العثور على نقوش صخرية عمرها 12 ألف عام في السعودية

فن صخري يوثق حياة الإنسان في زمن الصحراء الخضراء

Sahout Rock Art and Archaeology Project
Sahout Rock Art and Archaeology Project
لوحات فنية صخرية في جبل عرنان تبرز طبقات من النقوش، حيث تظهر المرحلة ١ باللون الأخضر، والمرحلة ٢ باللون الأصفر، والمرحلة ٣ باللون الأبيض، والمرحلة ٤ بدرجات من الأزرق

العثور على نقوش صخرية عمرها 12 ألف عام في السعودية

لطالما كانت الجزيرة العربية تصور في الوعي العام باعتبارها أرضا قاحلة يغلب عليها الجفاف والصحاري الممتدة بلا نهاية، لكن الدراسات الحديثة تكشف أن هذه الصورة ليست ثابتة على مدار التاريخ الجيولوجي والبشري.

فخلال الفترات الجليدية والهولوسينية، عرفت هذه المنطقة تحولات مناخية جذرية جعلتها في أحيان أشبه بواحات خضراء غنية بالبحيرات والأنهار الموسمية. هذه التحولات لم تكن مجرد خلفية طبيعية؛ بل شكلت الإطار الذي ولدت فيه قصص البشر الأوائل، وصاغت علاقتهم بالمكان، وساهمت في تشكل أنماط حياتهم، من الصيد والترحال إلى بدايات الاستقرار الزراعي.

تكمن الأهمية العلمية لهذه التحولات في أنها تساعدنا في سد فجوات كبيرة في تاريخ البشرية. ففي حين أن مصر وبلاد الشام والعراق وشرق أفريقيا تمتلك أرشيفا أثريا أوضح، فإن الجزيرة العربية كانت لفترة طويلة بمثابة "الصندوق الأسود" في رحلة الإنسان القديم. لكن خلال العقود الأخيرة، ومع بروز تقنيات متقدمة في التحليل الرسوبي والدراسات المناخية، بدأت تتكشف صورة جديدة تبرز أن الجزيرة لم تكن هامشا، بل مركزا حيويا لعب دورا محوريا في تفاعل الإنسان مع البيئة.

واليوم، وفي اكتشاف أثري مهم، تم العثور على نقوش صخرية بالحجم الطبيعي تصور الجمال والغزلان وحيوانات أخرى في المملكة العربية السعودية، يعود تاريخها إلى ما بين 12800 و11400 سنة مضت.

وتقدم هذه الاكتشافات الجديدة دليلا قاطعا على الاستيطان البشري في بيئة كانت تعتبر قاحلة في ذلك الوقت، وتلقي الضوء على فترة غامضة في السجل الأثري للمنطقة.

كانت هناك فجوة كبيرة في الأدلة الأثرية على وجود الإنسان في شمال الجزيرة العربية بين 25000 و10000 سنة مضت، وهي فترة اتسمت بالجفاف الشديد. ورغم أن المجتمعات البشرية في الشرق الأوسط كانت ناجحة في تبني ممارسات الزراعة والرعي في بيئات مختلفة، فإن النشاط البشري في شمال الجزيرة العربية كان يسجل عادة بداية من نحو 10000 سنة مضت، ومرتبطا بالواحات.

لكن هذا الغموض بدأ يتلاشى بفضل دراسة نشرت في دورية "نيتشر كومينكيشن" التي تقدم نتائج مسوحات وحفريات أثرية أجريت في صحراء النفود شمال المملكة العربية السعودية، التي تملأ الفجوة حول وجود الإنسان في هذه المنطقة قبل نحو 12000 عام.

يشير تحليل الرواسب في المنطقة إلى أن البيئة كانت قاحلة، ولكن مع زيادة توافر المياه على شكل بحيرات موسمية تقريبا منذ 16000إلى 13000 سنة مضت، ودعم هذا التوافر المتزايد للمياه الحياة البشرية، وهو ما أكدته الاكتشافات.

تم اكتشاف أكثر من 130 نقشا بالحجم الطبيعي، تصور الجمال، والوعل، والخيول، والغزلان، وثيران الأوروك، بعضها يتجاوز ارتفاعه المترين، بالإضافة إلى تصويرات أصغر للجمال والبشر. ويشير هذا الإنتاج الفني الضخم إلى وجود مجتمع مستقر نسبيا وقادر على استغلال الموارد المتاحة.

النفود ليست مجرد مساحة رملية منبسطة، بل هي صحراء ذات كثبان ضخمة قد يصل ارتفاع بعضها إلى 150 مترا، تأخذ أشكالاً متموجة وأحيانا على هيئة "نعل الفرس".


وكشف التنقيب عن 532 أداة حجرية، يمكن أن يشير شكلها إلى وجود صلات ثقافية مع ثقافات معاصرة في الشرق الأوسط، ويقترح الباحثون أن المجموعات البشرية نفسها ربما تكون هي من صنعت كلا من النقوش الصخرية والأدوات الحجرية، على الرغم من أن الروابط المباشرة بين منشئي الأدوات والحفريات لا تزال صعبة التأسيس بشكل قاطع.

تظهر هذه النتائج الجديدة بشكل جلي تكيف الإنسان مع مناخ جاف ومتغير في زمن ومكان كان فيهما الدليل على وجودهم نادرا في السابق. هذه النقوش الأثرية تقدم دليلاً إضافيا على أن مصادر المياه العذبة قد تكون سهلت توسع البشر في هذه المنطقة التي تعتبر اليوم من أكثر البيئات جفافا في العالم.

صحراء النفود

تعد صحراء النفود الكبير من أبرز المعالم الطبيعية في المملكة العربية السعودية، حيث تمثل لوحة جغرافية وتاريخية نادرة تجمع بين اتساع المساحة وتنوع التضاريس والبعد التاريخي. تقع في شمال شبه الجزيرة العربية، وتشغل مساحة تبلغ نحو 65000 كيلومتر مربع، أي ما يعادل 10% من التجمعات الرملية في السعودية. تمتد هذه الصحراء من هضبة نجد حتى الحدود الغربية مع العراق والشرقية مع الأردن، لتتصل هناك بصحراء الشام. ورغم أن بعض الباحثين يرون أنها جزء من نجد، إلا أن آخرين – مثل المؤرخ سعد بن جنيدل – اعتبروا أن آخر معلم من معالم نجد شمالا هو جبل شمر، وأن النفود تقع خارجها.

Sahout Rock Art and Archaeology Project
عينة بيئية قديمة من رواسب بلايا قديمة في جبل المسمى

تبدأ الرمال في أراضي المملكة من محافظة الزلفي في منطقة الرياض، مرورا بالقصيم وحائل، وصولا إلى الجوف شمالا. ومن أشهر مناطقها مدينة جبة الواقعة شمال حائل بنحو 100 كيلومتر، وتمثل واحة مأهولة وسط الرمال. وقد شق طريق يربط بين حائل والجوف عبر النفود بطول 350 كيلومترا، مما جعلها أكثر اتصالا بالمناطق المجاورة. تحتل النفود موقعا استراتيجيا على ارتفاع يتراوح بين 700 و1000 متر فوق سطح البحر، وتنحدر تدريجيا في اتجاه الشمال الشرقي، حيث تنتشر الكثبان الحمراء الضخمة بين السلاسل الجبلية مثل جبل الطوال والحميمة ونهاده واللقيطة.

تكسر الدراسة الثنائية التقليدية بين "الصحراء القاحلة" و"الهلال الخصيب"، وتضع الجزيرة في قلب السردية الكبرى لتطور المجتمعات البشرية.

لم يكن العرب الأوائل يستخدمون لفظ "النفود"، بل كانوا يطلقون على هذه المناطق اسم "الرمال"، ويضيفون إليها وصفا أو نسبا مثل "رمال عالج" أو "رمال كلب". ويرجح بعض الباحثين أن كلمة "النفود" جاءت من "نهود" ومفردها "نهد"، في إشارة إلى الشيء المرتفع والبارز. ومع مرور الوقت تحولت التسمية إلى "نفود". وقد ارتبطت هذه المنطقة بأسماء بارزة في التاريخ العربي مثل حاتم الطائي وعنترة بن شداد، اللذين عاشا بالقرب منها وخاضا مغامرات وصراعات في رمالها.

والنفود ليست مجرد مساحة رملية منبسطة، بل هي صحراء ذات كثبان ضخمة قد يصل ارتفاع بعضها إلى 150 مترا، تأخذ أشكالا متموجة وأحيانا على هيئة "نعل الفرس". هذه الطبيعة الوعرة تركت أثرا في نفوس المسافرين والقوافل القديمة. ومع ذلك، تتحول الصحراء بعد الأمطار الشتوية إلى مشهد مدهش، حيث تنمو الأعشاب والشجيرات وتغطي الرمال الخضراء المزهرة، لتصبح مقصدا للبدو والرعاة. وتتنوع رمالها بين الحمراء الغنية بالنباتات، والبيضاء المتكونة من تفتت صخور الكوارتز التي غالبا ما تكون فقيرة بالنباتات.

Sahout Rock Art and Archaeology Project
صورة التقطتها طائرة بدون طيار لنقوش جمال ضخمة محفورة على ارتفاع 39 مترا فوق أرضية الصحراء في جبل المسمى

تتكون النفود من كثبان رملية ضخمة محصورة بين هضاب صخرية، وتتميز بلونها الأحمر اللافت. ويعود سبب تراكم الرمال إلى حركة الرياح الشمالية والشمالية الغربية التي تنقلها لتتكدس في المنخفضات. وقد نتج من ذلك تنوع كبير في تضاريسها، إذ إن حدودها الغربية والشرقية مرتفعة نسبيا وتشرف على المنخفضات الرملية.

لا تقتصر أهمية النفود على طبيعتها الجغرافية، بل تشمل أيضا كنوزها الجيولوجية والأثرية. فقد عثرت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية على بقايا ثدييات منقرضة مثل الفيلة العملاقة، والخيول، والثيران، والغزلان، والضباع، والطيور الجارحة. ومن أبرز الاكتشافات العثور عام 2017 على ناب فيل ضخم بطول 2.25 متر في رسوبيات بحيرات قديمة بالمنطقة، بالتعاون مع جامعة أوكسفورد ومعهد ماكس بلانك. كما تم في عام 2020 الإعلان عن اكتشاف أقدم "المصائد الحجرية" في العالم وسط صحراء النفود، ويقدر عمرها بأكثر من 7000 عام.

في قلب السردية الكبرى

تضيف الدراسة الجديدة الكثير من المعلومات عن تلك الصحراء، إذ تقدم أدلة رسوبية وأثرية من مواقع متعددة في السعودية، لتظهر كيف تزامنت تغيرات المناخ مع أنماط ثقافية غنية، من الأدوات الحجرية الدقيقة إلى الفن الصخري المدهش الذي يعكس مزيجا من الرموز الاجتماعية والدينية. ما يميز هذه النتائج، هو أنها تكسر الثنائية التقليدية بين "الصحراء القاحلة" و"الهلال الخصيب"، وتضع الجزيرة في قلب السردية الكبرى لتطور المجتمعات البشرية.

إذن، نحن أمام فرصة لإعادة كتابة فصل مهم من تاريخ الإنسان: كيف عاش البشر في أرض تتأرجح بين التصحر والخصوبة؟ كيف تعاملوا مع موارد المياه الموسمية؟ وكيف ساهمت تلك البيئات المتغيرة في ابتكار تقنيات حجرية وأساليب فنية تعكس وعيهم بأنفسهم وبالعالم من حولهم؟ هذه الأسئلة ستكون محور الصفحات التالية، حيث نحاول رسم لوحة واسعة تجمع بين المناخ والجغرافيا والأدوات الأثرية والفن الصخري، لنصل إلى استنتاجات أعمق حول دور الجزيرة العربية في تاريخنا المشترك.

Sahout Rock Art and Archaeology Project
رأس سهم من نوع "الخيام" عثر عليه في جبل عرنان، المملكة العربية السعودية. يعرف هذا النوع من الأدوات جيدا في مواقع العصر الهولوسيني المبكر في بلاد الشام، مما يبرز الروابط الطويلة المدى

لفهم ما تكشفه المواقع الأثرية الحديثة، علينا أن نعود خطوة إلى الوراء ونتأمل المشهد المناخي والجيولوجي الذي شكل إطار حياة الإنسان القديم. ففي أواخر العصر الجليدي الأخير، قبل نحو 21 ألف سنة، كانت الظروف على مستوى العالم قاسية، من مساحات شاسعة من أوروبا وآسيا مغطاة بالجليد، وانخفاض ملحوظ في مستويات البحار، وتوسع الصحاري في المناطق المدارية. الجزيرة العربية لم تكن استثناء، بل عانت من ظروف جافة للغاية جعلت الحياة فيها محدودة ومرهونة بالواحات والمصادر المائية النادرة.

المناخ في الجزيرة لم يكن خلفية صامتة، بل فاعلا أساسيا في صوغ حياة البشر

مع ذلك، لم يكن المناخ ثابتا. فمع بداية فترة الانتقال إلى الهولوسين، أي منذ نحو 11700 سنة، شهدت الأرض تحولات كبرى. فقد ارتفعت درجات الحرارة، وذابت كتل جليدية هائلة، مما أدى إلى ارتفاع مستويات البحار وتغير أنماط الرياح الموسمية. في الجزيرة العربية، انعكس هذا التغير في صورة "فترات رطوبة" متقطعة، حيث تساقطت الأمطار الموسمية على نحو أكبر، وامتلأت المنخفضات الطبيعية بمياه الأمطار، لتتحول إلى بحيرات عابرة. هذه البحيرات، التي تكشفها الآن الرواسب والطبقات الرسوبية، كانت بمثابة شرايين حياة اجتذبت الإنسان والحيوان معا.

وتبين الأدلة الرسوبية التي جمعتها فرق البحث من شمال غرب السعودية بوضوح هذه الدورات. فالرمال المتحركة والكثبان تثبت فترات الجفاف، بينما تكشف طبقات الطين والكالسيت عن لحظات ازدهار بيئي مؤقت ارتبطت بتدفق المياه. وتعكس هذه النتائج توازنا حساسا بين التعرية الهوائية – التي تنحت الأرض في الفترات الجافة – والترسيب النهري أو البحيري – الذي يترك بصماته حين تتساقط الأمطار بغزارة. وبذلك نجد أن الجزيرة لم تكن صحراء مطلقة، بل مسرحا لتذبذبات مناخية صنعت بيئات فسيفسائية، تتنوع بين سهول جافة وبحيرات موسمية ومراع غنية بالنباتات.

لم تكن هذه التحولات محلية فقط، بل جزءا من دينامية مناخية أوسع امتدت عبر شمال أفريقيا والشرق الأوسط. ففي مصر والسودان، تظهر بحيرات وادي النيل القديم النمط نفسه من التغير، وفي المغرب العربي يلاحظ الباحثون دلائل مشابهة على فترات رطوبة قصيرة. هذا يفتح الباب أمام قراءة إقليمية أشمل، حيث ترتبط الجزيرة العربية بالهلال الخصيب وأفريقيا الشرقية ضمن شبكة من المسارات البيئية التي أثرت في حركة البشر وتفاعلهم مع الطبيعة.

Sahout Rock Art and Archaeology Project
لوحة فنية صخرية ضخمة في جبل المسمى

فالمناخ في الجزيرة لم يكن خلفية صامتة، بل فاعلا أساسيا في صوغ حياة البشر. فالجفاف فرض عليهم نمط ترحال وصيد يعتمد على التنقل بين الموارد القليلة، بينما الفترات الرطبة سمحت لهم بالاستقرار المؤقت وتطوير أدوات جديدة، بل وربما الشروع في طقوس اجتماعية جماعية.

إعادة بناء المشهد

حين نحاول إعادة بناء مشهد الجزيرة العربية خلال الفترات الانتقالية بين العصر الجليدي والهولوسين، تصبح الرواسب هي "الأرشيف الصامت" الذي يحفظ في طبقاته أسرار آلاف السنين. فالطبيعة تترك بصماتها في الرمال والطين والكالسيت، وهذه البصمات حين تفكك وتحلّل بعناية تكشف لنا ما كان يحدث في الجو والبرك والمسطحات المائية التي اندثرت منذ زمن بعيد.

قامت الفرق البحثية العاملة في المواقع بدراسة دقيقة للطبقات الرسوبية، فوجدت أن التتابع الرسوبي يعكس سلسلة من التحولات بين فترات جفاف قاسية وأخرى رطبة نسبيا. إذ تشير الرمال المترسبة على شكل كثبان متحركة إلى هبوب رياح جافة طويلة الأمد، بينما يدل وجود طبقات من الطين والكالسيت على تجمع مياه في منخفضات طبيعية، أي بحيرات موسمية أو حتى شبه دائمة.

وجدت تقنيات محلية لصناعة الشفرات الطويلة، مما يدل على أن المجتمعات في الجزيرة لم تكن مجرد مستقبل سلبي للتأثيرات الخارجية، بل طورت بدائلها وأدواتها الخاصة

إحدى النتائج البارزة أن هذه البحيرات لم تكن مجرد تجمعات صغيرة، بل امتدت لمساحات واسعة وعمق ملحوظ، مما يشير إلى أن الأمطار الموسمية – التي نعرفها اليوم بأنها قصيرة ومحدودة – كانت في تلك الفترات أكثر انتظاما وغزارة. ويؤكد الباحثون أن هذه البحيرات وفرت موائل للحيوانات البرية كالغزلان والماعز الجبلي والجمال البرية، وجذبت بالتالي الإنسان ليستقر على ضفافها أو يعود إليها في رحلات موسمية.

لكن الأمر ليس مقتصرا على وجود أو غياب المياه. فالتغير في طبيعة الرسوبيات – من حبيبات دقيقة إلى أكثر خشونة – يعكس أيضا تذبذب معدلات السيول والفيضانات، وهو ما يعطينا صورة عن شدة الأمطار وتكرارها. وتحمل بعض الطبقات آثارا لتبخر شديد، مما يعني أن البحيرات لم تدم طويلا، بل كانت تدخل في دورات من الامتلاء ثم الانكماش، لتترك وراءها طبقة من الأملاح والمعادن المتبلورة، وتعكس هذه العملية المتكررة بوضوح حساسية البيئة العربية للتقلبات المناخية العالمية.

من الأدلة المثيرة أن هناك توازيا ملحوظا بين هذه النتائج وما وجد في مناطق أخرى كشمال أفريقيا ووادي النيل. فالفترات التي شهدت فيها الجزيرة رطوبة نسبية – مثل بداية الهولوسين في الفترة ما بين 10000 و8000 سنة مضت، تتطابق مع دلائل بيئية مماثلة في بحيرات الصحراء الكبرى التي امتلأت آنذاك بالمياه. ويوضح هذا الترابط أن شبه الجزيرة العربية لم يكن معزولا مناخيا، بل جزءا من شبكة واسعة من التحولات البيئية التي غيرت وجه القارة الأفريقية والشرق الأدنى.

الأهمية الكبرى لهذه الأدلة الرسوبية أنها لا تحكي فقط عن المناخ، بل عن كيفية استجابة البشر له. فحيثما ظهرت البحيرات، ظهرت التجمعات البشرية، وحيثما تلاشت المياه عادت الطبيعة الصحراوية تفرض نمط حياة متنقلا قائما على الصيد والترحال. هذا التفاعل الجدلي بين المناخ والإنسان، جعل الجزيرة مسرحا لتجارب بشرية متكررة: استقرار قصير، يليه انقطاع، ثم عودة عند أول إشارة الى الحياة المائية.

نستطيع القول إن الرواسب في شمال غرب الجزيرة العربية قدمت سجلا حيا يبرهن أن الأرض لم تكن صحراء مطلقة كما تصور اليوم، بل فضاء متحرك يتأرجح بين الخصوبة والتصحر. ومن هذا الأرشيف الطبيعي تبدأ خيوط الحكاية التي سنكملها في الفصل القادم، حيث ننتقل من دلائل المناخ إلى الأدوات الأثرية التي تركها الإنسان، شاهدة على تفاعله مع بيئة لم تكف عن التغير.

تواصل ثقافي

وإذا كانت الرواسب تحفظ لنا تاريخ المناخ، فإن الأدوات واللقى الأثرية تحفظ لنا تاريخ البشر أنفسهم: كيف عاشوا؟ ماذا ابتكروا؟ وكيف واجهوا تحديات بيئة متقلبة؟ في مواقع شمال غرب الجزيرة العربية جرى الكشف عن مجموعة متنوعة من الأدوات الحجرية واللقى التي تعكس تواصلا ثقافيا مع المشرق، وفي الوقت نفسه تكشف عن خصوصية محلية فرضتها طبيعة المكان.

من أبرز الاكتشافات، الأدوات الحجرية الدقيقة وهي شفرات صغيرة الحجم صُنعت بتقنيات متقدمة. بعض هذه الأدوات يحمل خصائص مرتبطة بثقافات بلاد الشام، التي نعرفها من العصر الحجري الوسيط في فلسطين والأردن. ويوحي وجود مثل هذه الأدوات في الجزيرة بأن هناك تفاعلا واضحا، ربما عبر هجرات موسمية أو تبادل معرفي بين سكان المنطقتين. في الوقت نفسه، وجدت تقنيات محلية لصناعة الشفرات الطويلة، مما يدل على أن المجتمعات في الجزيرة لم تكن مجرد مستقبل سلبي للتأثيرات الخارجية، بل طورت بدائلها وأدواتها الخاصة.

Sahout Rock Art and Archaeology Project
حفر الخندق رقم 1 مباشرة أسفل لوحة فنية صخرية في جبل عرنان، حيث تم اكتشاف أداة نقش

كما كشفت الحفريات عن أدوات متخصصة في النقش على الصخور، مما يرتبط بشكل مباشر بالفن، وكانت الأدوات غالبا مصنوعة من الصوان والكوارتزيت، وجرت معالجتها بعناية لتناسب أعمال الحفر الدقيقة. ويشير وجود هذه الأدوات إلى جانب الرسوم والنقوش إلى أن الفن لم يكن نشاطا عارضا، بل ممارسة متجذرة استلزمت تجهيزات خاصة.

تشير هذه الأدلة إلى أن سكان الجزيرة في تلك الفترة لم يكونوا مجرد جماعات متنقلة تبحث عن الماء والغذاء، بل كانوا مجتمعات تحمل تقاليد ثقافية غنية

من اللقى المهمة أيضا الخرز والأصداف المثقوبة التي استخدمت على الأرجح كحلى أو رموز هوية اجتماعية. بعض هذه الأصداف لم يكن مصدره المحلي، بل جاء من سواحل البحر الأحمر أو الخليج، مما يعزز فكرة وجود شبكات تواصل وتبادل واسعة. كذلك وجدت دلائل على استخدام الأصباغ، خصوصا أكاسيد الحديد التي تعطي اللون الأحمر، وهو ما قد يكون ارتبط بطقوس اجتماعية أو دينية.

تشير هذه الأدلة إلى أن سكان الجزيرة في تلك الفترة لم يكونوا مجرد جماعات متنقلة تبحث عن الماء والغذاء، بل كانوا مجتمعات تحمل تقاليد ثقافية غنية. الأدوات الحجرية الدقيقة تعكس معرفة تقنية متقدمة، الحلى والأصداف تدل على رموز اجتماعية وهوية، والأدوات المخصصة للنقش والفن تكشف عن بعد رمزي وروحي في حياتهم. كل هذا يضع الجزيرة في قلب الحراك الثقافي الأوسع الذي ميّز الانتقال من العصر الحجري الوسيط إلى العصر الحجري الحديث.

وتكمل الأدلة الأثرية ما بدأنا قراءته في الرواسب. فكما أن المناخ وفر بحيرات موسمية جذبت البشر، فإن هؤلاء البشر استغلوا تلك الفرص لبناء ثقافة وأدوات وهوية.

إذا كانت الأدوات الحجرية واللقى الصغيرة تكشف عن الحياة اليومية للإنسان القديم، فإن الفن الصخري يفتح لنا نافذة على عالمه الرمزي والروحي. في شمال غرب الجزيرة العربية، خصوصا في مواقع مثل شعاب الغضاة والمنحدرات الجبلية قرب خيبر والعلا، جرى الكشف عن مئات النقوش والرسوم الصخرية التي تعود إلى فترات متعاقبة، تعكس تحولات المجتمع والبيئة معا.

تتنوع هذه النقوش بين صور حيوانية وبشرية ورمزية، ويمكن تقسيمها أربع مراحل أسلوبية رئيسة. المرحلة الأولى اتسمت برسوم صغيرة الحجم دقيقة التنفيذ، تظهر حيوانات مثل الماعز الجبلي والغزلان بتفاصيل لافتة، ربما ارتبطت بمشاهد صيد واقعية. وكشفت المرحلة الثانية عن رسوم أكبر وأكثر حيوية، أبرزها صور الجمال التي يعتقد أنها كانت رمزا للثروة والقدرة على التنقل في بيئة متغيرة. المرحلة الثالثة أضافت عناصر جديدة مثل الخيول البرية والأوركس (المها العربي)، وهي حيوانات تعكس التنوع البيئي في الفترات الرطبة. أما المرحلة الرابعة فقد اتسمت بأسلوب أكثر تبسيطا و"كارتونيا"، مع استخدام خطوط سميكة وأشكال إنسانية وحيوانية مجردة، مما يوحي بانتقال الفن من التمثيل الواقعي إلى التعبير الرمزي والطقسي.

Sahout Rock Art and Archaeology Project
صورة التقطتها طائرة بدون طيار لنقوش جمال ضخمة محفورة على ارتفاع 39 مترا فوق أرضية الصحراء في جبل المسمى

الجانب اللافت أن بعض النقوش لا تقتصر على تصوير الحيوانات فحسب، بل تضم أيضا مشاهد جماعية للبشر في أوضاع مختلفة تشمل الرقص، والصيد الجماعي، أو حتى طقوس تبدو جماعية، مما يفتح الباب أمام فرضيات أن الفن الصخري لم يكن مجرد هواية أو تسجيل أحداث، بل كان وسيلة للتعبير عن هوية جماعية ولترسيخ الذاكرة المشتركة.

كما تكشف الأدوات المرتبطة بالنقش – التي جرى العثور عليها في مواقع مجاورة – أن هذه الممارسة كانت منظمة وتستلزم إعدادا مسبقا. فالنقش على الصخور الصلبة يتطلب مهارة وصبرا وأدوات ملائمة، وهذا ما يؤكد أن الفنانين الأوائل كانوا محترفين إلى حدّ ما داخل مجتمعاتهم، وربما اضطلعوا بدور يتجاوز الفن ليشمل القيادة الطقسية أو الاجتماعية.

أبعاد متعددة

لا تقتصر دلالات هذه النقوش على بعدها الفني، بل تحمل أيضا بعدا بيئيا واجتماعيا. فظهور الجمال في النقوش يتزامن مع مرحلة إدماجه تدريجيا في حياة البشر كوسيلة نقل أساسية، بينما الخيول البرية والأوركس تعكس بيئات أكثر خصوبة وغنى نباتيا. كذلك، تشير الرموز البشرية والطقوس الجماعية إلى بداية تشكل هويات اجتماعية أكثر تعقيدا، قد تكون مقدمة لما نعرفه لاحقا عن المجتمعات الزراعية الأولى.

ولا يعد الفن الصخري في الجزيرة العربية مجرد زخرفة قديمة على الصخور، بل وثيقة حية تكشف كيف فهم الإنسان نفسه وعلاقته بالحيوان والبيئة والمقدس في صورة سجل رمزي يكمل ما تقوله لنا الأدوات والرسوبيات، ليمنحنا صورة ثلاثية الأبعاد عن مجتمعات ما قبل التاريخ.

تكشف دراسة البيئات القديمة والأدلة الأثرية في الجزيرة العربية عن حقيقة بالغة الأهمية، فهذه الأرض التي نعرفها اليوم بصحاريها الممتدة لم تكن دائما كذلك بل كانت ساحة متحركة، تتقلب بين فترات جفاف قاسية وأخرى غنية بالمطر

حين ننظر إلى الأدلة الرسوبية والأثرية والفنية معا، تتكشف أمامنا صورة مركبة عن كيفية عيش الإنسان في الجزيرة العربية خلال الانتقال من العصر الجليدي إلى الهولوسين. هذه الصورة لا تتعلق فقط بالمناخ أو الأدوات، بل بما تعكسه من أنماط اجتماعية واقتصادية تشير إلى بدايات تشكّل المجتمعات الإنسانية المستقرة.

أول ما يمكن ملاحظته أن وجود البحيرات الموسمية خلق بؤرا للاستقرار المؤقت. فالمجموعات البشرية كانت تنتقل من منطقة الى أخرى بحسب توفر المياه، لكنها حين تجد بحيرة ممتلئة كانت تستقر حولها فترة تكفي لممارسة أنشطة أكثر تنظيما من مجرد الصيد والترحال. في هذه الفترات ظهرت الأدوات الحجرية الدقيقة، والنقوش الفنية، وحتى الحلى والأصداف، مما يدل على أن الإنسان لم يعد مشغولا فقط بالبقاء، بل بدأ يعبر عن ذاته ويؤسس لهوية جماعية.

من الناحية الاقتصادية، تشير الأدلة إلى استمرار هيمنة الصيد وجمع الثمار، مع توسع في استغلال الموارد الموسمية. وتكشف صور الحيوانات في النقوش – مثل الغزلان والأوركس –عن وجود استراتيجيات صيد جماعي قد تكون تطلبت تعاونا بين أفراد الجماعة، وهو ما يعكس مستوى متقدما من التنظيم الاجتماعي. كذلك، تشير الأدلة على استخدام الأصداف والخرز إلى بداية شكل من أشكال "التبادل الرمزي" وربما التجاري، خصوصا أن بعض الأصداف جاءت من مناطق بعيدة عن الداخل العربي.

أما على المستوى الاجتماعي، فيبدو أن هذه المجتمعات بدأت في بناء طقوس مشتركة، يظهر أثرها في مشاهد الرقص الجماعي أو الصيد الطقسي المرسومة على الصخور. وربما لعبت هذه الطقوس دورا في تقوية الروابط بين الأفراد وضمان بقاء الجماعة متماسكة في وجه تقلبات البيئة. ومن الممكن أن يكون هناك تقسيم أولي للأدوار داخل المجتمع: صانعو الأدوات، فنانو النقوش، قادة الصيد، وكلها مؤشرات الى تعقيد اجتماعي متزايد.

اللافت أن هذه الديناميكيات تضع الجزيرة في موقع قريب من مسار التحولات التي جرت في الهلال الخصيب، حيث شهدت الفترة نفسها بدايات الزراعة والاستقرار الدائم. وصحيح أن الجزيرة لم تدخل هذا المسار بسرعة مماثلة، لكن الأدلة توضح أنها كانت جزءا من فضاء أوسع يتبادل التأثير والمعرفة، ويتهيأ تدريجيا لمرحلة أكثر ثباتا.

فالجزيرة العربية لم تكن مجرد ممر للهجرات البشرية، بل فضاء للتجربة الاجتماعية والاقتصادية المبكرة. وعرفت مجتمعاتها الترحال والاستقرار الجزئي، والتعاون في الصيد، والرموز الفنية المشتركة، وأشكال التبادل. وتشكل هذه السمات كلها ملامح مجتمع في طور التكوين، يقف على أعتاب التحولات الكبرى التي سيشهدها لاحقا مع تطور الزراعة والرعي المنظم.

تكشف دراسة البيئات القديمة والأدلة الأثرية في الجزيرة العربية عن حقيقة بالغة الأهمية، فهذه الأرض التي نعرفها اليوم بصحاريها الممتدة لم تكن دائما كذلك بل كانت ساحة متحركة، تتقلب بين فترات جفاف قاسية وأخرى غنية بالمطر والبحيرات الموسمية، وكل تحول من هذه التحولات انعكس مباشرة على حياة البشر الذين سكنوها.

الأدلة الرسوبية أظهرت لنا أن الطبيعة لم تكن ثابتة، بل دخلت في دورات من الامتلاء والانحسار المائي. هذه الدورات كانت بمثابة المحرك الأساس لأنماط الاستقرار والتنقل. حين كانت البحيرات تمتلئ، ظهرت تجمعات بشرية غنية بالأدوات الحجرية الدقيقة، وبالحلى والأصداف التي تكشف عن شبكات تواصل بعيدة المدى. وحين تعود الصحراء لتفرض نفسها، كانت هذه التجمعات تتفكك أو تتحول إلى جماعات متنقلة تبحث عن مورد جديد.

تحمل الأدوات الحجرية الدقيقة بصمات ثقافات الهلال الخصيب، ويعكس الفن الصخري طقوسا ومشاهد جماعية، وهي أمور تشهد بأن الجزيرة لم تكن مجرد هامش للتاريخ، بل مركزا ثقافيا ساهم في تشكيل مسار التطور البشري. الأهمية لا تقتصر على الجانب المادي فقط، بل تمتد إلى البعد الرمزي: فالنقوش التي تظهر الجمال والخيول والأوركس ليست مجرد صور، بل شفرات تكشف عن علاقة الإنسان بالبيئة والمقدس والجماعة.

اجتماعيا واقتصاديا، تظهر الأدلة أن سكان الجزيرة كانوا في طور الانتقال من مجتمعات قائمة على الصيد والترحال إلى أشكال أكثر تعقيدا من التنظيم. ربما لم يصلوا إلى الزراعة الكاملة كما في الهلال الخصيب، لكنهم وضعوا اللبنات الأولى لتعاون جماعي، وتقسيم للأدوار، وطقوس مشتركة حافظت على تماسك المجتمع. وتجعلنا هذه الملامح نعيد النظر في الجزيرة لا باعتبارها منطقة هامشية، بل كحلقة حيوية في سلسلة التطور الإنساني.

يمكن القول إن الجزيرة العربية كانت مختبرا مفتوحا للتفاعل بين المناخ والثقافة. الطبيعة بظروفها المتقلبة دفعت البشر إلى الابتكار، والإنسان بدوره ترك بصماته في الأدوات والفن والطقوس. هذا التداخل يعطينا اليوم فرصة لإعادة كتابة فصل مهم من تاريخنا المشترك، فصل يوضح أن تاريخ الإنسان ليس خطا مستقيما يبدأ من "مراكز الحضارة" الكبرى، بل شبكة واسعة من التجارب المتفرقة التي ساهمت معا في صوغ العالم كما نعرفه.

font change

مقالات ذات صلة