تخيل أن طالب علم عربي من بغداد العباسية في القرن العاشر الميلادي، كسر حاجز الزمن وسافر عبر قرون التاريخ ليحط رحاله في قاعات جامعة "أكسفورد" أو "السوربون" في عصرنا الحديث. سيجلس بهدوء في قاعة محاضرات حديثة، يتأمل الطلاب والمعيدين والأساتذة والمحاضرين وهم يتبادلون المعرفة في مشهد يبدو له مألوفا، لا غريبا.
سيلاحظ بارتياح أن هذا "العالم الجديد" لا يختلف كثيرا عن مدرسته التي جاء منها في بغداد، حيث حلقات العلم، والدرس الجماعي، والمناظرات، وسلاسل التلقي، وأساتذة يقودون مجلسا علميا صارما، وطلابا يتدرجون في مراتب الفهم حتى يمنحوا الإجازة.
حين ننظر اليوم إلى الجامعات الكبرى التي تتصدر المشهد العلمي العالمي، من "هارفرد" إلى "أكسفورد"، و"كمبريدج"، قد يتبادر إلى الذهن أن هذه المؤسسات ولدت حصرا من رحم الحضارة الأوروبية. غير أن الباحث الأميركي جورج مقدسي في عمله الفذ "نشأة الكليات: معاهد العلم عند المسلمين وفي الغرب" (2013) The Rise of Colleges: Institutions of Learning in Islam and the West يعيد مساءلة هذا التصور السائد، ويكشف أن جذور فكرة الجامعة الحديثة تمتد عميقا في تربة الحضارة الإسلامية.
يقدم مقدسي، بمزيج من الصرامة العلمية والوعي النقدي، أطروحة مؤداها أن النظم التعليمية الإسلامية، وعلى رأسها المدرسة، والإجازة العلمية، والمناظرة الجدلية، شكلت القالب الأول الذي تطورت منه الكليات والجامعات الأوروبية في القرون الوسطى. وأن أثر الحضارة الإسلامية لم يقف عند حدود الشكل المؤسسي، بل شمل المضامين الفكرية والمنهجية التي غذت البنية العقلية لأوروبا الناهضة.
المدرسة الإسلامية: مولد المؤسسة الأكاديمية
في قلب العالم الإسلامي، منذ القرن الرابع والخامس الهجري (العاشر والحادي عشر الميلادي)، بدأت تتبلور المدرسة بوصفها مؤسسة تعليمية مستقلة ومنظمة، تختلف جوهريا عن الحلقات العلمية المفتوحة التي كانت تقام في المساجد. فجاءت المدرسة بوصفها خطوة مؤسسية متقدمة، تهدف إلى تنظيم طلب العلم، وتأمين بيئة معرفية متكاملة للطلاب والعلماء على حد سواء.
لم تكن المدارس مجرد تجمعات عشوائية لطلاب العلم، بل مؤسسات ذات بنية متماسكة، تقوم على ثلاثة أركان رئيسية:
- هيكل إداري وتعليمي واضح، يتكون من شيخ يتولى الإشراف العلمي والإداري، وهيئة تدريسية من العلماء، وطلاب مقيمين يتم تأهيلهم في سلم تعليمي متدرج.
- تمويل وقفي مستدام، إذ كانت المدرسة تعتمد على الأوقاف التي يوقفها السلاطين والعلماء والأثرياء، لتوفير رواتب المعلمين، وإعاشة الطلاب، وصيانة المرافق، وشراء الكتب.
- منهج دراسي منتظم، يبدأ بعلوم الشريعة واللغة العربية، ثم يتوسع ليشمل المنطق، الفلسفة، الطب، الرياضيات، وغيرها من العلوم العقلية، بحسب موقع المدرسة وتياراتها الفكرية.
ولعل المدرسة النظامية في بغداد، التي أسسها الوزير السلجوقي نظام الملك عام 459هـ (1067م)، تمثل الذروة المؤسسية لهذا النموذج، فقد كانت أول مدرسة تتمتع بتنظيم إداري ومالي وتعليمي مكتمل، واختير لها نخبة من العلماء على رأسهم الإمام الغزالي.
مهد هذا النموذج الطريق لتأسيس تصور جديد عن المؤسسة العلمية، لا بوصفها مجرد مكان للدرس، بل كيانا اجتماعيا وثقافيا مستقلا، يعيش فيه الطلاب ويتدرجون في مراتب الفهم والتخصص.