معرض في لندن يجمع إرث الانطباعية من "اللوحات الورقية"

من ديغا إلى لوتريك

معرض في لندن يجمع إرث الانطباعية من "اللوحات الورقية"

لندن: "إذا كنت تريد أن تعرف كل شيء عن الانطباعية فما عليك سوى الذهاب إلى متحف أورسي بباريس"، تلك نصيحة ليست مثالية. فالمعرض المقام حاليا في "الأكاديمية الملكية للفنون" بلندن يقول إن هناك دائما ما لا نراه من أعمال الانطباعيين الفنية. قبل المضي قدما في الحديث عن ذلك المعرض لعلّ من المناسب قول شيء عن المدرسة الانطباعية التي مهّدت لولادة الفن الحديث وكان بول سيزان الذي يُلقّب بأبي الحداثة الفنية قد خرج من معطفها.

الانطباعية مدرسة فنية ظهرت بدءا من عام 1863. واكتسبت تسميتها من لوحة "انطباع شروق الشمس" لأحد روّادها كلود مونيه. إضافة إلى مونيه، كان هناك مانيه وبيسارو ورينوار وديغا وسيزلي والتحق بهم فنسنت فان غوغ وبول غوغان وسيزان. وعلى الرغم من أنهم أحدثوا بأسلوبهم تحولا عظيما في النظر إلى الطبيعة، كان بداية لخلق فن جديد يقوم على الرسم مباشرة في الهواء الطلق مع الأخذ في الاعتبار تحولات الطبيعة الآنية بمعنى تسجيل الانطباع البصري المباشر، غير أن أعمالهم لم تدخل إلى متحف اللوفر إلا عام 1937. أقام الانطباعيون معرضهم الثامن والأخير عام 1886.

وعلى الرغم من أن لوحات بول سيزان (1839ــ 1906) لم ترق للانطباعيين الأوائل وتأخرت مشاركته في معارضهم، إلا أن التحول التقني الذي مثّله أسلوبه كان له أعظم الأثر في انحسار تأثيرهم مع إطلالة القرن العشرين وهو ما بدأ واضحا من خلال اهتمام الرسامين الجدد (ماتيس، دوران، بيكاسو) بالبعد الهندسي للطبيعة الذي برع سيزان في تكريسه بديلا للمنظور. صحيح أنه لم يحظ في حياته بما حظيت به أعماله بعد وفاته، غير أنه كان يدرك أنه قد انتصر أخيرا وأن حلمه في دخول اللوفر سيتحقق قريبا. وهذا ما حدث فعلا.

لم يكن الرسم على الورق متعارفا عليه في أوروبا، ومن المؤكد أن ذلك التحوّل حدث بعدما اطلع رسامو فرنسا الشباب على الرسوم اليابانية

اليابانيون كانوا هناك

"انطباعية على الورق: من ديغا إلى لوتريك" عنوان المعرض الذي أشرف عليه أربعة من المنسقين، استطاعوا أن يجمعوا سبعين عملا، نُفّذت بالباستيل والغواش والأصباغ المائية والفحم، القليل منها على قماش أما أكثرها فقد نُفذ على ورق. معظم تلك الأعمال لم تُعرَض من قبل أو أنها عُرضت في نطاق ضيق. فكرة المعرض تقوم أصلا على التحول في التفكير بمواد الرسم الذي استحدثه الانطباعيون. لم تكن تلك الأعمال مصغّرات  تمهيدية (إسكتشات) للوحات زيتية رُسمت على أساسها، بل هي لوحات مستقلة، رسمها الفنان بالدرجة نفسها من الاهتمام الذي يمنحه لعمله الفني الأساسي. كانت هي الأخرى أعمالا أساسية. وهذا ما كان صادما في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، إذ لم يكن الرسم على الورق متعارفا عليه في أوروبا. ومن المؤكد أن ذلك التحوّل حدث بعدما اطلع رسامو فرنسا الشباب على الرسوم اليابانية بعد انفتاح اليابان على العالم ومشاركتها في معرض باريس الدولي بدءا من دورة عام 1870. لقد تأثّر الانطباعيون الفرنسيون بالرسوم اليابانية لكن بعدما تفاعلوا معها وهضموها وأخضعوها لمعالجاتهم التي هي وليدة مختبر فني، عمره أكثر من خمسة قرون. غير أن فنسنت فان غوغ (1853 ــ 1890) الذي ليس فرنسيا بل هولندي، كان أكثر شجاعة من الجميع. ما أخذه فنسنت من لوحات الحفر الطباعي اليابانية كان قد بنى على أساسه جزءا عظيما من عالمه الفني، لكن بطريقة لم يسبقه إليها أحد.

انطباعية بمواد فقيرة

إدغار ديغا (1834 ــ 1917) هو أكثر الحاضرين أعمالا، أما تولوز لوتريك (1864 ــ 1901) فقد كان أقلهم. عملان للوتريك في مقابل أكثر من عشرة أعمال لديغا. كلاهما ينتسب إلى عالمهما المعروف في أعمالهما الورقية. يمكنك التعرف اليهما من بعيد من غير الحاجة إلى قراءة القطع التي ألصقت إلى جانب إلى لوحاتهما. ربما يصح الأمر على الجميع بدرجات متفاوتة. بيسارو يمكن التعرف اليه في لوحة واحدة، كذلك غوغان ورينوار، أما فنسنت فان غوغ فعليك أن تقترب من لوحته لتتعرف اليه، ومونيه وسيزان كذلك. ليست معضلة كبيرة. ذلك لأنها لم تخلّ بمتعة النظر إلى أعمال فنية لا تزال قادرة على أن تمارس سحرها. لم يفن شيء منها. وهذا ما يؤكد أن الفن الحقيقي لا يزول بفعل التقادم. الفكرة في حد ذاتها مثيرة. استعادة الانطباعيين، لكن بطريقة غير تقليدية. لستَ في حاجة إلى الذهاب إلى "متحف أورسي".

فالانطباعيون هنا مختلفون. تلك المغامرة تستحق النظر. الانطباعية كلها هنا لكنها تخلت عن مهرجان الألوان بعدما استسلمت لمواد، يمكن تسميتها بالمواد الفقيرة نسبيا. ذلك هو الوجه الآخر للانطباعية، من خلاله حرّرت الفن من مواده التقليدية ووهبته طابع حياة مختلفة لم تتخلّ من خلاله عن أسلوبها المستقل. لم يستعد الرسامون في رسومهم الورقية قوانين الرسم الكلاسيكي بل رسموا انطلاقا من إلهام انطباعاتهم التي هي احتفال بالمصادفة. لحظة الرسم التي لا تتكرر والتي لا تُسمى أيضا.

يكشف المعرض عن احتفاء الانطباعيين بأعمالهم الورقية الصغيرة المنفذة بأقلام الرصاص بالقوة نفسها التي كانوا يحتفون بها بأعمالهم الكبيرة

من الطبيعة إلى اللوحات

ولكن ما معنى العودة إلى الانطباعية التي أدار لها فنانو القرن العشرين ظهورهم حين انهمكوا في تبديد إرث الأجداد العظيم وانقلبوا عليه من خلال إنجازات فنية، كان لها كبير الأثر في خلق ذائقة جمالية معاصرة؟

انطلاقا من الحقيقة التي تُفيد بأن الفن الحقيقي لا عمر له، فما من فن قديم وفن جديد، يمكن القول إن هذا المعرض الذي يكشف عن احتفاء الانطباعيين بأعمالهم الورقية الصغيرة المنفذة بأقلام الرصاص والفحم والباستيل بالقوة نفسها التي كانوا يحتفون بها بأعمالهم الكبيرة المنفذة بالزيت على القماش، يعيد الاعتبار إلى الانطباعية، لا لأنها أنهت سطوة المفهوم الأكاديمي الجامد على الرسم فحسب، بل لأنها وهبت الفنان حرية مضافة حين اعترفت باللوحات الورقية باعتبارها أعمالا فنية أصيلة وأساسية. ذلك درس لا يُنسى. ومثلما جعلنا الانطباعيون ننظر إلى الطبيعة بطريقة ثورية مختلفة فإنهم عملوا الشيء نفسه حين يتعلق الأمر بنظرتنا إلى الأعمال الفنية.

font change

مقالات ذات صلة