"بلانيت وورد" أول متحف للكلمة في العالم

DuHon Photography
DuHon Photography
متحف الكلمة

"بلانيت وورد" أول متحف للكلمة في العالم

واشنطن - الكلمة مزيج حروف يوصل رسالة هي المعنى، لكن هذا التعريف أضحى اليوم بديهيا لدرجة أننا ننسى أصوله الثورية. بدأت رحلة الكلمة قبل أزيد من أربعة آلاف عام في الشرق الأدنى القديم، حيث ظهرت أول أبجدية معروفة. وفي حوالي عام 1800 قبل الميلاد، ابتكر عمال آسيويون (بحسب رواية لم يسلم جميع المختصين بصحتها) في شبه جزيرة سيناء نظام كتابة مستوحى من الهيروغليفية المصرية. هذه الأبجدية المبكرة، المعروفة الآن باسم الأبجدية السينائية (نسبة إلى سيناء)، شكلت تحولا جذريا من نظم الكتابة المعقدة، مثل المسمارية والهيروغليفية، إلى نموذج صوتي أكثر سهولة. واكتشف العلماء أن النقوش التي عثر عليها تستخدم نظاما كتابيا أبجديا يقطع مع الأسلوب الكتابي التصويري أو المقطعي.

لم يكن هذا التحول لغويا فحسب، بل أحدث نقلة ثقافية أيضا. ذلك أن تقسيم اللغة إلى مجموعة صغيرة من الرموز تمثل الأصوات، جعل الكتابة والتدوين والتواصل في متناول عدد أكبر من الناس. نشر هذه الفكرة التجار الفينيقيون، ثم طورها الإغريق لاحقا، فولدت الأبجدية اللاتينية التي تستخدم في معظم أنحاء العالم اليوم. وشكل اختراع الأبجدية، والكلمة كما نعرفها، نقطة تحول في تاريخ البشرية. فقد ساهمت في ديمقراطية المعرفة، وحفظ الثقافة، وأرست الأساس للأدب والقانون وأصبحت الكلمات، التي كانت حكرا على النخبة، أدوات للتفكير والتجارة والهوية.

كي لا تشعر الكلمة بالبرد والوحدة في شتاء عصر الصورة بني لها في واشنطن العاصمة متحف خاص كي يأويها افتتح في 2020 تحت اسم ”بلانيت وورد“ يستطيع زواره أن يعيشوا علاقة خاصة مع الكلمة في سياقها الفكري والشعري، ويفتحوا نافذة على تاريخها وإمكاناتها التواصلية في تجربة لغوية انغماسية جعلت شهرة المتحف تحلق في الآفاق.

خلفية تاريخية

تجمع المصادر أن جذور فكرة المتحف تعود إلى عصور سالفة عكف الإنسان فيها على جمع أشياء نادرة ومميزة أضفيت عليها قيمة ثقافية أو تاريخية أو دينية أو علمية. إلا أن المتحف كما نعرفه اليوم تطور تدريجيا عبر القرون، ومر في مراحل متعددة حتى وصل إلى شكله الحالي، وانتقل من الاقتناء الخاص إلى العرض العام، فأصبحت المتاحف مؤسسات عامة تسعى إلى حفظ التراث ونقله إلى الأجيال.

شكل اختراع الأبجدية، والكلمة كما نعرفها، نقطة تحول في تاريخ البشرية. فقد ساهمت في ديمقراطية المعرفة، وحفظ الثقافة، وأرست الأساس للأدب والقانون

يقول المؤرخون إن أول من أنشأ ما يمكن وصفه بأنه متحف الأميرة البابلية إنيغالدي-نانا في القرن السادس قبل الميلاد، التي جمعت في قصرها قطعا أثرية قديمة تنتمي إلى حضارات سابقة، ووضعت لها بطاقات تعريف. واعتبر هذا أول محاولة توثيقية منظمة لجمع التراث الإنساني. اكتشف علماء الآثار هذا المتحف الصغير في مدينة أور، وكان أقدم مثال على التوجه لبناء المتاحف في التاريخ. لاحقا، انتقلت فكرة الجمع في العصور الوسطى إلى طبقات الملوك والنبلاء في أوروبا الذين احتفظوا بمقتنيات نادرة وفريدة داخل قصورهم. إلا أن هذه المجموعات كانت خاصة، لم تعرض للعامة، وغالبا ما عبرت عن المكانة الاجتماعية أو الدينية لمالكيها. وظهر في عصر النهضة الأوروبية، تحديدا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ما عرف باسم خزائن العجائب، أو خزائن الفضول، وهي غرف أو خزائن تحتوي على مجموعات من أشياء غريبة ونادرة تعكس الجمع بين المعرفة والعلم والفن. وشكلت هذه الخزائن بدايات فكرة المتحف، لكنها ظلت مقتصرة على العلماء والأثرياء.

DuHon Photography
متحف الكلمة

بدأ التحول الحقيقي نحو المتحف العام في القرن السابع عشر، عندما تأسس متحف "آشمولين" في جامعة أكسفورد عام 1638، ويعتبر أول متحف عام حديث يفتح للجمهور. جاءت الفكرة من إلياس آشمول السياسي الإنكليزي المتخصص في الآثار، الذي تبرع بمجموعته الخاصة للجامعة، مشددا على ضرورة إتاحتها للناس لأغراض تعليمية ومعرفية. منذ تلك اللحظة، بدأت فكرة المتحف تتشكل بوصفه مؤسسة تعليمية وثقافية تخدم المجتمع، وليس فقط كمكان للتخزين أو التفاخر بالمقتنيات. وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومع صعود أفكار التنوير، التي شددت على دور العلم والمعرفة في خدمة البشرية، بدأت المتاحف تتخذ طابعا وطنيا ورسميا، حيث أنشأت الدول متاحف ضخمة لعرض تراثها وتاريخها أمام مواطنيها والعالم. إلا أن هذه المتاحف كانت تهتم إما بالكتب والمخطوطات، أو القطع الفنية والنقود والتماثيل واللوحات وهذا ما يجعل متحف "بلانيت وودرد" الذي افتتح سنة 2020 في واشنطن متحفا فريدا من نوعه.

DuHon Photography
متحف الكلمة

قصة المتحف

في بناء كلاسيكي شيد من الطوب الأحمر على بعد خطوات من البيت الأبيض، يتوضع متحف "بلانيت وورد"، أول متحف في العالم مخصص للغة، ويعتمد التقنيات الصوتية لخدمة هذا الغرض، وهو ليس مجرد تجربة تقنية متقدمة، بل ثمرة رؤية شخصية عميقة، وجهود تواصلت لسنوات، والتزام بإعادة تصور الطريقة التي ننظر بها إلى الكلمات والتعليم والحياة المدنية.

بدأت فكرة المتحف تتشكل بوصفه مؤسسة تعليمية وثقافية تخدم المجتمع، وليس فقط كمكان للتخزين أو التفاخر بالمقتنيات

بدأت قصة المتحف مع سيدة أميركية اسمها آن فريدمان، وهي معلمة سابقة وناشطة في مجال مكافحة الأمية. خطرت لها فكرة المتحف عام 2012 أثناء زيارتها لمتحف الرياضيات الوطني في نيويورك حيث تساءلت: لماذا لا يوجد متحف مشابه للكلمات؟ خاصة أن محو الأمية يشكل أساس بناء الديمقراطية وتعميق الثقافة. قررت فريدمان أن تسد هذا الفراغ، فأسست منظمة غير ربحية، وبدأت في التواصل مع الخبراء في التعليم واللغات، ودرست كيفية إنشاء المتاحف. وعثر حلمها على مقره في مبنى مدرسة فرانكلين، وهو مبنى شيد في القرن التاسع عشر، وكان خاليا ومهملا في وسط العاصمة واشنطن. بني عام 1869 وله بصمة في تاريخ الاتصالات: ففي عام 1880، أرسل ألكسندر غراهام بيل أول رسالة صوتية لاسلكية من سطحه. وعندما عرضت المدينة المبنى للتجديد عام 2017، اختير اقتراح فريدمان لتحويله إلى متحف للغة. وكان ذلك تحديا مزدوجا: ترميم مبنى مصنف كمعلم تاريخي ودمجه بأحدث تقنيات القرن الحادي والعشرين.

DuHon Photography
متحف الكلمة

لم تكتف فريدمان باقتراح الفكرة، بل سعت بنفسها لتأمين التمويل اللازم وجمعت 25 مليون دولار من داعمين مثل شركة "إي تي آند تي" ومؤسستي "بلومبيرغ" و"مايكروسوفت" وغيرها. ولم يكن الهدف إنقاذ مبنى تاريخي وترميمه فحسب، بل تحويله أيضا إلى مركز ثقافي تفاعلي يربط الماضي بالمستقبل. وعندما فتح المتحف أبوابه في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، في ظل جائحة كوفيد19، أقيم حفل افتراضي بمشاركة الرئيس الأسبق باراك أوباما والموسيقي بول سايمون والممثلة آنا ديفير سميث وعمدة واشنطن موريل باوزر. ومنذ ذلك الحين، أصبح المتحف مركزا حيويا للمجتمع، ومكانا تعليميا يجذب الزوار من جميع الأعمار لاكتشاف متعة اللغة. لكن رسالة "بلانيت وورد" تجاوزت الترفيه، إذ سعى المتحف لتعزيز محو الأمية، وتشجيع الحوار المدني الراقي عن طريق قوة الكلمات. وما بدأ كفكرة لدى امرأة لجعل اللغة مرئية ومسموعة ومحسوسة، أصبح مؤسسة نابضة بالحياة، برهنت أن الكلمات في الأيدي المناسبة قادرة على بناء عوالم.

"شجرة الكلام" ترحب بالزوار

ما إن تطأ قدماك متحف "بلانيت وورد"، حتى تستقبلك تجربة سمعية بصرية مدهشة: "شجرة الكلام"، وهي منحوتة تفاعلية مذهلة أبدعها الفنان المكسيكي الكندي رافائيل لوزانو هيمر، في شكل شجرة ضخمة تنبعث منها أصوات مسجلة بلغات متعددة، تخرج من مكبرات صوت مخفية بين أغصانها، كأن الكلمات نفسها تتفتح كالزهور على حد تعبير أحد الكتاب الذين وصفوها. "شجرة الكلام" ليست مجرد عمل فني، بل مدخل إلى فكرة المتحف بأكملها: اللغة بوصفها عنصرا حيا وكونيا متأصلا في الطبيعة والهوية البشرية. تأخذنا الشجرة في رحلة لغوية حول العالم تذكرنا بأن اللغة ليست فقط وسيلة تواصل، بل أيضا ما يشكل مجتمعاتنا، ويجمع بين ثقافاتنا المختلفة. وتمهد هذه التحفة الفنية الطريق لتجربة فريدة من نوعها، حيث تتحول الكلمة من شيء مكتوب، أو منطوق، إلى شيء محسوس ومجسد ومسموع في الفضاء العام.

ما بدأ كفكرة لدى امرأة لجعل اللغة مرئية ومسموعة ومحسوسة، أصبح مؤسسة نابضة بالحياة، برهنت أن الكلمات في الأيدي المناسبة قادرة على بناء عوالم

في الطابق العلوي يستكشف الزوار معرض "العالم المنطوق"، حيث تضيء كرة أرضية ضخمة برسوم متحركة مبهرة أثناء تلقيهم دروسا افتراضية لتعلم لغات من مختلف أنحاء العالم. وفي معرض "من أين تأتي الكلمات؟" يتحدث جدار ناطق تغطيه الكلمات معهم، كاشفا عن أصول الكلمات الإنكليزية وقصة تطورها. وفي قسم "عوالم الكلمات"، يستطيع الزوار الرسم بالصفات عبر إسقاطات رقمية تفاعلية تظهر كيف تلون الكلمات الوصفية تصوراتنا للعالم. وفي "المكتبة"، تنبض الكتب بالحياة بفضل مؤثرات هولوغرافية ومجسمات تظهر عند تقليب الصفحات، أو قراءتها بصوت عال، ما يجعل من القراءة تجربة حسية بامتياز.

DuHon Photography
متحف الكلمة

محتوى تفاعلي

يقدم المتحف أيضا محتوى تعليميا تفاعليا في عدة معارض مثل "الكلمات مهمة"، و "أعرني سمعك"، عبر شاشات تعرض الكلمات المنطوقة، ومقاطع فيديو تعليمية، وألعابا لغوية. وفي قسم "قمت بالبيع"، يتعلم الزوار مهارات كتابة الإعلانات، ويصممون إعلاناتهم الخاصة على شاشة تفاعلية مصممة لهذا الغرض.

أما محبو الموسيقى فتتاح لهم فرصة الغناء في صالة كاريوكي، مع تحليل لغوي لكلمات أشهر الأغاني. وتعكس الأجواء الصاخبة والأضواء الساطعة كيف تتشابك الكلمات مع الإيقاع لصناعة تجربة فنية متكاملة.

وفي المكتبة باب سري يقود إلى زاوية شعرية هادئة، تجسد انعكاسا لدور الكتابة الإبداعية في تحفيز الخيال والتأمل. ومن اللحظة الأولى في مصعد المتحف المصمم كرفوف مكتبة، وحتى آخر محطة في المعارض التفاعلية، يقدم متحف "بلانيت وورد" تجربة لا تنسى، تثبت أن الكلمة أكثر من مجرد أداة، أنها حياة.

DuHon Photography
متحف الكلمة

اللغة العربية

يقدم المتحف اللغة العربية بين لغاته المحتفى بها، لا كواحدة من اللغات الحية الأكثر انتشارا في العالم فحسب، بل أيضا بوصفها لغة تحمل في طياتها تاريخا طويلا من الشعر والفكر والخط. فقد استضاف المتحف ورشة عمل خاصة لتسليط الضوء على جماليات الخط العربي قدمها الفنان والخطاط محمد بلبيسي بعنوان "الخط العربي المرئي"، حيث قدم للجمهور محاضرة حول تطور الخط العربي وأساليبه المتنوعة ودلالاته الرمزية والجمالية، وقاد مشغلا مارس فيه الزوار كتابة الخط العربي بإشرافه.

يقدم المتحف اللغة العربية بين لغاته المحتفى بها، لا كواحدة من اللغات الحية الأكثر انتشارا في العالم فحسب، بل أيضا بوصفها لغة تحمل في طياتها تاريخا طويلا من الشعر والفكر

لا تظهر هذه الفعاليات البعد الفني للغة فحسب، بل تعزز أيضا الفهم الثقافي والتواصل بين المجتمعات المختلفة. ويفتح "بلانيت وورد" المجال أمام تساؤل أعمق: ماذا يعني أن يكون للكلمة متحف؟ الجواب هو أن هذا يشكل اعترافا بأهمية اللغة في تشكيل الوعي الجمعي والفردي، وفي بناء جسور التواصل بين البشر، وتوثيق لحظات الحياة اليومية على حد سواء. فالكلمات ليست وسيلة تعبير فحسب، بل سجل لذاكرة الإنسان وتاريخه ومخيلته أيضا. ولهذا فإن المتحف لا يكتفي بعرض المعلومات، أو تقديم الحقائق، بل يدعو زواره إلى التفكير في اللغة بوصفها كائنا حيا يتطور ويتغير.

DuHon Photography
متحف الكلمة

علاوة على ذلك، يلعب الشعر دورا محوريا في تجربة المتحف، حيث خصص له مكان هادئ يستعرض قصائد من مختلف أنحاء العالم. تعرض هذه القصائد على الجدران وتظهر وتختفي بهدوء، كما تقرأ بأصوات متعددة، ما يضفي على التجربة طابعا وجدانيا وتأمليا. ويهدف هذا القسم إلى تسليط الضوء على مكانة الشعر بوصفه الشكل الأرقى للغة، ووسيلة استثنائية للتعبير عن التجربة الإنسانية في كلمات قليلة.

يتجاوز متحف "بلانيت وورد" حدود المتحف التقليدي، ويشكل مساحة تفاعلية تعيد الاعتبار للكلمة في زمن السرعة والتواصل السطحي. وينشئ ببرامجه ومعارضه وأنشطته الثقافية وأمسياته الشعرية علاقة جديدة بين الناس واللغة مبنية على الفضول والتفاعل والمتعة. وفي مدينة مثل واشنطن العاصمة، تزدحم بالمؤسسات السياسية والثقافية والمقرات الحكومية، يأتي هذا المتحف كإضافة مختلفة يكتشف فيها الزائر أن الكلمة هي الأهم، لأنها أصل كل فكرة وخطاب وحضارة.

font change