إميلي كام كنغواراي رسامة المهمشين في البلاد البعيدة

عكست ثقافة سكان بلادها الأصليين

Peter Macdiarmid/Getty Images
Peter Macdiarmid/Getty Images
لوحة "اليام البري-2" لإميلي كام كنغواراي

إميلي كام كنغواراي رسامة المهمشين في البلاد البعيدة

لا نقاد الفن ولا بيان منسقة المعرض ولا المقدمات التوضيحية التي علقها متحف "تيت مودرن" بلندن، تشير إلى أن إميلي كام كنغواراي، التي يُقام لها أول معرض استعادي شامل في أوروبا، فنانة فطرية. الإشارة الوحيدة إلى ما يوحي بذلك يلخصها القول إنها تنتمي إلى شعب "الأنماتير"، ولدت عام 1914 في ألهالكر بمنطقة ساندوفر في الإقليم الشمالي لأستراليا.

هناك حيث كان السكان الأصليون يقيمون قبل أن يتمكن المستعمرون من إبادة الجزء الأكبر منهم وتشتيت الجزء المتبقي حيا ونسف صلته بوطنه وتدمير أحلامه، غير أن روح ذلك الشعب ظلت حية من خلال الأغاني والحكايات والصناعات التقليدية التي تنطوي على الكثير من الأسرار التي لا تزال مؤهلة لتكون مصدر إلهام جمالي.

ذلك هو المنجم الذي استخرجت منه إميلي كام كنغواراي أشكالها ومعالجاتها للسطح التصويري الذي لا يزال ممتنعا عن الإفصاح عن معاني ألغازه على الرغم من أن متعة النظر إليه تكفي لإنكار الحاجة إلى أي شيء آخر. فمجرد أن يقع بصر المرء على واحدة من لوحات كنغواراي، يشعر أنه يقف أمام فنانة تجريدية معاصرة، تقف خارج المدارس الفنية الحديثة التي كرست تاريخيا، غير أنها في بعض تجاربها تتقاطع مع تجارب فنانين قيض لهم أن يقفوا في الصف الأول من مشهد الحداثة الفنية بالغرب.

وإذا ما عرفنا أن إميلي كام لم ترسم على الكانفاس، كما يفعل الرسامون، إلا في السنوات الست الأخيرة من حياتها وهي التي توفيت عام 1996 كما أنها قضت عشر سنوات قبلها تمارس فن الباتيك وهو فن الطباعة على الأقمشة من أجل الاستعمال اليومي، يمكننا القول إن خيال أمة مهددة بالانقراض انتقل إلى أصابع فنانة قُدر لها أن تكون رسولة تلك الأمة إلى العالم ومن خلاله إلى الفن الحديث.

وطنها الحقيقي

المعرض الذي يقيمه "تيت مودرن" هو من تنظيم "المعرض الوطني الأسترالي". وذلك يعني أن أستراليا الحديثة التي أقيمت على أساس إبادة السكان الأصليين وتهميشهم وعزلهم ونبذهم صارت مضطرة للبحث عن تاريخها من خلال الالتفات إلى فنونهم باعتبارها الجزء الملهم من ذاكرتها.

خيال أمة مهددة بالانقراض انتقل إلى أصابع فنانة قُدر لها أن تكون رسولة تلك الأمة إلى العالم ومن خلاله إلى الفن الحديث


 ليس مفاجئا أن تفاخر أستراليا بالمرأة التي أنجزت أكثر من 3000 عمل فني استثنائي في غضون سنوات قليلة. لا سيما أن تلك الأعمال تنطوي على علاقة متينة وتلذذ عميق بالمكان. ثقافيا تحتاج القارة الجديدة والبعيدة إلى توقيع سكانها الأصليين لكي تذيل به إعلان وجودها. ولأن كنغواراي تركت بصماتها في كل نقطة رسمتها على لوحاتها، فقد كان ذلك عبارة عن إعلان انتهاء عهد وبدء عهد جديد بدأت فيه أستراليا بالتعرف إلى ثقافتها الأصلية التي ما كان لها أن تستيقظ وتفرض أحوالها لولا ظهور فنانة مدهشة مثل إميلي كام.

TORSTEN BLACKWOOD / AFP
فيفيان هاموند يتأمل لوحة إميلي كام كنغواراي "خلق الأرض - 1995" قبل مزاد في سيدني – 2007

بهذا المعنى يكون فن كنغواراي سيرة حياة مأسورة بالمكان. لا أحد من رسامي أستراليا الجديدة يعرف المكان الذي كان مأهولا دائما بالأشكال والأصوات والروائح والأفكار والحكايات مثلما عرفته الرسامة التي سبق لها أن قضت وقتا طويلا مع الأغنام، حيث تعرفت على جيولوجبا البيئة التي تحيط بها وكبرت مع النباتات وأنصتت إلى الأصوات التي تطلقها الحيوانات في الصحراء. اختزنت كنغواراي كل ما رأته وسمعته وتذوقته ولمسته لتعيد صياغته في أشكال تعيدها إلى أحلام شعبها التي بدت في رسومها نضرة. هذا المعرض الاستعادي هو نوع من محاولة رد الاعتبار إلى السكان الأصليين، ولكنه اعتراف متأخر، إضافة إلى أنه ينطوي على محاولة لصنع تاريخ جمالي على حساب شعب لم يعد موجودا إلا في حدود ضيقة. تلك واحدة من الفضائح التي صار عالمنا يمر بها بخفة. فالقول بأن إميلي كام فنانة أسترالية هو قول مضلل ذلك لأن وطنها الحقيقي هو الهالكر.

KEN SHIMIZU / AFP
زائر يتأمل لوحة في افتتاح معرض إميلي كام كنغواراي في طوكيو – 2008

ارتجال جمالي لمفردات حياة عادية

"يا لخيال يدها"، قلت لنفسي مسحورا بالسطح التصويري الذي يتحرك بسلاسة وهدوء بين الخارج والداخل. خارج تخلقه الفنانة بأصابعها مباشرة من غير أن تلجأ إلى الفرشاة حين ترسم نقاطا كثيرة هي أشبه بالبصمة الشخصية التي تشير إلى مرورها الشقي بحقول ذاكرتها، وداخل تتقاطع فيه الخطوط المشدودة بانفعال كأنها ترسم خرائط لبيئة بصرية ونفسية يكتنفها غموض ينطوي هو الآخر على شعور متبادل بين الرسامة ومتلقي أعمالها بلذة اكتشاف ما يحدث في منطقة غير مرئية.

Victoria Jones/PA Images via Getty Images
عمل "إندونغا - 1990" لإميلي كام كنغواراي، معروض في "تيت مودرن" – لندن

يمكن لأي مشاهد عادي التعامل مع رسوم إميلي كام كنغواراي بيسر. ذلك لأن ما يحققه فنها من بهجة بصرية يكفي لإقناع ذلك المشاهد بأنه صار على دراية بعالمها، وهو ما يعني أن الفنانة نجحت في شد المشاهد إلى فنها وإن اقتصر ذلك الجذب على ما أسميته بالجانب الخارجي الذي يشكل الطبقة الخارجية للعمل الفني. بعد ذلك لن تكون مهمة جر المشاهد إلى أعماق العمل الفني بالعمل العسير.

هذا المعرض الاستعادي هو نوع من محاولة رد الاعتبار إلى السكان الأصليين، ولكنه اعتراف متأخر، إضافة إلى أنه ينطوي على محاولة لصنع تاريخ جمالي على حساب شعب لم يعد موجودا


اخترعت حداثتها في منطقة حساسة تلتقي فيها الأرواح الهائمة وهي تبحث عن حقائق غيبها الواقع، لذلك استحقت أن تُلقب بـ "فنانة أستراليا الأولى"


تلك معادلة نظرية قد لا يتحقق الجزء الكبير منها، غير أن ما هو مؤكد أن الفنانة التي كانت ترسم بسرعة من غير رسومات تمهيدية كانت في الوقت نفسه في قمة نشوتها وهي تطلق العنان لجسدها وتمارس فعل الرسم مباشرة مستفيدة من ذلك الارتباط التفاعلي بين عينها ويدها. يتوازن من خلال ذلك صمت الخارج وصخب الداخل وصولا إلى السرديات الحزينة عن ذلك الوطن الغائب الذي قررت أن تبقي خياله حيا بعد أن فقدته واقعيا. 

WILLIAM WEST / AFP
المنسقة هتي بيركنز تجري اللمسات الأخيرة على معرض لإميلي كام كنغواراي في سيدني – 2007

وإذا كان منسقو المعرض لم يكتفوا بعرض رسوم إميلي كام التي نفذتها في السنوات الست الأخيرة من حياتها فلأنهم على ثقة من أن الأعمال التي نفذتها بتقنية الباتيك من أجل إنجاز أقمشة استعمالية خاصة بنساء شعبها، تمثل جزءا أصيلا من تجربتها الفنية ولم تكن تمهيدا لما وصلت إليه إلا بطريقة مجازية. في الطباعة على القماش رسمت الفنانة الطيور والسحالي والزهور وأوراق الأشجار من أجل أن يمتزج ارتجالها الجمالي بمفردات الحياة اليومية.

خارج وصفات الثقافة

لم تقض إميلي كام كنغواراي إلا جزءا قصيرا، هو الجزء الأخير من حياتها، باعتبارها صانعة أقمشة ولوحات. أما الجزء الأكبر من تلك الحياة فقضته وهي تعمل في مزارع تربية الماشية، إضافة إلى أنها عملت في المطابخ والعناية بالأطفال. وبسبب الظروف القاهرة التي تعرض لها شعبها، لم تكن تعمل مقابل أجر مالي بل كان أجرها حصصا غذائية. صورتها الشخصية الكبيرة التي عُرضت منفردة على أحد جدران المعرض تكشف عن شخصيتها الواقعية باعتبارها صيادة وعاملة في مواسم الحصاد.

 KEN SHIMIZU / AFP
زوار يتأملون لوحات في افتتاح معرض إميلي كام كنغواراي في طوكيو – 2008

 

لكن التحول الأكبر في حياة كنغواراي حصل حين تغيرت سياسة المستعمرين وصار في إمكان السكان الأصليين أن يمارسوا الحياة الطبيعية بعيدا عن التهميش والعزل، وكانت دورات تعليم الطباعة على القماش واحدة من أساليب تلك المرحلة الانتقالية فكانت الفنانة وهي في منتصف ستينات عمرها رائدة فن الباتيك. أما تعرف الفنانة على الأكرليك والكانفاس فإنه وهب أستراليا والعالم فنانة من طراز لا يتكرر. فعلى الرغم من أنها لم تتعلم الرسم مدرسيا غير أن أحدا من النقاد لم يجرؤ على وصفها بالفنانة الفطرية. ذلك لأن أعمالها التي استحضرت من خلالها حياة أمة امتزجت بمفردات بيئتها المادية والروحية تنتمي إلى الفن الحديث كأنها كانت جزءا منه. 

عدد من لوحات إميلي كام يذكر أعمال الفرنسي بيير سولاج والألماني هارتونغ والبلجيكي هنري ميشو وسواهم من فناني النصف الثاني من القرن العشرين ممَن لم تسمع الفنانة بهم. فعلت ذلك لأنها تقيم خارج الوصفات الجاهزة لعالم الثقافة. اخترعت حداثتها في منطقة حساسة تلتقي فيها الأرواح الهائمة وهي تبحث عن حقائق غيبها الواقع، لذلك استحقت أن تُلقب بـ"فنانة أستراليا الأولى".  

font change

مقالات ذات صلة