الكاتب الأرجنتينيّ أدريان ن. براﭬـي: الروايات تكذب لتفضح الحقيقة

يتحدث لـ "المجلة" عن المكتبات والكتابة والهوس

Irene Blasco
Irene Blasco

الكاتب الأرجنتينيّ أدريان ن. براﭬـي: الروايات تكذب لتفضح الحقيقة

أدريان ن. براﭬـي كاتب أرجنتينيّ يكتب باللغة الإيطالية. وُلِد في بوينس آيريس عام 1963 ويعيش حاليّا في مدينة رِكاناتي الإيطالية. انتقل إلى إيطاليا في أواخر ثمانينات القرن الماضي لمتابعة دراسته، فتخرَّج في كلية الفلسفة في جامعة ماتْشِراتا وعمل، ولا يزال، أمين مكتبة في الجامعة نفسِها حيث يضطلع بشكلٍ رئيس بأرشفة الكتب القديمة. في عام 1999 نشر روايته الأولى باللغة الإسبانية وفي عام 2000 بدأ مغامرة الكتابة بالإيطالية. معظم رواياته صدرت عن منشورات Nottetempo في روما. كما صدر له كتاب للأطفال والعديد من المقالات في الصحف والدوريات. حصل على العديد من الجوائز، وتُرجِمت كُتبه إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والعربية. من أعماله: "غبار" 2007؛ "الشجرة العطشى" 2010؛ "خصلة الأصلع" 2011؛ "الشجرة والبقرة" 2013؛ "الفيضان" 2015؛ "العُرجان" 2016؛ "غيرة اللغات" 2017؛ و"إلدورادو الخضراء" 2022. في ماتْشِراتا كان لنا معه هذا الحوار.

  • أنْ يراك المرء منكبّا، في إحدى المكتبتين اللتين تعمل فيهما بمدينة ماتْشِراتا، على أرشفة الكتب والمجلَّدات القديمة، لا يملك إلَّا أن يفكّر في مُواطنِكَ بورخيس وهو يؤدّي العمل نفسه في مكتبةٍ قديمة ومنسيَّة في إحدى ضواحي بوينس آيريس. هل تعني لك هذه المصادفة شيئا؟

لطالما رغبت في أن أصبح أمينَ مكتبة، خاصَّة مذ بدأتُ أتردَّد إلى المكتبة اليسوعية حيث درست. وبعد تخرُّجي في كلية الفلسفة تفرَّغت لدراسة علم المكتبات. يجذبني صمتُ المكتبات وأرشفةُ الذاكرة ومعرفةُ أنّ ما أقوم به يمكن أن يعود بالفائدة على الباحثين والطلبة. إنَّه المصير الذي يربطني، كما أشرتَ، وأنت محقّ في ذلك، ببورخيس. والحقُّ أنَّ حبَ المكتبات وحبّ القراءة قد وُلِدا متلازمَين في داخلي، وعلى التحديد عندما بدأتُ الاطلاع على نصوص بورخيس.

هناك حكاية مثيرة للاهتمام تُروَى عن علاقة بورخيس بالمكتبات: حدثَ في عام 1938 أن وجدَ عملا كمساعد مؤرشِفٍ في مكتبةٍ ميغيل كانيه البلدية في منطقة بويدو، وكان قد كتب بالفعل نصوصا عدة. يُقال إنَّ بعض زملائه اقترح عليه أن يعمل بوتيرةٍ أبطأ وإلَّا أنهى في يومين ما يمكن أن يُنهيه في شهر. في عام 1946، بعد فترةٍ قصيرة من صدور كتابه “تخيُّلات”، انتُخب الجنرال خوان دومينغو بيرون رئيسا للأرجنتين، وكان قد سبق لبورخيس أن وقَّع بعض العرائض ضدَّ بيرون وضدَّ دعمه للديكتاتوريّات الأوروبية. ولنا أن نتخيَّل أيَّ قَدْرٍ من الشجاعة كان يتطلّبه أمر كهذا في حقبةٍ كان عنوانها الانتقام. فبعد فترةٍ وجيزة من تولّي بيرون منصبه، فُصِلَ بورخيس من عمله كمساعد مؤرشِفٍ وعُيِّن مفتِّشَ دجاجٍ وأرانب في سوقٍ بلديةٍ في بوينس آيربس. مندهشا من ذلك الموقف، ذهب بورخيس ليتحدَّث مع أحد الموظَّفين الحكوميّين ويعبّر له عن حيرته وذهوله، لكنَّ الموظَّف، بحججٍ لا يمكن دحضها، أكد له أن تغيير وظيفته مردّهُ إلى توقيعه بعض العرائض المناهضة للبيرونيَّة. وفي عام 1955، عندما سقطت حكومة بيرون، عُيِّن بورخيس مديرا للمكتبة الوطنيَّة، ليعلِّق على ذلك، بروح بورخيسيَّة أصيلة، قائلا: "يا لها من سخرية إلهيَّة مهيبة أن أُمنَح ثمانمئة ألف كتاب وأُمنَح، في الوقت نفسه، الظلام" (في إشارةٍ إلى أنَّه في تلك السنة كان قد فَقَدَ بالكامل تقريبا بصره).

لذلك، فإنَّ معرفتي بأنَّني أؤدّي العمل نفسه الذي كان يؤدّيه بورخيس، وهو الذي أعدُّه أحد أعظم الكتَّاب في القرن العشرين، إنَّما يجعلني أكثر تقديرا لعملي، سواء كأمين مكتبة أو ككاتب.

أرى في ثيمة الهوس حيلة سرديَّة جيّدة لوصف علاقتنا بالعالم. الهوسُ يُرغمنا على تكرار الفعل نفسه بشكل مستمرّ، ولكن انطلاقا من هذه الأفكار الثابتة يمكن أن نخوض كفاحنا للمضيّ إلى ما بعد المحدود

التوق إلى الخلود

  • تستوقفني في جوابك إشارتك إلى المكتبة بوصفها مكانا لحفظ الذاكرة، لسعينا الذي لا ينتهي إلى مشارفة الخلود، ولعلَّها مصادفة أخرى أن يكتب بورخيس في سنة 1936، في قبو تلك المكتبة القديمة والمنسيّة نفسها، كتابه "تاريخ الأبديّة". فهل أرشفة الكتب القديمة، ونفضُ   الغبار عنها برفقٍ كما يُنفَض عن لقية أثريَّة ثمينة، وقلبُ الأوراق ببطء شديد دون ثنيها، شكل من أشكال نزعتنا إلى الدوام أو "توقنا إلى الخلود" كما يسمّيه فرديناند ألكييه؟

ربَّما كان هذا العنوان الذي ذكرتَه لبورخيس، "تاريخ الخلود"، أجمل تناقض لفظيّ ابتدعه كاتب على الإطلاق، لأنَّ فيه تمامَ التناقض بين الزمن والخلود. والمكتبة، بوصفها مسعى لحفظ الذاكرة والمعرفة، فضلا عن الإرث القديم الذي وراءها، هي أيضا محض مفارقة. يستهلُّ بورخيس قصته "مكتبة بابل" بطريقةٍ إيحائيّة: "يتألَّف الكون (وهو ما يسمّيه الآخرون بالمكتبة) من عدد غير معلوم، وربَّما لانهائيّ، من أروقة سداسيَّة". فهو من ناحية، ومن منظور مكانيّ، يرى في المكتبة كونا يتجاوز المكانيَّة، ومن ناحية أخرى، من منظور زمانيّ، يرى فيها ديمومة تتجاوز الزمانيَّة. فالمكتبة، إذا، مهما كانت صغيرة، هي في آن واحد طراز غابر (أركِتيبوم) وطراز مثاليّ مُتخيَّل (يوتوبيا). طراز مثاليّ لا بدَّ، على أيَّة حال، من أن يتحوَّل إلى حقيقةٍ، لأنَّه إن كانت المكتبة صورة للكون، كما يقول بورخيس، فإنَّ على هذا الكون أن يكون قادرا على الحوار والتفاعل مع من يتردَّد إليه وينتفع بخدماته. في مقالةٍ له بعنوان "عن المكتبة"، كتب أُومبرتو إِيكو: "نحاول أن نجعل منها كونا على مقاس الإنسان، وهذا يعني على مقاس الإنسان حتى وهو منشرح النفس، حتى مع إمكان وجود كوب من الكابوتشينو، وحتى مع إمكان تمدُّد الطَّالبَين بعد الظهيرة على الأريكة"، ويختتم مقالته هذه بسؤالٍ أساسيّ: "هل سنتمكَّن من تحويل اليوتوبيا إلى حقيقة؟"، وهنا تكمن الرسالة الأساسيَّة للمكتبيّ: في أن يجعل المكتبة، وبالتالي المعرفة، حقيقيَّة بقدر المستطاع وفي متناول الجميع، دون تمييزٍ على أساس الأصل أو اللون أو الجنسيَّة أو العمر أو الجنس أو الثقافة أو اللغة أو الدين. ربَّما كانت المكتبة بهذا المعنى، وهو ما يطيب لي أن أفترضه، الفكرةَ الثوريَّةَ الأكثر راديكاليَّة والأصدق ديموقراطيَّة.

Irene Blasco

هوس الغبار

  • شخصيّا، يبدو لي بطلُ  روايتك "غبار"، المكتبيُّ الذي يعاني رُهابَ الغبار ويقضي جُلَّ وقته في محاربته، مرآة تعكس رهابنا من زوال رونق الأشياء وشبابها. اليوم، مع كلِّ الثورات العلمية المذهلة والتطورات التكنولوجية الهائلة، ما الذي اختلف في جوهر الفكر البشري، في رأيك، منذ رحلة جلجامش بحثا عن سرّ الخلود إلى هوس المكتبيّ، بطل روايتك، بإبقاء رونق الأشياء ونضرتها؟

 

سيكون الأمر بسيطا ومُحبِطا إن أجبتُكَ  بأنَّ شيئا لم يتغيَّر منذ أوَّل الزمان حتى اليوم، وبأنَّ رغبتنا في "الخلود" واضحة في كلِّ تعبيرٍ من تعابيرنا وفي كلِّ مظهرٍ من مظاهر حياتنا، في الماضي كما في الحاضر، لكنّها الحقيقة. يعيش أنْسِلْمو، بطل روايتي "غُبار"، صارفا جُلَّ وقته في التنظيف ومسح الغبار، لأنَّ لديه هذا الهوس. مُناه أن يعيش في عالمٍ نظيف ونقيّ، وحيث كلّ شيء منظَّم ومتَّسق، لكنَّ معركته خاسرة منذ البداية، لأنَّنا نعيش غارقين في الغبار. وهذا لا يختلف كثيرا عن سعينا إلى الخلود في عالم زائل: يمكنك فعل ما شئت لتنجو، لكنَّك في النهاية ستسقط لا محالة. أعتقد أنَّنا، نحن معشر البشر، ومنذ أوَّل الزمان، ما فتئنا نخترع أصناما وشخصيَّات إلهيَّة لتنقذنا وتنتشلنا من محدوديَّتنا. الموتُ حاضر دائما، سواء أنكرناه أو رأيناه رأيَ  العين. من هذا المنظور كانت رحلة جلجامش وبحثه عن الخلود واحدة من الأساطير المؤسِّسة للجنس البشريِّ. وهي رحلة ستتكرَّر مع أوديسيوس، ومع الأرغوناوتيِّين في رحلة بحثهم عن الصوف الذهبيّ، ومع إينياس، ومع دانتي، ومع القبطان آهاب في رواية "موبي ديك". لابثا في مكانه، يشرع أنْسِلْمو أيضا في رحلة بحثا عن نقاء ورونق لا وجود لهما: يحارب الغبار الذي يُفسد حياتنا لكي يعطي لوجوده معنى. لكن أكثر ما أثار اهتمامي، وركَّزت عليه، في أثناء كتابتي هذا العمل، هو علاقة أنْسِلْمو بهوسه. لطالما تساءلت عن معنى أن يعيش المرء مع فكرة واحدة ثابتة في ذهنه. لطالما أحببت أن أقصَّ على الناس قصصا عن الهوس، وقد فعلتُ ذلك في كتب أخرى كرواية "خصلة الأصلع"، على سبيل الذكر. أرى في ثيمة الهوس حيلة سرديَّة جيّدة لوصف علاقتنا بالعالم. الهوسُ  يُرغمنا على تكرار الفعل نفسه بشكل مستمرّ، ولكن انطلاقا من هذه الأفكار الثابتة يمكن أن نخوض كفاحنا للمضيّ إلى ما بعد المحدود.

  • كيف تولد الشخصيات؟ أعرف أنَّه سؤال تقليديّ، لكنَّه مسوَّغ دائما: كيف تولَد شخصيَّاتُ رواياتك؟ فلنتحدَّث عن هاتين الشخصيَّتين مثلا، أنْسِلْمُو، بطل "غُبار"، وأردوينو، بطل "خصلة الأصلع". هل هما مُستوحاتان من شخصيّات حقيقيّة أم هما ثمرتا مخيّلة خصبة؟

لا تولد شخصيَّاتي من الخيال وحده، ولا من الواقع وحده. بعض شخصيَّاتي فيها شيء منّي وشيء من أشخاصٍ آخرين عرفتهم أو تخيَّلتهم. بالحديث عن أردوينو، بطل "خصلة الأصلع"، على سبيل المثل، ألهمني إيَّاه أمين الصندوق في المصرف الذي كنت أرتاده. كان رجلا في غاية الأناقة، دائما في سترة رسميّة، أصلع ولكن بتسريحة تغطّي صلعته، إذ ترك خصلة طويلة في مؤخّرة رأسه وكان يمدُّها إلى الأمام في محاولةٍ لتغطية جلدة رأسه التي انحسر عنها الشَّعر. كنت لا أملك، كلَّما رأيتُه، إلَّا الإشفاق عليه. لا أعرف كيف كان يتصرَّف لدرء الريح والمطر عن تسريحته. ثمَّ حدث ذات يومٍ، وأنا أمامه عند كوَّة مكتبه، أن فكَّرتُ: ماذا سيفعل هذا الرجل إن مددتُ يدي من الكوَّة وعبثتُ بتسريحته قالبا إيَّاها إلى الوراء أمام جميع الزبائن وأمام زملائه؟ من هنا أستطيع القول إنَّ رواية "خصلة الأصلع" قد وُلِدَت من هذه الفكرة الخبيثة التي كانت تخطر لي وأنا أراقب أمين الصندوق بصمت كلَّما وقفت أمام كوَّة مكتبه. أمَّا أنْسِلْمو، بطل روايتي "غُبار"، (العنوان بالإسبانيَّة، La pelusa، ويعني حرفيّا ذلك الغبار الذي يتكوَّن تحت الأثاث عندما لا نكنس الأرضيَّة تحته)، فقد وُلِدَ من هوسي بمسح الغبار. ففي فترة ما، وقد خفَّ ذلك قليلا اليوم، كنت أمضي جُلَّ يومي في مسح الغبار. كانت تكفي ذرَّة غبار واحدة لتدمير نهاري كلّه. فكنت أقضي وقتي في التنظيف وأنا أتساءل عن معنى الغبار. حينئذ حاولت أن أتخيَّل شخصيَّة تعاني هوسي نفسَه ولكن بتضخيم هذا الهوس مئات المرَّات. لقد تعاطفتُ كثيرا مع هذه الشخصيَّة الأحاديَّةِ الهوس، التي لا تستطيع أن ترى أيَّ شيء سوى هوسها، والتي تكتب رسائل بريد إلكترونيّ إلى صديق قديم لتحكي له قصتها وفي كلّ مرّة تعود الرسالة إليه بالصيغة التي تقول: The following addresses  had permanent fatal errors... Host unknown... ومع ذلك تستمرُّ في الكتابة إلى ذلك العنوان الذي لم يعد موجودا. الخلاصة أنَّني حقّا أحبّ هذه الشخصيّات المهووسة، وأتعاطف معها، لأنها تعكس شيئا من طبيعتي.

يسعدني كثيرا أن تقارنني بألبرتو مانغويل الذي أُكِنُّ له احتراما كبيرا. على الغلاف الخلفيّ لروايتي "خصلة الأصلع" شهادة له بهذه الرواية وإنَّه لفخر لي أن يعدَّها "تحفة صغيرة"

  • ما مدى حضور التقاليد الأدبية الأرجنتينية في الأدب الذي تكتبه باللغة الإيطالية؟

حتى لو كان أدبُ بلدٍ ما سابقا على الكاتب، وحتى لو كان هذا تابعا له شاء أم أبى، فإنَّ عليه أن يتعامل معه دون أن يكرّره. يقول بورخيس، وقد أتينا على ذكره مرَّاتٍ في هذا الحوار، إنَّ كلَّ كاتبٍ يخلق أسلافه الخاصّين به (اشتقاقيّا تعني كلمةُ "سَلَف" – بالإيطاليَّة percursore – كلَّ مَن تقدَّمَكَ ليشكّل إرثَك. في كتابه "قلق التأثُّر"، يتحدَّث الناقد الأميركي هارولد بلوم عن هذه المسألة. التقاليد ليست ثوابت، فكلّ مؤلِّف يعدِّل مفاهيم الماضي ويعيد تفسيرها وفقا لحساسيّته وشخصيّته. لذلك، أعتقد أنَّ اغتراف الكاتب من تقاليد بلده الأدبية مسألة فيزيولوجيَّة، بل هو، في بعض النواحي، مفروض عليه فرضا من منظور فيزيولوجيّ بحت. أنا شخصيّا فعلتُ ذلك ولا أزال أفعله. فبالنسبة إليَّ كان أمرا أساسيّا دائما أن أتعامل مع الأدب الأرجنتيني الذي ما فتئت أقرأه مذ كنت صبيّا. كثيرا ما أعود إلى أعمال خوسيه هرنانديث وإستانسلاو دِلْ كامبو كممثِّلَين لأدب الغاوتشو؛ إلى نثر ريكاردو غويرالديس؛ إلى تأمّلات ماسيدونيو فرنانديز؛ إلى قصص أدولفو بيوي كاساريس وسيلفينا أوكامبو وخوليو كورتاثار وبورخيس طبعا؛ إلى قصائد أليخاندرا بيثارنيك؛ إلى روايات روبرتو آرلت ومانويل بويغ وخوان خوسيه ساير؛ وإلى نقد حزقيال مارتينيز إسترادا وريكاردو بيجليا. ولأنَّ القائمة تطول سأقتصر على ذكر هؤلاء الذين تبادروا إلى ذهني الآن والذين غيَّروا تصوُّري للواقع، ودون الإتيان على ذكر كتَّاب أحياء لا يقلُّون أهمّيَّة في إلهام الكتَّاب الآخرين وتشكيل أسلوبهم. ولكن بالنسبة إلى كاتب مثلي، عاش أكثر من نصف حياته في إيطاليا، فإنَّ التقاليد الأدبية الإيطالية لا تقلُّ أهمية عن تلك الأرجنتينيّة، وإن كانت هذه الأخيرة هي التي حدَّدت هويَّتي أوَّلا باعتبارها لغتي الأم. مع ذلك، لا بدَّ لي من أن أذكّر بأنَّ التقاليد الأدبية الأرجنتينية لم تكن يوما وليدةَ نفسها، بل كثيرا ما استقت من "الأدب العالميِّ" واتَّكلت عليه.

 

الرواية الإيطالية

  • ما هي، في رأيك، أهمُّ خصائص الرواية الإيطالية المعاصرة؟ وأين تضع ما تكتبه في المشهد السائد هناك؟

 

من الصعوبة بمكانٍ تحديد الخصائص الرئيسة التي ترسم هويَّة الرواية الإيطالية المعاصرة، ذلك لأنّ المشهد متعدّد الأوجه وأكثر تنوّعا ممَّا نتخيَّل. ما من معايير دقيقة أو ثيمات مهيمنة. يُكتَب في كلّ الثّيمات العامَّة والخاصَّة. منذ السبعينات إلى اليوم، مرَّت الثقافة الإيطالية بطفرات مختلفة وكذلك الرواية. مع ذلك يمكننا الحديث عن تغيُّرٍ في الحبكة وفي طريقة تناول الجانب النفسيّ للشخصيّات وعن علاقة مختلفة بين الكاتب والنصّ، مقارنة بالماضي. في مقدِّمة سنة 1964 لروايته "الطريق إلى عشّ  العنكبوت"، يرى إيتالو كالفينو أنَّ المعاصرين لا يمكن أن يكونوا قضاة عادلين، لأنَّهم يفتقرون إلى المنظور. مع ذلك، إذا نظرنا إلى الأعمال المختارة لكبريات الجوائز الأدبية، أمكننا القول، دون أن يكون في قولنا أيُّ تناقُض، إنَّ روايات السيرة الذاتية أو تلك التي تميل إلى مسخ العلاقة بين الكاتب والسياق إلى ثيمة الكآبة أو المرض هي التي تفوز غالبا. أي أنَّ الأولويّة للأعمال التي تنغمس في الواقع المعيش أو تعيشه في شكل من أشكال الصراع. أمَّا روايات الخيال الصرف والابتكار البحت فهي الأكثر عرضة للعقاب في الجوائز الأدبية. المحزن في العديد من هذه الأعمال "المكلَّلة بالجوائز" هو أنها لا تقدّم شيئا جديدا للغة. وربَّما علينا أن نضيف هنا أنَّه سادت في الآونة الأخيرة نزعةُ المرجعيَّة الذاتيَّة: الأنا التي تفيض وتهيمن بنرجسيَّةٍ على القصَّة وعلى النصّ. مؤلّفون لا يملُّون الحديث عن أنفسهم. رواياتي، من الأولى إلى الأخيرة، ومع أنَّها شاركت في العديد من الجوائز، أضعها على هامش المشهد الروائيِّ الإيطاليّ السائد. لا تعنيني أبدا الموضة أو الاتجاهات الأدبية، بل على العكس، أقول لك صراحة إنَّني أكرهها. أكتب دون أن أشغل نفسي بأثر أعمالي على القارئ أو على المبيعات؛ ولست ملزَما أيّ موضوع. أكتب لأطوِّع اللغة أسلوبيّا، هذا ما يعنيني. وأحاول دائما أن أحيِّد الكاتب الذي في داخلي وحياته الشخصيَّة لإفساح المجال لقصصٍ جديدة واقعيَّة ومتطرّفة في الوقت نفسه.

Irene Blasco

غيرة اللغات

  • لك كتاب يتيم في جنس المقالة، هو "غيرة اللغات"، ومع أنه عرف نجاحا كبيرا، وتُرجِم إلى العربية والإنكليزية، إلا أنك لم تكرّر تجربة الكتابة في هذا الجنس. هل يمكن أن تعود إلى هذه التجربة مستقبلا، كأن تكتب، كمُواطنك الآخر ألبرتو مانغويل، وفي ضوء تجربتك كمكتبيّ، كتابا عن المكتبة والقراءة؟

صحيح أنَّني لم أنشر سوى كتابٍ واحد في جنس المقالة، لكنَّني كتبت الكثير من المقالات حول مواضيع مختلفة ولم أجمعها في كتاب (قد أفعل ذلك يوما ما). يسعدني كثيرا أن تقارنني بألبرتو مانغويل الذي أُكِنُّ له احتراما كبيرا. على الغلاف الخلفيّ لروايتي "خصلة الأصلع" شهادة له بهذه الرواية وإنَّه لفخر لي أن يعدَّها "تحفة صغيرة". يسعدني أيضا أنَّك طرحت عليَّ هذا السؤال عن إمكان أن أكتب عن القراءة والمكتبات مستقبلا، لأنَّه في الحقيقة مشروع فكَّرت فيه مرَّات عدة ولا أعرف لماذا لم أبدأه بعد. سؤالك بحدِ ذاته حافز كبير لي على ذلك. أعتقد أنَّ بإمكاننا، عبر ثيمة المكتبات والقراءة، وأُضيفُ عليهما الكتابة، طرح العديد من المسائل المثيرة للاهتمام. مراقبةُ مراحل القراءة وكيف تتغيَّر وتتطوَّر طريقتنا في القراءة، كما فعل مانغويل في كتابه "تاريخ القراءة"، تجعلنا نفهم العالَم الذي نعيش فيه. لماذا حتى اليوم تُمنَع كُتُب معيَّنة أو تُحجَب بعض المواقع؟ لماذا منع المحقِّقون الإسبان، وهم يدركون الحقيقة التي ينطوي عليها الأدب، بعد غزو أميركا، نشر الروايات وقراءتها؟ الروايات، كما نعلم، تكذب دائما، لكنَّها بالكذب تُفصِح عن حقيقةٍ ما، حقيقةٍ غالبا ما تقضُّ بعض المضاجع.

font change