"تيم لاب" أبوظبي حيث التكنولوجيا في خدمة الفن

تجربة حسّية مع "المنحوتات الإدراكية"

AFP
AFP
متحف "تيم لاب فينومينا" الجديد، تجربة فنية غامرة، في منطقة السعديات الثقافية في أبوظبي

"تيم لاب" أبوظبي حيث التكنولوجيا في خدمة الفن

لم يكتف الضوء بهزيمة الظلام، بل فرض وجوده بدرجات لا متناهية من الألوان والأشكال على إيقاعات يبدو أنها جاءت من بعيد لتأخذ المستمع برحلة حسية قد تبدأ من جذور الأرض ومن ثم تحلق بعيدا في الفضاء، ومن خلال هذه الأجواء يصبح الإنسان جزءا لا يتجرأ من العمل الفني، فالأضواء الملونة تتساقط على جسده دون استئذان، وهو الآن تفصيل من مشهد طبيعي أو فراشات متحركة تعبره من كل اتجاه، ليصبح واحدا مع ما حوله.

إنه "تيم لاب فينومينا" في أبوظبي الذي يتيح للزائر عيش هذه الحالة المغايرة عن كل ما يصادفه يوميا، ويختبر نوعا من الفن مختلفا تماما عن كل ما شاهده من فنون، بعد أن يخطو خطواته الأولى في مبنى "تيم لاب" الواقع في المنطقة الثقافية بجزيرة السعديات في العاصمة الإماراتية.

استكشاف فني

"الكون الحيوي" و"تراكم الزمن" و"مسارات مستمرة في التغيير والتشكل"، بعض العناوين لأعمال فنية موزعة على قاعات المبنى الذي يمتد على مساحة 17,000 متر مربع. والعناوين التي لا تبدو مألوفة، تعتبر مدخلا لما قد يعايشه المتجول من حالات داخل القاعة التي تتفاعل بمكوناتها مع الحواس الخمس، وهو ما يحفز على استكشاف مشاعر جديدة تتغير وتتجدد بتغير لعبة الأضواء والتفاعل معها. فالعمل الفني "من الأمواج" يتعدى فكرة كونه مجرد خداع بصري، ليصبح حقيقة في الفضاء المادي الذي يشغله جسد المشاهد حين يمتلئ بالأمواج، وهو ما يضيف المزيد من التفاصيل إلى العمل، حيث يتكامل وجود المشاهد مع حركة الأضواء المدروسة في لقطات متحركة ومتناغمة تخوض تجربة واحدة.

 تسعى "تيم لاب" التي تتخذ من طوكيو مقرا لها إلى استكشاف العلاقة بين الذات والعالم، وفتح آفاق جديدة لأشكال الإدراك الإنساني

ما كان لمثل هذه الأعمال أن تنوجد لولا التطورات التكنولوجية الحديثة التي فتحت للفن آفاقا جديدة التقطها وأبدع فيها فريق "تيم لاب" الذي تأسس عام 2001 كجماعة فنية دولية تسعى لاستكشاف التفاعل بين الفن والعلوم والتكنولوجيا والعالم الطبيعي. ومن هذا المنطلق اعتمدت أعمالهم على تعاون متعدد التخصصات أتاح الجمع بين الفنانين والمبرمجين والمهندسين ومصممي الرسوم المتحركة الحاسوبية والرياضيين والمعماريين. وعبر هذا النهج تسعى "تيم لاب" التي تتخذ من طوكيو مقرا لها، إلى استكشاف العلاقة بين الذات والعالم، وفتح آفاق جديدة لأشكال الإدراك الإنساني.

منحوتة متحركة

في عمل "شكل الريح" تتجسد حركة الريح وتنساب حسب تعرجات الأشخاص والفضاء الموجود فيه، وهو ما يحدث تفاعلا مستمرا مع جميع التدفقات الأخرى وفق الاستجابة لها.

AFP
متحف "تيم لاب فينومينا" الجديد، تجربة فنية غامرة، في منطقة السعديات الثقافية في أبوظبي

ويتألف العمل من عدد لا يُحصى من الجزيئات المتفاعلة، التي ترسم خطوطا ضوئية عبر مسارات حركتها، فتتظهر بأنها ليس وهما مكانيا، لأنها تنوجد في الفضاء الذي يشغله جسد المشاهد حيث تعصف فيه الريح التي تتحول هنا إلى منحوتة إدراكية نابضة بالحركة.

وتُظهِر الصور التي تلتقطها عدسات الكاميرا وتُنشئها تقنيات المنظور، مشاهد ثلاثية الأبعاد على سطح ثنائي الأبعاد. تكوّن هذه الصور وهما بصريا يفصل بين المُشاهد والفضاء.

أما عمل "مصابيح عائمة متناغمة" فهو تجربة علاقة مع الماء الذي تطفو على سطحه المصابيح وتتمايل بإيقاع خاص، ومع الزائر الذي ترك حذاءه في الخارج ومشى لتغمر المياه جزءا من ساقيه، ويصبح جزءا من هذا العمل الذي يُعتبر واحدا من ثلاثة أعمال فنية في قاعات مبللة. الاقتراب من المصابيح المتناغمة الإيقاعات ودفعها، يغير إيقاعاتها وتوهج الضوء فيها، وهو ما يخلف انعكاسات جديدة تغوص في المياه الضحلة، وتتناثر على أسطح المرايا، التي تعكس مكونات المرايا المقابلة. وهكذا قد يشعر الشخص بأنه أصبح أكثر من عشرة أشخاص، والمصابيح أكثر وأبعد من أن يدفعها إلى مكان أبعد منه بقليل، لتتوهج وتصدر نغمة موسيقية تتسلسل مع غيرها من النغمات، مما يخلق مشهدا صوتيا يتشكل من إيقاعات الضوء المتذبذب. كل ما في هذا العمل الذي يبدو منتظما وعفويا في الوقت نفسه، جاء نتيجة فكرة "تيم لاب" للتعبير عن الإيقاعات المتناغمة التي تحدث بانسيابية دقيقة للغاية مثل حركة بندول الساعة أو القلب الذي ينبض بتناغم. إنه دعوة للتمعن في ظواهر وأنظمة قد تبدو مختلفة المنشأ، منها الفيزيائية والبيولوجية والعصبية والبيئية، ولكن انتظام إيقاعها يدعو الى الطمأنينة، أما اختلال الإيقاع والتناغم، فيعطي إشارات تدل أن هناك حدثا ما غير جيد.

فكل شيء قائم ضمن استمرارية طويلة متقلبة، هشة في ظاهرها، لكنها تستند الى بُعد مذهل يتجاوز الإدراك التقليدي

إنها ترجمة رؤية فنية عميقة تميزت بها أعمال "تيم لاب"، وهو ما جعل دولا كثيرة تستقطبها للعرض ضمن مجموعاتها الدائمة التي تشكل أبرز المؤسسات الفنية حول العالم، من بينها "المعرض الوطني في فيكتوريا" في ملبورن، ومعرض "نيو ساوث ويلز للفنون" في سيدني، ومعرض "جنوب أوستراليا للفنون" في أديلايد، والمعرض الوطني الأوسترالي، وفي "آموس ريكس" في هلسنكي، وفي "متحف الفن المعاصر" في لوس أنجليس، و"متحف الفن الآسيوي" في سان فرانسيسكو، وغيرها الكثير من المؤسسات الفنية المرموقة.

AFP
متحف "تيم لاب فينومينا" الجديد، وهو تجربة فنية غامرة، في منطقة السعديات الثقافية في أبوظبي

ما بعد الإدراك

لفهم العالم المتنوع، يعمد الناس إلى تقسيمه كيانات مستقلة تفصل بينها حدود مدركة. لكن ما سعى إليه فريق "تيم لاب" هو تجاوز هذه الحدود في إدراكنا للعالم، وفي تصور العلاقة بين الذات والعالم، وفي فهم امتداد الزمن. فكل شيء قائم ضمن استمرارية طويلة متقلبة، هشة في ظاهرها، لكنها تستند الى بُعد مذهل يتجاوز الإدراك التقليدي، ولا تحده حدود، خاصة أن العمل الواحد يمنح الانطباعات المختلفة للمشاهد بالاستناد الى تفاعله مع ما يراه، وتفسيراته التي تتوافق مع ثقافته وفلسفته، إنها الرؤية التي تتعدد بتعدد المشاهدين، وإن كانت خيوطها معلقة في تفاصيل الأضواء وحركتها المتجهة صعودا وهبوطا أو دائريا يتناغم مع حركة الكون، مثل "أكوان مصغرة عائمة" وهو العمل الذي يقود الزائر إلى غرفة دائرية تبدو الأرض التي يقف عليها متحركة بشكل دائري، معلقة بفضاء. فالأرضية عبارة عن خيوط حديدية متشابكة يخترقها التأثير الضوئي الذي يتحرك بتناغم مع الإيقاع الموسيقي وتشكيلات غريبة تستحضر عوالم المدارات الكونية، حيث الشعور بالاتساع الذي تساهم فيه حركة الضوء الموحية. فالأضواء عنصر أساس يقدم للمتأمل الدعوة المتجددة في كل عمل فني لرؤية ما وراء الشكل، ويظهر هذا بوضوح في "الضوء المتبلور الحي"، وهو عمل فني يقدم تجربة مغايرة تتجاوز حدود المادة التقليدية. فالعمل هنا لن يتغير ولن يتحول حتى عند لمسه، ويبقى محافظا على كينونته كما هي، حتى يدرك الزائر أن ما يراه ليس سوى ماء. فالعمل الفني ليس موجودا بذاته، بل يتشكل في الظاهرة التي تنشأ من البيئة المحيطة به.

"المنحوتات الإدراكية" هي أعمال إن استطاع المُشاهد إدراكها فهي موجودة، وإن لم يُدركها، فستبقى كامنة في فضاء الاحتمالات

هكذا يتحرر العمل الفني من قيود الشكل المادي ليصبح انعكاسا للبيئة التي تحتضنه. بمعنى أن تتحول العناصر الطبيعية المحيطة بنا مثل الهواء والماء والضوء إلى ظواهر تتشكل بفعل البيئة، وهذه الظواهر هي التي تشكل العمل الفني وتمنحه معناه. فهو في حقيقة الأمر كيان لا يمكن فصله عن بيئته وعن العناصر التي يتكون منها، بل يتغير ويتكيف معها باستمرار. ورغم إمكان إعادة تشكيله إذا ما تعرض لأي تدخل خارجي، إلا أن زوال البيئة التي تحتضنه يعني زواله بالكامل. حدوده غامضة وغير محددة، يذوب ويتلاشى مع محيطه. ولكن بمرور الدقائق سينتقل انتباه المُشاهد من التركيز على العمل الفني ذاته إلى إدراك الفضاء من حوله.

AFP
متحف "تيم لاب فينومينا" الجديد، تجربة فنية غامرة، في منطقة السعديات الثقافية في أبوظبي

وهو شكل العمل الفني ولونه الذي يتغير باستمرار مع حركة المشاهد. لتصبح كل تجربة مع هذا العمل تجربة خاصة، فالعمل الذي يراه شخص ما، يبدو مختلفا تماما عما يراه شخص آخر يقف بجواره، سواءً في اللون أو الشكل. في هذا المعنى، لا يوجد العمل الفني في فضاء مادي ثابت، بل يتجسد داخل إدراك المُشاهد نفسه. تُعرف هذه الأعمال الفنية باسم "المنحوتات الإدراكية"، وهي أعمال لا توجد إلا في عالم الإدراك. إن استطاع المُشاهد إدراكها فهي موجودة، وإن لم يُدركها، فإنها ستبقى كامنة في فضاء الاحتمالات.

font change