتنامي للمشهد، يزداد الاقبال الجماهيري، ويرتفع مستوى جاذبية السوق المحلية، بما يكسبها موقعا متقدما على مستوى المنطقة، ويضمّها إلى قائمة الوجهات الدولية في المجال السينمائي.

يبدو مستقبل السينما في السعودية واعدا أكثر من أي لحظة مضت، وتزداد الحاجة إلى تعزيز المشهد السينمائي بمختلف عناصره، وخصوصا تنمية قدرات الصنّاع في مختلف مواقعهم، بما يشمل تشجيع مسار نقدي للأفلام يساعد على الفرز، ويعزز النضج، للجمهور والمبدعين، في آن واحد. السينما لا تولد في السعودية اليوم، وليست تجربة جديدة، لكنها تدخل في طور احترافي غير مسبوق، وتنمو في سياق اجتماعي وثقافي متميز عما سبقه، حيث تتحرك مصحوبة بمسارات تقدم عام في البلاد نحو الانفتاح على العالم، والتوسع في المشاريع الاقتصادية، وتنمية الثقافة والسياحة والترفيه بوصفها صناعات مستدامة، وإعادة بناء تكوينها الاجتماعي بما يشمله ذلك من تعزيز قيمها ودعم حيويتها وتحسين جودة الحياة فيها.

font change

مقالات ذات صلة