كتّاب الرواية الواحدة من إدغار ألن بو إلى محمد خضيّر

انقطاع الإلهام أو مسيرة واعدة انتهت بالموت

ادغار ألان بو

كتّاب الرواية الواحدة من إدغار ألن بو إلى محمد خضيّر

الرواية الأولى لهؤلاء الكتّاب ستكون نفسها الأخيرة. ليسوا جميعهم يشتركون في طبيعة الموقف الغريب الكامن وراء قرار عدم تكرار التجربة، مرّة ثانية وثالثة، بل تختلف أسبابهم الخاصّة بين من غيّبهُ الموت بعد باكورته الروائيّة، وبين من اعتزل غواية الكتابة وجنون الأضواء واختفى الى الأبد، وبين من استوفى شروط الإبداع والتخييل، ويرى عدم الجدوى من إنجاز أخرى، إذ اكتفى بما شحذه في العمل الروائيّ الأوّل كأنّما استوعب مجمل ما أراد أن يقول، فراهن على وحدته الرمزية المقدّمة بصيغةِ جمعه.

كما لا تعدم قائمة هؤلاء نماذجَ كتّابٍ اعترتهم الخيبة وصدمهم فشلُ التجربة فانصرفوا عن ذلك بالمطلق، وثمة في المقابل طائفة روائيّين آخرين رفضوا الكتابة بعد النجاح المدوي لروايتهم الأولى، لا حفاظا على ألق صيتها الذائع، وإنّما احتجاجا وشجبا أنطولوجيّا لما تعرّضوا إليه من اعتقالٍ وتعذيبٍ ومنعٍ ونفيٍ من طرف أنظمةٍ بوليسيّة دمويّة صادرتْ حرّية تخييلهم الإبداعي، وكان امتناعهم أو صمتهم إدانة لعالمٍ تحكمه البربريّة المُجهِزة على القيم الجمالية المغايرة، فبالأحرى القيم الإنسانية التي مبتدأها الكرامة والحرية.

في طليعة من شاع أنّهم كتبوا رواية واحدة، وامتنعوا عن كتابة ثانيةٍ، متفرّغين كليّا للقصص القصيرة والشعر، سيّد الغرابة وأستاذ الرعب، إدغار آلان بو، ويتعلّق الأمر بروايته "حكاية آرثر غوردن بيم من نانتكيت" 1838، ولعلّ ما ساهم في شهرتها هو حادثة غرق سفينة "ميغنونيت" عام 1884 التي قام الأشخاص الأربعة على متنها بالاستعانة بقارب للنجاة، وفي إثر إبحارهم اضطروا لقتل أصغرهم سنّا وأكل لحمه، وهي وقائع تتطابق مع تخييل رواية إدغار آلان بو المشار إليها أعلاه كأنها قد تنبأت بحدوث ذلك.

ضمن هذا المنحى يمكن إدراج رواية "صورة دوريان غراي" لأوسكار وايلد ورواية "مع  فرانكلين إيفانز، أو السكير: قصة العصر" للشاعر والت ويتمان

ضمن هذا المنحى يمكن إدراج رواية "صورة دوريان غراي" لأوسكار وايلد إذ بعدها كرّس نفسه للقصص والمسرح، ورواية "مع  فرانكلين إيفانز، أو السكير: قصة العصر" للشاعر والت ويتمان الذي عاد بعدها كلية الى الشعر.

روائيّات

من اللافت أن تتقدّم أو تعزّز ظاهرة الرواية الوحيدة، روائيّات عالميّات ممّن راجَ أنّهنّ كتبن رواية مفردة، أمست نجمة شاردة يتيمة في ليلهنّ الصامت ولكن متوقدة ومضيئة على نحو دائم، إذ أدركهنّ الموت في عزّ شبابهن كما في الحالة المعروفة للروائية إميلي برونتي صاحبة رواية "مرتفعات ويذرينغ" المنشورة سنة 1847، وقد رحلت في سنّ الثلاثين. ولعلها الحالة نفسها بصورة ما مع مارغريت ميتشل صاحبة رواية "ذهب مع الريح" التي رحلت في سن 49. من ناحية ثانية يمكن أن ينضاف إلى القائمة من انتحرن أيضا في سنّ مبكرة وقد خلّفن أثر رواية واحدة، كحالة الشاعرة سيلفيا بلاث صاحبة رواية "الناقوس الزجاجي".

رواية صورة دوريان غراي

من الروائيّين الذين انتحروا في سنّ 33 وقد أمست روايته الوحيدة حينئذ مثار اهتمام النقد الأميركي حدّ إدراجها ضمن الروايات الأميركية العظيمة، روس لوكريدج، صاحب رواية "شجرة الحياة: مقاطعة رينتري" وقد حُوّلت إلى فيلم سينمائي من إخراج إدوارد دميتريك 1957.

ج. د. سالنجر

في المقابل هناك من اعتزل الكتابة الروائيّة، وأشاح بوجهه عن الأضواء، لائذا بعزلة غامضة ومطوقة بالكثير من اللغزية كصاحب رواية "الحارس في حقل الشوفان" 1951، الروائي ج د سالنجر الذي كان يمقت الصحافة والإعلام، ويجاهد قدر المستطاع كي يتحاشى الحوارات والصور، حتى أنه لجأ إلى غابة، وقاطع حياة المدن الصاخبة، ومجتمع العصر الاستهلاكي.

كتب خوان رولفو رواية واحدة ألهمت ولادة تيار الواقعية السحرية وأشهر رواياتها "مئة عام من العزلة"

ملهم الواقعية السحرية

أمّا الحالة الروائيّة الأكثر استرعاء للانتباه في أميركا اللاتينية فيتفرّد بها خوان رولفو صاحب رواية "بيدرو بارامو"، والذائع أنّ روايته هذه كانت الحجر الأساس لولادة رواياتٍ مماثلة تتماهى معها تخييلا، أهمّها شهرة "مئة عام من العزلة" لغبريال غارثيا ماركيز، على سبيل المثل، كيف لا وقد عُدَّ خوان رولفو الأب الروحي للواقعيّة السحرية. أمّا النص الذي صدر له بعنوان "ديك من ذهب" سنة 1980 فهو محض قصة كتبها للسينما بين 1955 و1956 إذ أعدّها غارثيا ماركيز وكارلوس فوينتس لسيناريو فيلم بالعنوان نفسه أخرجه روبرتو غافالدون عام 1964.

خوان رولفو

وممّن خلّفوا أثر رواية وحيدة حافلة في حياتهم من إيطاليا، الكاتب جوزيبي تومازي دي لامبيدوزا اختار لها عنوان "الفهد" الصادرة عام 1957، وتمسح تاريخا بكامله من خلال سيرة ذاتية راصدة التحولات السياسية والاجتماعية في صقلية.

ثمّ نلفي حالتين استثنائيتين في التجربة النوبلية، واحدة للروائي بوريس باسترناك صاحب "دكتور جيفاكو" التي عانى بسببها الويلات في الاتحاد السوفياتي، واتهم بسببها بالخيانة حينما أعلن تتويجه بنوبل، ولهذا السبب رفض الجائزة.

مارغريت ميتشل

والثانية رواية "نار الله" التي توّج صاحبها إلياس كانيتي بجائزة نوبل، تتمحور حول شخصية البروفسور كين من أعظم علماء الصينيات المهووس بالكتب، والرواية ذات سخرية لاذعة صيغت في ثلاثة أقسام "رأس بلا عالم"- "عالم بلا رأس"- "عالم في الرأس".

عربيّا

عربيّا يمكن أن نمثّل لأدب الرواية الوحيدة، بالكاتب المصري وجيه غالي المعروف بروايته "بيرة في نادي البلياردو" (مكتوبة بالإنكليزيّة)، وكذا القاص العراقي محمد خضيّر، الذي أصدر رواية واحدة مكثفة بعنوان" كراسة كانون" وامتنع عن تجربة كتابة أخرى أو تجنيس نصّ جامع برواية مرة ثانية، عن موقفٍ جماليّ معلن منه في أكثر من حوار.

إدغار ألان بو ومحمد خضير

تلك حال بئرهم الروائية التي ما استضافت قرارتها سوى حصاةٍ، ألقاها هؤلاء إلى قعر ذاكرتها، واكتفوا برجع الصدى اليتيم ولكن الأبدي، مقابل الروائيّين ذوي الوفرة من الأعمال، الذين أردفوا الحصاة تلو الأخرى.

وكأنّ اقتصار تجربتهم على رواية واحدة شبيه بفاكهةٍ عزلاء في شجرتهم الروائيّة، لا بسبب الخريف الكاسح الذي أَلَمَّ بالشجرة وعقمها بالضرورة، ولكن بالنظر إلى أنّ عنوانهم الروائيّ المُفرد كبيانٍ روائيٍّ جامع يفصح عن ربيع الشجرة مكثّفة في فاكهةٍ يتيمة، أو يفصح عن الغابة مكثفة في شجرة عزلاء.

font change

مقالات ذات صلة