ستون عاما من النحت المتمرّد على ماضيه

معرض شامل في لندن

Courtesy the Hayward Gallery
Courtesy the Hayward Gallery

ستون عاما من النحت المتمرّد على ماضيه

لم يعد النحت في عصرنا حكرا على مواد بعينها، بعد أن تحرّر من سيطرة المواد التقليدية الثقيلة، أي الحجر والبرونز والخشب، التي خلقت عصورا ملأها النحت بجماله الرصين. لكن عيون النحاتين المعاصرين كانت متجهة إلى برنيني، النحات الإيطالي الذي عاش في القرن السابع عشر بين عامي 1598 و1680. كان برنيني مدهشا في صناعة دانتيل الفساتين النسوية من الحجر في تماثيله. في أعماله هناك قدرة هائلة على إكساب الصخر خفة هي ليست منه. ذلك ما أوحى إلى النحاتين المعاصرين فكرة استعمال مواد خفيفة من أجل انجاز أعمالهم. فاتسع عالم النحت بعد أن انفتحت مواده على أنواع مختلفة من الحياة، لم يعد من بينها ذلك النوع الذي يضع الخلود هدفا له.

فالنحت المعاصر كما يظهر في معرض عالمي شامل تقيمه "قاعة هيوراد" بلندن هو فن يرهن وجوده بحيوية الحياة مثلما نعيشها في عصرنا. وهو ما تطلب الاستعانة بمواد مستلهمة من حالة التحوّل التي عرف الإنسان كيف يتكيف معها وهي من صنعه. كل المواد التي صار النحاتون المعاصرون يستعملونها هي جزء مما يُستهلك في الحياة اليومية. لذلك يمكن القول إن النحت لم يعد ذلك الفن الذي يقيم مسافة ما بينه وبين الجمهور اعتمادا على المواد المترفعة على الحياة العادية بل صار يلجأ إلى استعمال مواد يمكن اعتبارها صديقة. ولكن هذا المعرض يسلط الضوء على الأشكال التي تبشر بحياة مختلفة.

إعادة تربية جمالية

"حينما تكتسب الأشكال حياة" ذلك هو عنوان المعرض الذي يؤرّخ لستين سنة من التدفق والمغايرة والتجريب. نحاتون من مختلف أنحاء العالم تجمعهم مغامرة تقوم على محاولة تحرير النحت من سلطة المتحف وإعادته إلى الحياة، ليشارك الناس في طريقة تعاملهم مع المواد استعمالا واستهلاكا وأسلوبهم في النظر إليها باعتبارها مواد لا يمكن الاستغناء عنها. بلاستيك، بولستر، حبال. ألياف ضوئية. رقائق معدنية وخشبية، شمع، فلين، صمغ، كربون، سخام وأصباغ ترابية. بالونات وكرات قطن. يضاف إلى ذلك أدوات سبق استعمالها وتصدّأت كالمفاتيح والبراغي وقبضات الأبواب والأنابيب كما لجأ البرازيلي ارنستو نيتو إلى مواد مستعارة مباشرة من المطابخ كالفلفل والكمون والقرنفل. خلطة من المواد التي لو نظرنا إليها بطريقة محايدة فلن ننجح في الوصول إلى المعادلة الكيمائية التي تمكنها من تفجير طاقتها الإلهامية، لتكون أساسا لبناء أشكال، لا تظل في حيزها باعتبارها أشكالا تجريدية بقدر ما تسعى إلى استفزازنا بصريا من خلال الروح التي تدب فيها.

هذه الأشكال ليست مصنعة من أجل أن تبقى محجوزة في دائرة الفن الضيقة بل هي مصمَمَة بقوة إيحائها لكي تحلّ بيننا باعتبارها جزءا من الحياة

هذه الأشكال ليست مصنعة من أجل أن تبقى محجوزة في دائرة الفن الضيقة بل هي مصمَمَة بقوة إيحائها لكي تحلّ بيننا باعتبارها جزءا من الحياة التي نعيشها. ليس المقصود هنا الوظيفة التزينيية كأن توضع المنحوتات في الحدائق والساحات والأماكن العامة، بل المقصود أن تعيد الأشكال تربيتنا الجمالية بما يجعلنا مستعدين لاستقبال طاقة جمال من مواد لا تقع في محيطنا حسب، بل أيضا بين أيدينا.

خفة المشهد ورصانة الفكرة

حيوية الأشكال هي الأساس في النحت المعاصر. لذلك المفهوم تفسيرات عديدة متضاربة. فأما أن تكون الأشكال حية عن طريق مشاركتها في الحياة المباشرة أو عن طريق إيحائها بشعور متبادل ما بينها وبين البشر. وقد تكون تلك الأشكال حية عن طريق ما تلهمه بصريا من إمكانية إعادة النظر في ما يقع تحت أبصارنا من أشياء، سيكون علينا أن نتأملها من جديد بسبب ما اكتسبته من جمال بعد أن صارت موضوعا فنيا. في الحالين فإن المعرض يهبنا فرصة فريدة من نوعها للتعرف على تحولات فن النحت في عصرنا. وهي تحولات انطوت على الكثير من الأسئلة الوجودية. فالأشكال هنا تفكر وهي في الوقت نفسه تكتمل في نظام جمالي يجمع بين الخفة والرصانة. خفة المشهد ورصانة الفكرة.

Courtesy the Hayward Gallery

ما اكتشفه منسقو المعرض يقع في صلب التحول الذي شهدته الفنون المعاصرة. لم يعد التعبير مطلوبا. هناك آلية للتفكير ينبغي الالتزام بها. وليس علينا أن نبحث عن الجميل في ما نراه، على الرغم من أن معظم الأعمال المعروضة لم يفارق الرغبة في اقتراح نموذج مختلف للجمال. حين يقف المرء أمام عمل الأميركية تارا دونفان (1969) الذي احتل وحده إحدى قاعات العرض فلابد أن تدهشه طريقة تعامل الفنانة مع الشكل الكروي. الكرة هي المفردة الوحيدة التي استطاعت الفنانة من خلال تكرارها ومراكمتها بأحجام مختلفة أن تخلق شكلا مهيبا لا بسبب ضخامته فحسب، بل أيضا بسبب قدرته على الإلهام البصري الذي يأخذ منحى كونيا. فالشكل الذي لا يفارق لغزيته يوحي بإمكانية انتشاره على مساحة أكبر من المساحة التي عُرض فيها بسبب عدم توقف مفرداته عن التكاثر.

النحت في سياق الفنون المعاصرة

في عمله "العرض اللاحق" يعود الأميركي ايج هيل (1985) إلى "فن الضوء" وهو فن بدأ في ستينات القرن العشرين ولم يلق رواجا. لكن هيل سعى من خلال عمله الحالي إلى أن يميل بتقنيته إلى النحت مستعينا بالخشب، إضافة إلى الألياف الضوئية (النيون). هناك كتلة متراصة ومتتابعة من الضوء تضع المكان في خدمة الشكل الذي لا يوحي بشيء نعرفه. ولكي نحل اللغز علينا أن نتخيل ما الذي ملأ المكان ضوءا أو ما هو ذلك الشيء الذي أحضر الضوء ليكون في خدمته. هل هو طريق الرحلة أم محطة الوصول؟ ليست الأشكال غامضة في هذا المعرض بقدر ما تضعنا أمام احتمالين: إما أننا لم نر الأشكال كلها التي يزخر بها العالم وإما أن الشكل نفسه هو مجرد فكرة لا حدود لتجلياتها. وهو ما يعني أننا لم نتعرف على مفهوم الشكل كما أوهمنا أنفسنا مدرسيا.

Courtesy the Hayward Gallery

يعلق البرازيلي أرنستو نيتو (1964) عمله النحتي بالسقف وهو عبارة عن أكياس ملأها الفنان بالفلفل والكمون والقرنفل. ترحل بنا الفكرة إلى بلاد أخرى، لكن الشكل قد يكون مستعارا من بيئة لم نتعرف عليها. يضعنا ذلك العمل الفني في قلب الحياة المباشرة لكن من خلال المطبخ. أما بلديا باردو (1944 ــ 2023) التي ولدت وعاشت في لندن فقد صنعت عملها النحتي من مواد مختلفة، كلها خفيفة لكنها عرفت كيف توحي بأن أشكالها نابتة في الحقول مثل صخور وهي في الوقت نفسه قادرة على التحليق مثل فراشات. أهمية هذا المعرض تكمن في تأكيد أن النحت فن لم ينته بسبب غزو الفنون المعاصرة بل اكتسب حياة جديدة من خلال امتزاجه بتلك الفنون. 

font change

مقالات ذات صلة