فنانة أندونيسية في رحلة دائرية حول الإنسان

معرض ثان لها في لندن

فنانة أندونيسية في رحلة دائرية حول الإنسان

لم يسبق لي أن رأيت عملا فنيا لفنان من أندونسيا. حين رأيت معرضين للفنانة كرستين أي تجوي في "قاعة وايت كيوب" بلندن، تفصل بينهما ثلاث سنوات، عرفت أن هناك جزءا من العالم يزخر بالتجارب الحداثية المتقدمة قد فاتتني فرصة التعرف الى كنوزه. وعلى الرغم من أن أي تجوي لم تتجاوز الخمسين من عمرها (ولدت عام 1973) فهي مشهورة على نطاق عالمي، حتى أن أعمالها تُباع في المزادات العالمية وبأسعار مفاجئة بالنسبة إلى فنانة ليست غربية.

للوهلة الأولى تبدو لوحاتها التي غالبا ما تكون كبيرة الحجم تجريدية خالصة. غير أن تأملها المتفحّص من غير الوقوع في فخ الانصياع البصري لسحر خطوطها الدائرية المتدفقة، لا بد أن يكشف عن وجه آخر، وجه له صبغة تشخيصية (تشبيهية) تبعد عنها صفة التجريد وتضع بين يدي مشاهدها المفاتيح التي تمكنه من الدخول إلى عالم، جعلته أي تجوي مسرحا لصراع الإنسان مع نفسه. فهي ترى الإنسان منقسما على نفسه في صيغتين. الوحش الداخلي والكائن الخارجي. ما نراه وما لا نراه منه. وهو ما يمكن التعبير عنه بصفات مختلفة تشكل كفَّتَي المعادلة التي تتمحور حولها الحياة الإنسانية. الخير والشر، الضعف والقوة، الفرح والحزن، الرضا والغضب، وسواها من المتناقضات التي تفصل بينها خطوط مجازية، لا يمكن العثور عليها في صورة واحدة.

من فضائل الفنانة أنها وضعت التقنية في خدمة فكرتها. من الواضح أنها من خلال خدش طبقات اللون كانت تريد أن تقول شيئا مختلفا وقد نجحت في القيام بذلك.

 كرستين أي تجوي رسامة تفكر في مصير البشرية وهي في الوقت نفسه مفكرة تظهر بثياب رسامة مرحة

خبرة الحفر الطباعي

حتى عام 2009 لم تكن كرستين أي تجوي قد استعملت مادة الزيت في رسم لوحات على القماش. درست الحفر الطباعي ومارسته. غير أنها وبإلهام داخلي قررت أن عليها أن تتحول تقنيا، ذلك لأن تقنيتها السابقة ضاقت بأفكارها. وهو ما يعني البحث عن أسلوب جديد في التعبير يكون منسجما مع فلسفتها في النظر إلى الإنسان الذي اعتبرت حياته الداخلية مسرحا لتجاربها في الرسم. غير أنها من خلال حرفتها السابقة في الحفر الطباعي تعلمت فن الإخفاء بعدما اكتسبت مهارة ممتازة في ترويض عناصر الرسم الأولية، الخط والمساحة واللون، ومن خلالها العلاقة بين السطوح.

مع مادة الزيت اكتشفت أن هناك سطوحا يمكنها أن تمر عليها سريعا لتخدشها بضربة فرشاة خفيفة تعينها على النظر إلى ما تراكم تحتها من طبقات. وهي إذ رسمت أجزاء من الشكل البشري، فإنها لم تقرر الكشف عنها إلا بعدما مارست حريتها في اختراق طبقات اللوحة، على الرغم من أنها مارست زهدا لافتا في الألوان فاقتصرت لوحاتها على اللونين الأبيض والأسود مع بضع بقع حمراء، تستعملها كأنها تشير إلى انفجارات وسط تلاسن محتدم بين الأسود والأبيض.

ولطالما اكتفت الفنانة باللون الأسود في أوقات سابقة وهو انعكاس لخبرتها الفنية التي اكتسبتها من فن الحفر الطباعي. وهي في حقيقة أعمالها الجديدة انما ترغب في مغادرة ماضيها. في الوقت نفسه، تجد في تحولها الفني مناسبة للكشف عن موقفها المحتج في مواجهة ما يعانيه الإنسان من اضطراب في عصرنا.

حرب داخلية تكفي

واضح أن كرستين أي تجوي تغلّب الفن على السياسة، لا من خلال إدارة ظهرها للسياسة أو الابتعاد عنها بل من أجل تسخيرها لإنتاج أعمال ممتعة. ما تقوله في لوحاتها يمكن اختصاره بما يأتي: هناك قوة سيادية ضاغطة تعمل على استضعاف إنسانية الكائن البشري ووضعها في مكان هامشي كأنها ليست ضرورية. في الوقت نفسه، يعاني ذلك الكائن من حرب داخلية، ليست لديه القدرة على فك اشتباك أطرافها، لا لشيء إلا لأن كل الأطراف تنتمي بالدرجة نفسها إليه، هو لها مثلما هي منه.

حين ننظر إلى لوحات أي تجوي، لا بد أن يُسرّنا إيقاعها، فهي تُسرّ النظر. غير أن الاستمرار في النظر إليها يضعنا في مأزق التعرف إلى قوى الصراع. هناك حيوانات خرافية تهاجم إنسانا لا يملك في مقاومته سوى جسد أعزل. كل ذلك لا يمكن رؤيته إلا إذا جلسنا بعيدا وصرنا نتأمل اللوحة بعين تبحث عن التفاصيل. هذه رسامة مولعة بالتفاصيل. وهي تفاصيل يخترقها الكثير من الألم. في مواجهة لوحاتها، سيكون على المشاهد أن يحتاط لئلا يفوته شيء ما لا يرى بيسر. سعادته في ما رآه لا تكفي. ترسم أي تجوي حياة خفية، هي مزيج مما يعانيه الإنسان من انقسامه بين الخير والشر ومن مقاومته الضغوط الخارجية التي تسعى إلى تسخيره لخدمتها. كرستين أي تجوي هي رسامة تفكر في مصير البشرية وهي في الوقت نفسه مفكرة تظهر بثياب رسامة مرحة.

نجحت الفنانة في أن تنقل توترها وانفعالها إلى المتلقي لتضعه في حالة ترقب، يمتزج فيها الإحساس بالجمال بشعور الخائف الضعيف

بين البراءة ونقائضها

تحرك كرستين أي تجوي خطوطها في مسار دائري، يكون متقطعا في أغلب الأحيان، أشبه بما يحدث للمرء وهو يركض. وهذا ما يحدث لمشاهد أعمالها وهو يسعى إلى البحث عن المركز الذي تهاجمه تلك الخطوط أو على الأقل تتجمع في محيطه. ترسم أي تجوي كأنها تنجذب إلى ذلك المركز الذي تعرف أن كائنها البريء يقيم فيه. كائنها الأعزل الوحيد الذي تهاجمه بالوحش الذي تستخرجه من أعماقه. وليس من قبيل المصادفة أن يكون ذلك الكائن منهمكا في تصريف شؤون لذة العيش في حياة، يعرف أنها مهدّدة بالفناء في أية لحظة.

لقد نجحت الفنانة في أن تنقل توترها وانفعالها إلى المتلقي لتضعه في حالة ترقب، يمتزج فيها الإحساس بالجمال بشعور الخائف الضعيف الذي يمنّي النفس بأن لا يكون هو الآخر ضحية لتلك الرواية المتخيلة. كل لوحة من أي تجوي هي خلاصة للحظة تعبيرية تنقل مدى الاضطراب الذي يعيشه الإنسان وهو يواجه قوى ترغب في أن تهدم أسوار عزلته لتستولي عليه وتنهي سعادته. ما يستدعي ألما أكثر، أن تلك القوى قد استخرجت جزءا من خطوط هجومها من داخل ذلك الكائن الذي تمتزج الضحية من خلاله بالجلاد. ازدواجية تعرف الرسامة كم تنطوي عليه من تجاذبات متناقضة شكلت طريقة رؤيتها إلى الإنسان ومن خلاله إلى الحياة.        

font change

مقالات ذات صلة