معتصم الكبيسي لـ"المجلة": النحت شهادة إنسانية في مواجهة العنف والاستبدادhttps://www.majalla.com/node/328364/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D8%B9%D8%AA%D8%B5%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A8%D9%8A%D8%B3%D9%8A-%D9%84%D9%80%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AD%D8%AA-%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%AF
تشكل الرسائل الإنسانية في مواجهة الاستبداد والعنف، الدافع الأهم في تجربة الفنان العراقي معتصم الكبيسي، فاشتغل في كل انحناءات والتواءات منحوتاته على إيصال أفكاره للعالم، واختار لتنفيذها البرونز، لما له من قدرة على مقاومة الانكسار كما الإنسان.
الفنان الكبيسي الذي يعمل مدرسا بقسم النحت في كلية الفنون الجميلة في جامعة الشارقة، أقام عددا كبيرا من المعارض الشخصية في الإمارات وبيروت وباريس، وشارك بعشرات المعارض الجماعية في دول عربية وأجنبية، وأنجز عددا من النصب والمنحوتات، منها تصميم وتنفيذ نصب تذكاري لخمسة خيول بارتفاع أربعة أمتار عند مدخل قصر الملك بالمنامة، وتصميم وتنفيذ عدد كبير من مجسمات الخيول لسباقات الخيل لمزارع شادويل في بريطانيا، بجانب تنفيذ عدد كبير من المنحوتات والمجسمات في دولة الإمارات. حول تجربته حاورته "المجلة".
لماذا اخترت النحت والعمل بخامة البرونز، ولماذا تترك النتوءات بارزة أحيانا في بعض منحوتاتك؟
اخترت النحت لأنه الأقرب إلى التعبير الجسدي عن الفكرة، النحت هو فعل حقيقي مادي يواجه الكتلة ويحولها إلى معنى، وهو بالنسبة إلي ليس مجرد تشكيل للسطح، بل محاولة لقراءة الإنسان من خلال جسده، ولتجسيد الصراع بين الروح والمادة. أما البرونز، فهو خامة تمتلك ذاكرة وقوة تحتفظ بالأثر وتخلد ما مر عليها من تشكيل، البرونز فيه شيء من الخلود والصلابة التي تشبه الإنسان في مقاومته للانكسار.
النحت لا يمنحك رفاهية التراجع كما في اللوحة، لكنه يمنحك صدق المواجهة مع الكتلة والمادة
أما الملمس الذي أتركه أحيانا في بعض الأعمال، فهو ليس عيبا شكليا بل بقايا الوجع، بقايا اليد التي واجهت الكتلة ولم ترد أن تخفي أثرها هي لغة الجسد.
البحث عن الجوهر
يقال إن النحت يختزل الأفكار بعكس اللوحة التي تمنح الفنان مساحة حرة للعمل والتعديل، فكيف تستطيع التعامل مع هذا التحدي أو غيره في عالم النحت؟
هذا صحيح، لكنني أرى أن النحت يركز الأفكار أكثر مما يختزلها، فالنحت لا يمنحك رفاهية التراجع كما في اللوحة، لكنه يمنحك صدق المواجهة مع الكتلة والمادة. هذه الصرامة ليست قيدا، بل هي جزء من متعة النحت وجوهره الحقيقي خصوصا عندما يبدأ بالطين وينتهي في النتيجة بالبرونز. فعندما أعمل على الكتلة لا أبحث فقط عن الشكل الخارجي، إنما أبدأ بالنبض الإنساني الكامن فيه، بحثا عن تلك اللحظة التي تبدأ فيها المادة بالتحول من الصمت إلى المعنى، فالنحت ليس عملا جامدا بل حوار متوتر بين الفنان والمادة بين الفكرة والفراغ.
النحت مساحة صدق، واختبار دائم لقدرة الفنان على تحويل الألم والذاكرة إلى حضور يمكن الدوران حوله. في هذا التحدي أجد حريتي الحقيقية، وأكتشف نفسي من جديد في كل عمل.
هل تعتقد أن طبيعة النحت وتحدياته، هي التي جعلت من النحاتين قلة عبر التاريخ؟
نعم، أعتقد أن طبيعة النحت الصعبة والمعقدة هي أحد الأسباب التي جعلت عدد النحاتين عبر التاريخ قليلا. فالنحت ليس مجرد ممارسة جمالية، بل مواجهة حقيقية مع المادة والزمن والفراغ، والنحات لا يرسم فكرة فحسب بل يخلق لها جسدا ووزنا وظلا، وهذا يتطلب صبرا واحتكاكا مباشرا مع الكتلة ومع القيود التي تفرضها الخامة.
النحت يحتاج إلى طاقة داخلية هائلة، وإلى إيمان بأن الفكرة تستحق أن تتحول إلى حضور مادي، إلى شيء يبقى أثره بعدك، وربما لهذا السبب ظل النحات عبر العصور أقرب إلى الحرفي والفيلسوف في آن واحد، لأنه يعمل بيديه ويفكر بعمق في معنى الوجود والإنسان. قلة النحاتين ليست ضعفا في الإقبال على الفن بقدر ما هي دليل على أن النحت يختار من يملكون القدرة على الصبر والمواجهة والبحث عن الجوهر.
بين الأسطورة والواقع
كيف جمعت بين رموز حضارة بلاد ما بين النهرين، لإنتاج منحوتات تعبر عن الخوف والفوضى والأمل في الوقت نفسه؟
حضارة وادي الرافدين ليست ماضيا منتهيا بل ذاكرة حية تتحرك في داخلي، رموزها ليست زينة شكلية أستعيرها، بل جذور فكرية وروحية أستند إليها لأفهم الإنسان الأول الذي واجه الخوف والفوضى وصنع الأمل وسطهما. أحيانا حين أستخدم رموز تلك الحضارة في أعمالي لا أستدعيها بوصفها أثرا تاريخيا، إنما كحالة إنسانية ما زالت تتكرر في واقعنا.
فالمسمار البابلي (الكتابة المسمارية) أو هيئة المحارب أو الكاهن تتحول في النحت إلى رموز للإنسان المعاصر الذي يعيش الصراع ذاته بين القوة والهشاشة، بين الرغبة في النجاة والخوف من الفناء.
من أعمال الكبيسي
الفوضى التي أحاول التعبير عنها هي صدى للفوضى الداخلية التي يعيشها الإنسان اليوم أما الأمل فهو ذلك الضوء الخافت الذي يبقى رغم كل الخرائب التي نشاهدها يوميا حولنا، يشبه البذرة التي تصر على الحياة في أرض محروقة.
ظل النحات عبر العصور أقرب إلى الحرفي والفيلسوف في آن واحد، لأنه يعمل بيديه ويفكر بعمق في معنى الوجود والإنسان
بهذا المزج بين الرموز القديمة والوجع الإنساني الراهن أحاول أن أخلق حوارا بين الماضي والحاضر، بين الأسطورة والواقع، لأن ما تغير هو الزمن، أما الإنسان فخوفه وأمله باقيان كما كانا منذ فجر الحضارة.
من أعمال معتصم الكبيسي
جعلت منحوتاتك وسيلة للتعبير عن العديد من القضايا مثل الاستبداد وضحايا الحروب والنزاعات الطائفية، وهل تعتقد أن رسائلك وصلت من خلال الفن؟
منذ بداياتي كنت أؤمن أن النحت شهادة إنسانية في مواجهة العنف والاستبداد، أكثر مما هو زينة شكلية. المنحوتة هي صرخة صامتة، تحاول أن تقول ما تعجز اللغة عن قوله. وقد جسدت في أعمالي ضحايا الحروب، وانكسارات الإنسان أمام سلطة السلاح والمؤسسة الدينية، لأنني عشت تلك التجارب وعرفت وجعها، لم أسع إلى أو أحاول الكتابة أو الخطابة، بل إلى خلق أثر بصري يحدث قلقا وتأملا لدى المتلقي. أما عن الرسائل فأنا لا أبحث عن وصولها بشكل مباشر، بقدر ما أطمح إلى أن تترك أثرا داخليا، في وعي الناس لأن الفن الحقيقي لا يشرح بل يوقظ.
من منحوتات معتصم الكبيسي
تميزت أعمالك بالرموز، كيف استطعت توظيفها وما أهميتها في إيصال الفكرة النحتية؟
الرمز في عملي هو اللغة التي تربط بين الماضي والحاضر، وقد استحضرت رموز حضارة وادي الرافدين لأنها تحمل جذور الإنسان الأول وتختزن ذاكرة الخوف والسلطة والأمل. هذه الرموز ليست تكرارا للأثر التاريخي بل إعادة تشكيله في سياق معاصر يعبر عن الواقع اليومي. فمن خلال الرمز أستطيع أن أقول ما لا يمكن قوله مباشرة. فحين أضخم الجسد أو أشوه الملامح أو أخفيها، فإنني أتكلم عن السلطة والجنون والهيمنة دون أن أحتاج إلى شرح. الرمز يمنح المنحوتة عمقا بصريا وروحيا يجعلها تتجاوز الزمان والمكان.
عمل نحتي لمعتصم الكبيسي
الأسئلة الكبرى
هل يمكن أن تأخذ تجربتك منعطفا جديدا وكيف تتخيله؟ وما الذي تطمح إلى تحقيقه في عالم النحت؟
الفن لا يعرف الثبات، وكل تجربة حقيقية لا بد أن تعيش حالة تحول، والمنعطف تطور طبيعي في الفكرة واللغة البصرية أكثر مما هو قطيعة مع ما أنجز. ربما أتجه إلى اشتغال أكثر تجريدا، يركز على الجوهر الإنساني بدل السرد المباشر. لكن طموحي أن أبقي للنحت مكانته كوسيلة للتفكير والتأمل لا كشيء يعلق في قاعة. أتمنى لمنحوتاتي أن تبقى قادرة على إثارة الأسئلة الكبرى حول الإنسان وجوده ومصيره، بعيدا كن الزخرفة أو التكرار.
معتصم الكبيسي أمام أحد منحوتاته
كيف تنظر إلى تجربة النحت في العالم العربي ككل، ولماذا هناك دول متقدمة في هذا المجال مثل العراق ومصر عن غيرها من الدول العربية؟
بخصوص النحت العربي، هو يعيش حالة بحث وتحول، لكنه لا يزال يواجه تحديات تتعلق بالمجتمع والفضاء العام وغياب البنية التحتية الثقافية، فالنحت يحتاج إلى بيئة تؤمن به لأنه فن قائم على الفضاء، على الذاكرة الجمعية، وعلى الحوار مع المكان.
حين أستخدم رموز حضارة وادي الرافدين في أعمالي لا أستدعيها بوصفها أثرا تاريخيا، بل كحالة إنسانية ما زالت تتكرر في واقعنا
أما تميز العراق ومصر فيعود إلى الجذور التاريخية والحضارية، فهما بلدان ولد فيهما الحجر والنقش والتمثال منذ فجر التاريخ ورأس "سرجون الأكادي" أو ما يعرف برأس نينوى البرونزي منذ 2300 سنة قبل الميلاد، وأول تمثال سبك بالبرونز في التاريخ الإنساني كان في وادي الرافدين. كان هناك وعي مبكر بقيمة الشكل الإنساني وبقدرة المادة على التعبير عن الروح. لذلك خرج من هذين البلدين نحاتون تركوا أثرا عميقا في الوجدان العربي.