أسامو ناغوشي: ناسك النحت المعاصر

الفنّ يجدّد قوة الطبيعة

من معرض أسامو ناغوشي في لندن

أسامو ناغوشي: ناسك النحت المعاصر

لندن: خفيف وغامض ومريح وعميق أسامو ناغوشي، النحات الأميركي من أصول يابانية. ما الذي يحتاج إليه المرء أكثر لكي يتعرف على الجمال. ان يكون المعنى سببا للقطيعة. يمكن النظر إلى كل عمل من أعمال ناغوشي على أنه محاولة لتخليص الحياة من أثقالها. إن كل شيء في الطبيعة والحياة في إمكانه أن يكون مصدرا لإلهام فني بشرط أن يراه المرء وقد تخلص من حمولاته الواقعية. حين يتأمل المرء أعمال ناغوشي لا يحتاج إلى البحث عن مصادرها. تأملها يكفي لاستيعاب تأثيرها الجمالي، وهو تأثير يتخطى المادي في العلاقة بالأشياء. يشعر المرء كما لو أن مشاعره الخفية قد تحولت إلى مجسدات. أنت ترى شيئا من عالمك الخيالي. تشتبك بأحلامك التي لم تتمكن من تفسيرها وهي عبارة عن عمارة ضبابية.

يمكن اعتبار أسامو ناغوشي واحدا من رواد التحول إلى الفن البصري. كان يلعب كما لو أنه يخترع أحداثا سعيدة. لذلك انتشرت أعماله في الحدائق العامة والمؤسسات وأقبل أصحاب الأموال على شرائها  لتزيين بيوتهم


صلوات

يجر ناغوشي عصبا ليجعل منه هيكلا لمعبد، تملأه الصلوات من غير مصلين. ناغوشي هو ناسك النحت المعاصر. تعلم الكثير من الأميركي الكسندر كالدر غير أنه كان أكثر صرامة وزهدا منه. تخلص من المرح الفائض. فكان أكثر جمالية وأشد رغبة في الوصول إلى الكمال. من حقه أن يلاحق الصفاء في مختلف صوره. أعماله المعروضة حاليا في "غاليري وايت كيوب" بلندن تكشف عن أن سعيه إلى الفن الصافي كان هو خيط حياته الذي وصل من خلاله إلى نحت معاصر، لم يكن صدى لتأثيرات النحت عبر العصور.

من معرض أسامو ناغوشي في لندن

نخبوي بصفائية فنه

سيكون عليه أن يكون نحاتا يستلهم الطبيعة والإنسان من غير أن يكون معنيا بالمعاني التي تتراكم من حولهما. في الوقت نفسه فإنه لم يتوهم أن الخلاصة ستكون جاهزة بين يديه. غير أنه كان يعرف أن ما فعله قد انطوى على فعل انعتاق من قواعد النحت لم يسبقه إليه أحد. ولكن ذلك لم يكن ضروريا لولا  أن تلك النظرة الصفائية قد حلت محل النظرة التشكيلية التي كانت سائدة. يمكن اعتبار أسامو ناغوشي واحدا من رواد التحول إلى الفن البصري. كان يلعب كما لو أنه يخترع أحداثا سعيدة. لذلك انتشرت أعماله في الحدائق العامة والمؤسسات وأقبل أصحاب الأموال على شرائها  لتزيين بيوتهم. بالنسبة إليه لم يكن الأمر سيئا ما دام كل شيء يتم وفق شروطه. هل كان فنانا نخبويا؟

 

طبيعة مجاورة

ولد أسامو ناغوشي عام 1904 في لوس أنجليس وتوفي عام 1988. وهو ما يعني أنه عاش القرن العشرين كله. بكل تحولاته وانقلاباته. وكأي فنان كانت الطبيعة مصدر إلهامه. ولكنه كان مختلفا في تفسير معنى الطبيعة. في ذلك يقول "طبيعة الأشجار والعشب شيء واحد. ولكن هناك العديد من درجات الطبيعة. يمكن أن تكون الخرسانة طبيعة. المساحات بين النجوم هي أيضا طبيعة. هناك طبيعة بشرية. في المدينة يجب أن تكون لديك طبيعة جديدة. ربما يتعين عليك إنشاء تلك الطبيعة".

أسامو ناغوشي، النحات الأميركي من أصول يابانية

ذلك ما دفعه إلى اختراع صور لطبيعة متخيلة، يستجيب خيالها لمواد هي ليست من ظاهرها. يستعمل ناغوشي أساليب ومواد صناعية بهدف خلق مجال حيوي يتماهى فيه وعيُنا مع عضوية غير حقيقية تكتسبها الأشياء، تكون قادرة على إقناعنا بإمكانية قيام طبيعة مجاورة. تقنعنا أعمال ناغوشي التي تؤكد استغناءها الكلي عن المعنى بأن مفهوم الطبيعة بتسع للكثير من الخيال.

 هناك العديد من درجات الطبيعة. يمكن أن تكون الخرسانة طبيعة. المساحات بين النجوم هي أيضا طبيعة. هناك طبيعة بشرية. في المدينة يجب أن تكون لديك طبيعة جديدة. ربما يتعين عليك إنشاء تلك الطبيعة


أسامو ناغوشي

شلال من المعدن

عام 1955 طلب أحد البنوك من ناغوشي إعادة تصميم ردهة مكاتب جديدة له تقع قريبا من متحف الفن الحديث بمنهاتن. وافق الفنان على العرض بشرط أن يقوم بصنع شلال. قام يومها بصنع شكل متموج شبيه بالموجة من الألمنيوم والفولاذ المقاوم للصدأ. عن طريق ذلك الشكل المعلق في السقف نجح الفنان في تحويل مساحة كئيبة من الرخام الأسود والأبيض إلى منظر طبيعي خيالي يطغى فيه صوت المياه المتسافطة على ضجيج الحياة المدنية.

من معرض أسامو ناغوشي في لندن

النحت بنظام جديد

ومثلما اخترع ناغوشي طبيعة جديدة أو مجاورة، فإنه كشف عن إمكانية توسيع مفهوم النحت خلال الانفتاح على التقنيات الحديثة، فتحولت المنحوتات إلى مجسدات خفيفة الوزن توحي بقدر من الهشاشة تماشيا مع قدرتها على الإيحاء بإلهامها العضوي. ولم يقف ذلك بين الفنان والتكرار باعتباره استعارة زخرفية هي جزء من تراث، لا يُعرف بالتحديد زمنه ومكانه. حين صنع ناغوشي منحوتات من الألياف الصناعية فإنه أضفى طابعا إنسانيا على مواده الصناعية. وهو طابع لا تخطئه العين بسبب الشعور برقته وهشاشته والعاطفة التي تحيط به من غير أن تخترقه. طوّر الفنان الذي لا ينسى أصوله اليابانية نظام لعب هندسي صار مرجعيته التي تجمع بين ما هو طبيعي وما هو صناعي. فليست الوردة بالنسبة إليه إلا شكلها الذي تلعب به الريح وتتمكن أخيرا من تفكيكه من غير أن ينسف ذلك الطابع الجمالي المتحول دائما.

الحدائق ملعبه

ملأت منحوتات  ناغوشي الكثير من المرافق العامة حول العالم يسحرها الأخاذ. غير أن الحدائق كانت أكثر الأماكن التي تثير رغبته في الخلق المتجدد. فالتماس المباشر مع الطبيعة كان يغريه كأنه يعثر على مساحة، يحقق من خلالها أحلامه. وهي أحلام جسدها من خلال منحوتات تمعن في خفتها مثل غيوم زائرة. ولأنه استلهم الأشكال الطبيعية كالأوراق والأغصان والجذور فقد كان يجد لذة في أن يستعرض اختراعاته في مواجهة الأصل. نجح في رهانه حين أثبت أن الفن في إمكانه أن يجدد قوة الطبيعة.  

font change

مقالات ذات صلة