علوان العلوان لـ"المجلة": النحت ندبة على جسد الذاكرة

أشرف على إعادة ترميم "نصب الحرية" في بغداد

علوان العلوان

علوان العلوان لـ"المجلة": النحت ندبة على جسد الذاكرة

يلجأ النحات العراقي علوان العلوان إلى الخيال، ليحوله بأسلوبه الخاص إلى واقع حي، وهو يحرص عبر تفاصيل كل منحوتة على تجسيد أفكاره ورؤيته الخاصة التي يعبر فيها عن القضايا الإنسانية التي تشغله، ويعكس في أحيان أخرى الزمن بمفهومه الخاص، ليصبح بالتالي البرونز الذي يستخدمه مادة سهلة يتحكم فيها باحترافية واستنادا إلى خبرة تشكلت عبر عقود منذ دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد في بداية تسعينات القرن الماضي، أصبح خلالها في رصيده أكثر من مائة مشاركة فنية محلية وعربية ودولية إلى جانب ستة معارض فردية في بغداد وعمان وبيروت، وهو ما توج بفوزه بجوائز عدة من بينها "جائزة اسماعيل فتاح".

مرت مسيرته بمنعطفات انعكست على فنه، كما يؤكد في حديثه الى "المجلة".

  • لماذا اخترت مسار النحت من بين المسارات التشكيلية الأخرى؟

لم يكن ذلك خيارا بقدر ما كان استجابة لنداء روحي وجدت فيه الكتلة الصامتة مجالا للبوح على نحو يلبي انفعالاتي، حيث عثرت في الفراغ على إمكان الحوار. فالنحت يرتكز على مراحل تقنية وفنية لتحويل الفكرة إلى حضور مادي يهدف إلى خطاب جمالي. ولأن الجسد العراقي مثقل بالتاريخ والرمز من خلال تراثنا وحضارتنا، فإن النحت هو الوسيلة المثلى لتجسيد هذه الذاكرة العميقة.

لأن الجسد العراقي مثقل بالتاريخ والرمز من خلال تراثنا وحضارتنا، فإن النحت هو الوسيلة المثلى لتجسيد هذه الذاكرة العميقة

فقد بهرت بالنحت منذ الصغر عبر المنحوتات الموجودة في بغداد وفي المتحف العراقي، وفتح ذلك الأفق لي لدخول عالم النحت من أوسع أبوابه.  

منحوتة لعلوان العلوان

توازن فني

  •  كثيرا ما يواجه النحات تحديات مثل المكان، وهو ما دفعك إلى استخدام منزلك كمحترف للبناء، هلا حدثتنا عن هذا المكان الذي تحول مسرحا للإبداع الفني؟

عندما لا توفر المدينة مساحة، يصبح لزاما على الفنان تحويل أقرب الزوايا إلى معبد للإبداع. مشغلي المتواضع لم يكن مجرد مكان للعمل، بل متنفس للإبداع، يتنفس معي كل فكرة وكل تجربة. هو امتداد لروحي، وشاهد على لحظات التحدي من أجل البقاء وتذليل كل المعوقات في هذا الحيز الضيق، تعلمت ألا شيء يقيّد الخيال وأن الإبداع والتميز والنجاح تحتاج مني إلى التضحية والصبر للوصول إلى ما يلبي طموحاتي، ولهذا كنت أعمل باستمرار لبناء مكان يحوي انفعالاتي من أجل الاستقرار والتواصل والعمل.

منحوتات علوان العلوان

  •  إلى أي مدى استطعت أن تطوّع المفاهيم الفنية الحداثية لتخدم أفكارك في النحت؟

الحداثة لم تكن غاية بل وسيلة، حاولت استثمار مفاهيمها في تفكيك الشكل التقليدي وإعادة تركيبه بما يتناسب مع قلق الإنسان المعاصر. اشتغلت على التوازن بين التعبيرية التجريدية والرمزية، وحرصت على أن تظل جذوري محلية، مستمدة من التراث والأصالة، حاضرة وسط التحولات والمتغيرات في عالم التجريب.

أبحث عن الإنسان الهارب من القيود، الذي يحاول أن يجد ذاته وسط الجماعة، أو الذي يتصارع مع الآخر بحثا عن معنى

  •  تجسد الزمن عبر العديد من أعمالك، فكيف تنظر إلى هذا العامل؟

الزمن في أعمالي متغير، إذ أنني في سعي دائم إلى التجديد وفق متطلبات التطور، وعلى نحو متدرج يجعل مراحل العمل حلقة تكميلية، بل إن الزمن عامل قابل للتمدد والانضغاط. أحيانا يكون متجمدا في لحظة أبدية، وأحيانا ينساب مثل تيار لا يمسك. أتعامل مع النحت كأثر، كندبة على جسد الذاكرة، أو كوثيقة تؤرشف الوجود الإنساني وسط التحولات والصراعات النفسية وحسب تقدم العمر.

AFP
أعمال الترميم في "نصب الحرية"

الجدل الوجودي

  •  تجسد كذلك في العديد من أعمالك الفرد وعلاقته بالآخر، ماذا عن هذا الجانب؟

الإنسان هو مركز الجدل الوجودي على مدى تاريخ البشرية، ومنه تنطلق باقي التيارات الثقافية والفنية، وهو سؤال مستمر في أعمالي. أبحث عن الإنسان الهارب من القيود، الذي يحاول أن يجد ذاته وسط الجماعة، أو الذي يتصارع مع الآخر بحثا عن معنى. العلاقة بالآخر مرآة للهوية، وهذا ما يمنح المنحوتة بعدها الجمالي الأزلي بمنظور فلسفي يحاور ما هو موجود بشفافية رغم قسوة الأداء.  

منحوتة لعلوان العلوان

  •  عملت على إنجاز عدد من المنحوتات التي وضعت في الميدان العام، فما خصوصية هذه التجربة، وما الذي تطمح إلى قوله للجمهور من خلالها؟

النحت في الفضاء العام يخرج من صمته الخاص ليخاطب الجموع، يحمل رسائل مفتوحة، ويعيد تشكيل الذاكرة الجمعية. كنت حريصا على أن تكون أعمالي في الميادين امتدادا لهموم الناس، جزءا من نبضهم اليومي، لا ترفا بصريا، بل وثيقة حياة، تحفز الحوار والتساؤل. فهي تحمل بين طياتها حالات الإنسان وصراعه الأزلي في فك شفرات الوجود.

النحت يعاني من التهميش أحيانا، لكن ما يميّزه في العراق ارتباطه الوثيق بالتاريخ الحضاري

  •  ما الأسس التي وضعتها عند الإشراف على أعمال إعادة ترميم "نصب الحرية" في ساحة التحرير وسط بغداد عام 2022؟

كنت أعي أنني أتعامل مع أيقونة وطنية لا يمكن المساس بجوهرها. فعملت على احترام الرؤية الأصلية للفنان الكبير جواد سليم، مع الحرص على ترميم الروح، لا الحجر فحسب. اعتمدت على الحرفية الدقيقة، وعلى فهم عميق للبعد الرمزي للنصب، كصرخة صامتة تعبّر عن تطلعات العراقيين. تعاملنا بشفافية كون العمل خطرا لا يحتمل المجازفة، وبحمد الله كانت الأمور إيجابية بالتعاون مع الشركة المنفذة.

منحوتة لعلوان العلوان

تجربة ناضجة

  •  ما أهم المنعطفات التي شكّلت تجربتك، وهل تعتقد أنه من الممكن أن يكون هناك منعطفات مقبلة؟

كل منعطف في حياتي كان امتحانا، سواء على الصعيد الشخصي أو الفني. الحروب، الغربة، والانكسارات شكلت وعيي وأثّرت في تجربتي الفنية. أعتقد أن الفنان الحقيقي لا يتوقف عن التغير، والمنعطفات المقبلة قد تكون الأكثر عمقا، لأنها نابعة من تأمل طويل وتجربة ناضجة لأكثر من ثلاثة عقود تخللتها مراحل عدة.   

  •  كيف تنظر إلى الحركة التشكيلية (في مجال النحت) في العراق؟

الحركة التشكيلية العراقية، رغم التحديات، لا تزال غنية ومتشعبة. هناك أجيال تشتغل بوعي عالٍ، تبحث عن هوية معاصرة مستمدة من التراث والحضارة. النحت يعاني من التهميش أحيانا، لكن ما يميزه في العراق ارتباطه الوثيق بالتاريخ الحضاري، وهذا يمنحه بعدا استثنائيا، يجب الحفاظ عليه وتطويره.

font change

مقالات ذات صلة