العلاقات السعودية الصينية من الهامش إلى المتن

علامة فارقة في العلاقات الدولية

رويترز
رويترز
العلمان السعودي والصيني في ساحة تيانانمين خلال زيارة ولي العهد محمد بن سلمان الصين، 21 فبراير 2019

العلاقات السعودية الصينية من الهامش إلى المتن

تشكل العلاقات السعودية الصينية علامة فارقة في العلاقات الدولية لناحية قصر المدة الزمنية ومتانة العلاقة. تأسست الصين الجديدة بعد انتصار الحزب الشيوعي الصيني في عام 1949، في حين تأسست المملكة العربية السعودية 1932 على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، إلا أن البلدين لم يدشنا علاقاتهما الديبلوماسية إلا مطلع عام 1990 أي قبل ما يقارب 35 سنة.

كانت السعودية آخر دولة خليجية تقيم علاقات ديبلوماسية مع الصين. حينها كانت الرياض متوجسة من الإيديولوجيا الشيوعية الثورية للحزب الشيوعي الصيني بسبب تباين النهج بين حكومتي البلدين آنذاك خصوصا خلال عهد المؤسس والرئيس ماو تسي تونغ الذي كان يعتمد نهج الحزب في التشدد تجاه المسلمين الصينيين حيث يقدم الإيديولوجيا الشيوعية على المصالح الاقتصادية حينها.

على أية حال، برغم حداثة العلاقة الديبلوماسية، إلا أنهما حافظا على علاقات تجارية سابقة لهذا التاريخ-اقصد بذلك العلاقات بين الصينيين وسكان الجزيرة العربية- تعود جذورها إلى طريق الحرير التاريخي الذي ربط بين الصين والعالم بشكل عام، والصين وجزيرة العرب بشكل خاص. لقد ساهم طريق الحرير البري والبحري القديم في نقل الحرير الصيني الى جزيرة العرب، كما نقل التجار العرب البضائع العربية من البخور والعطور واللؤلؤ إلى الصين من خلاله.

خلال زيارة الرئيس جيانغ منطقة الجبيل الصناعية ومقر شركة "أرامكو" في المنطقة الشرقية عام 1999، وقع أول اتفاقية تعاون استراتيجي في مجال الطاقة، مما سمح للشركات الصينية بالاستثمار في سوق النفط المحلية السعودية، وارتفعت قيمة الصادرات النفطية السعودية إلى الصين ووصلت الى 1.5 مليار دولار في عام 2000

بعيدا من التاريخ البعيد، أو التاريخ الحضاري الذي يربط البلدين، بالمقارنة مع العلاقات التجارية بين الدول، كانت العلاقات التجارية الثنائية هامشية، إذا ما أخذنا في الحسبان المعايير الاقتصادية والتجارية. في عام 1990، العام الذي دشنت فيه العلاقة الديبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والصين، بلغ حجم التبادل التجاري الثنائي 417 مليون دولار أميركي فقط.

انطلاقا من هذه المقدمة التاريخية المختصرة، يمكننا تقسيم العلاقات الاقتصادية بين الصين والمملكة العربية السعودية ثلاث مراحل مفصلية.

المرحلة الأولى، يمكن حصرها في السنوات من 1990 إلى عام 2005. في عام 1991 زار رئيس مجلس الدولة الصيني لي بينغ المملكة العربية السعودية في أرفع زيارة لمسؤول صيني إلى المملكة منذ وصول الحزب الشيوعي إلى الحكم، في حين زار بكين في عام 1998 الملك عبد الله بن عبد العزيز بصفته وليا للعهد، أما في عام 1999 فقد زار شي جين بينغ المملكة، كما زار الصين الملك سلمان بن عبد العزيز في العام نفسه.

رويترز
وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان، يتحدث في جلسة خلال مؤتمر الأعمال العربي- الصيني، في الرياض، 11 يونيو 2023

قاد هذا النشاط الديبلوماسي المؤثر البلدين الى توسيع شراكاتهما التجارية، وخلال هذه المرحلة اعتمدت التجارة بين البلدين على تصدير المملكة العربية السعودية للنفط الخام ومنتجات البتروكيماويات، في حين تركزت الواردات الصينية على المنسوجات والآلات.

ضمن هذه المرحلة الأولى، وعلى سبيل المثل لا الحصر، قام الرئيس الصيني جيانغ تسه مين، بزيارة رسمية للمملكة عام 1999 بدعوة من الملك فهد بن عبد العزيز، وقد زار الرئيس جيانغ منطقة الجبيل الصناعية ومقر شركة "أرامكو" في المنطقة الشرقية، ووقع أول اتفاقية تعاون استراتيجي في مجال الطاقة، مما سمح للشركات الصينية بالاستثمار في سوق النفط المحلية السعودية، وللشركات السعودية بالمشاركة في عمليات تكرير النفط. كنتيجة لتلك المساعي الحيثية من قيادة البلدين، ارتفعت قيمة الصادرات النفطية السعودية إلى الصين ووصلت الى 1.5 مليار دولار في عام 2000.  

لطالما كانت مسألة الطاقة محور العلاقة الاقتصادية بين البلدين، فقد قفزت العلاقة التجارية من 43 مليار دولار أميركي في عام 2010 إلى 58.8 مليار دولار في عام 2011.

المرحلة الثانية، انطلقت في عام 2006، عندما اختار الملك عبد الله بن عبد العزيز الصين كأول زيارة خارجية بعد توليه الحكم، وهي أول زيارة لملك سعودي إلى الصين، الأمر الذي أعطى إشارة لا لبس فيها الى المنحى التصاعدي لتطور العلاقات السياسية الاقتصادية بين البلدين، وانتقالها إلى مستوى أعمق وأكثر استراتيجية مما كانت عليه. خصوصا، مع ما خلفه غزو العراق من توتر في العلاقات السعودية الأميركية في تلك المرحلة.

شهدت هذه المرحلة تغيرا جوهريا في سوق النفط الخام عالميا في توسع أميركا في القطاع النفطي وتوسع روسيا في زيادة قاعدة المشترين الأوروبيين، في حين بقيت المملكة العربية السعودية من أكبر مصدري النفط في العالم، وباتت الصين المشتري الأول للنفط السعودي، مما دعا بعض المحللين الأميركيين للقول بأن مسألة أمن الطاقة في الخليج أصبحت ذات أولوية بالنسبة الى بكين أكثر منها لواشنطن، لأن أميركا تحولت من دولة مستوردة للنفط إلى دولة مصدرة ومكتفية ذاتيا.

على الجانب الصيني، تضاعف الطلب على النفط الخام تزامنا مع النمو المطرد للاقتصاد الصيني. إجمالا، حقق الاقتصاد الصيني نموا يفوق 10% لمدة 16 سنة تقريبا. خلال هذه المرحلة وقّعت شركة "أرامكو" السعودية، أكبر شركة مصدرة للنفط الخام في العالم، اتفاقية شراكة مع شركة "سينوبك" الصينية. لطالما كانت مسألة الطاقة محور العلاقة الاقتصادية بين البلدين، فقد قفزت العلاقة التجارية من 43 مليار دولار أميركي في عام 2010 إلى 58.8 مليار دولار في عام 2011.

رويترز
الشركة الصينية للطاقة Sinopec، في معرض تجارة الطاقة، كولومبيا، كندا، 12 يوليو 2023

إيمانا بفكرة المنفعة المتبادلة التي تستخدمها الصين كوسم خاص في علاقاتها الخارجية، ارتسمت طبيعة العلاقة المتطورة بين البلدين، كما تزامنت المصالح الاقتصادية بطموحات القيادة في كلا البلدين، اللذين، وإن افترقا إيديولوجيا، إلا أنهما اتفقا على الأولوية للاقتصاد والتنمية. إن هذا الاتفاق ناتج من إدراك كلا القيادتين أن العالم قد تغير، وأن مكانة الإيديولوجيا التي هيمنت في زمن التأسيس لم تعد صالحة في زمن تشكل فيه التحالفات الاقتصادية الركن الأساس للعلاقات بين الدول الحديثة. 

من الأمثلة على المشاريع الاستراتيجية التي نفذتها شركات صينية في المملكة، بناء خط سكة الحديد، مكة المكرمة-المدينة المنورة-جدة في عام 2009، كما ساعدت شركة "سينوما" الدولية للهندسة الصينية في بناء أكبر محطة للطاقة في الشرق الأوسط، شمال مدينة جدة.

في عام 2016 شاركت المملكة في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الذي أسسته الصين بمبلغ 2.5 مليار دولار، حيث بلغت حصتها 2.5%.

المرحلة الثالثة بدأت في عام 2013، فقد أصبحت الصين أكبر شريك تجاري للمملكة العربية السعودية لأول مرة حيث بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين حينها 69.1 مليار دولار أميركي، محققة بذلك نموا قدره 230 ضعفا، بحسب ما ورد في مقالة لصحيفة "الشعب" الصينية بعنوان "الصين والسعودية تعززان العلاقات الثنائية وتتطلعان إلى تعزيز التعاون في القدرة الصناعية"، مقارنة بالفترة الأولى لإقامة العلاقات الديبلوماسية مطلع التسعينيات، ومنذ ذاك الحين أصبحت الصين الشريك التجاري الأول للمملكة.

رؤية 2030 ومبادرة الحزام والطريق: شراكة استراتيجية متكاملة

في الأعوام التي تلت 2016، حدثت مجموعة من الزيارات التاريخية بين البلدين. فبعد أن زار الرئيس الصيني شي جين بينغ العاصمة الرياض حيث وقع اتفاقية "الشراكة الاستراتيجية الشاملة"، وهي اتفاقية الشراكة الأعلى مستوى في هرم العلاقات الديبلوماسية الصينية، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بأول زيارة له كملك إلى جمهورية الصين الشعبية.

ووضعت "رؤية 2030" و"مبادرة الحزام والطريق" على سلم أولويات التعاون الثنائي، كما زار ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بكين في عام 2019.

أظهر هذا التطور في العلاقة الثنائية المكانة التي ترى من خلالها الصين موقع المملكة العربية السعودية على الساحة العالمية. شملت الاتفاقيات الموقعة بين البلدين مجالات حيوية هي: المجالات السياسية، والاقتصادية والتجارية، والثقافية والإنسانية، والعسكرية والأمنية وكذلك الطاقة. هكذا تحولت الرياض إلى محور علاقات الصين بالشرق الأوسط.

في العودة إلى المسألة الاقتصادية، من المفيد أن نستعرض بعض النماذج الاستثمارية التي نشأت بعد تلك الزيارة التاريخية. ففي عام 2016 شاركت المملكة في "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الذي أسسته الصين بمبلغ 2.5 مليار دولار، حيث بلغت حصتها 2.5%.

رويترز
ناقلات نفط في ميناء مقاطعة جيانغسو، الصين 11 يونيو 2019

هناك أيضا استثمارات سعودية–صينية مشتركة في البتروكيماويات والتكرير، مثل مشروعات "أرامكو" في الصين (تكرير ومجمعات بتروكيميائية) ومساهمة شركات صينية في مشاريع داخل المملكة. مما لا شك فيه أن أمن الطاقة لا يزال يحتل مكانة القلب في العلاقات بين المملكة والصين، فقد شكل النفط الخام أكثر من 70% من صادرات السعودية إلى الصين خلال غالبية الفترة 2013–2023، إلا أن قطاعات كثيرة دخلت على خطة الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية بين البلدين. ولم تعد الشراكة مقتصرة على الطاقة التقليدية، بل امتدت لتشمل قطاعات المستقبل. فالشركات الصينية لها حصة وازنة ضمن أهم مشاريع التحول الرقمي في المملكة، كالجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة السحابية، والتجارة الإلكترونية. وتعمل شركات مثل "تنسينت"، و"علي بابا كلاود"، و"هواوي كلاود" على تطوير البنية التحتية الرقمية في المملكة.

لو وضعنا العلاقات الثنائية بين البلدين على خط بياني خلال الخمسة والثلاثين عاماً الماضية، لوجدنا أنها ذات منحنى تصاعدي متواصل

من الأمثلة على تلك المشاريع، مشروعات الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر. في عام 2024، أعلنت شركة China Energy Engineering صفقة إنشاء محطة طاقة شمسية بقدرة 2 جيغاواط بقيمة تقارب 972 مليون دولار بالتعاون مع شركاء سعوديين مثل "أرامكو باور".

للشركات الصينية حصة وازنة ضمن أهم مشاريع التحول الرقمي في المملكة كشبكة 5 جي- الذكاء الاصطناعي- الحوسبة السحابية- التجارة الإلكترونية. تعمل أبرز شركات التقنية الصينية على تطوير الحوسبة السحابية في المملكة، ومن أبرز تلك الشركات "تنسينت"، "علي بابا كلاود"، و"هواوي كلاود". 

لو وضعنا العلاقات الثنائية بين البلدين على خط بياني خلال الخمسة والثلاثين عاما الماضية، لوجدنا أنها ذات منحنى تصاعدي متواصل، بل ويتوسع بشكل مضطرد. فقد وصل حجم التبادل التجاري بين البلدين الى 107 مليار دولار بعد أن كان بضعة مئات الملايين، كما أن الصين تعد الشريك التجاري الأول للمملكة منذ عام 2013. علاوة على ذلك، أصبحت الصين أكبر مستثمر أجنبي مباشر في المملكة، باستثمارات بلغت 16.8 مليار دولار أميركي في عام 2023. بحسب تصريح وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح تعمل في المملكة الآن 1005 شركات صينية، من ضمنها 35 شركة اختارت المملكة كمقر إقليمي لعملياتها. كما تعمل في الصين قرابة 400 شركة سعودية.

.أ.ف.ب
مقر شركة "أرامكو" في مركز الملك عبد المالي، وسط الرياض، 16 أبريل 2023

إن هذه القفزة في العلاقات لا تمثل مجرد نمو كمي، بل هي مؤشر لا شك فيه الى تحول نوعي، حيث انتقلت العلاقة من طور التجارة الثنائية المعتمدة على النفط مقابل السلع الاستهلاكية إلى طور الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي ترسم ملامح مستقبل البلدين والمنطقة.

إن أي فحص لمسار تلك العلاقة التاريخية الممتدة لقرابة 35 عاما، يجد أنها ذات منحى واحد، وهو دون أدنى شك منحى تصاعدي. وعليه، فإن التطلع دائما هو نحو تعزيز تلك العلاقة عبر إدراج المزيد من المجالات لتلك الشراكة، خصوصا العالية التقنية والعلمية، التي ترتكز عليها المشاريع الاستراتيجية الكبرى في صوغ السياسات الاقتصادية والديبلوماسية لكلا البلدين.

font change