غزة وسيناء... اختبار جديد للعلاقات المصرية – الإسرائيلية

القرارات التي سيُقدم عليها الطرفان قد تسهم إما في تعزيز علاقتهما أو في إطلاق موجة اضطرابات إقليمية أوسع

أ ف ب/ "المجلة"
أ ف ب/ "المجلة"

غزة وسيناء... اختبار جديد للعلاقات المصرية – الإسرائيلية

في ظل تنامي الطلب المحلي على الطاقة، تواصل مصر توسيع شبكة شراكاتها الدولية بهدف تأمين إمدادات إضافية من الغاز الطبيعي، بما يضمن استقرار توليد الكهرباء واستدامة النشاط الصناعي.

في هذه الأثناء، يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو توظيف صفقة لتصدير الغاز بمليارات الدولارات، يُرجَّح أن تغطي جزءا مهماً من احتياجات مصر المستقبلية، كورقة ضغط لدفع القاهرة إلى الاصطفاف مع المواقف الإسرائيلية إزاء غزة وغيرها من القضايا الإقليمية. غير أن هذه المحاولة لا تبدو مرشحة لإحداث تغيير جوهري في مسار العلاقات الثنائية. وكان نتنياهو، أعلن الأربعاء، الموافقة على صفقة الغاز مع مصر، مشيراً إلى أن الصفقة هي الأكبر في تاريخ إسرائيل.

مع ذلك، يكشف هذا التداخل عن حاجة ملحة إلى إعادة تقييم إطار العلاقات المصرية-الإسرائيلية، في وقت يسعى فيه الخصمان السابقان، اللذان ارتبطا منذ عام 1979 بمعاهدة سلام، إلى التكيّف مع معطيات سياسية واستراتيجية جديدة أفرزتها تداعيات حرب غزة.

وتأتي هذه المراجعة في ظل تصاعد التكهنات بشأن قمة محتملة بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونتنياهو، وسط تقارير تفيد بجهود يبذلها الرئيس الأميركي دونالد ترمب لتسهيل هذا اللقاء، في مسعى لاحتواء التوترات القائمة.

وكان الزعيمان قد التقيا في مناسبات عدة، من بينها لقاءات سرية أُعلن عنها لاحقا، كان أبرزها اجتماع متعدد الأطراف في العقبة بالأردن في فبراير/شباط 2016، بحضور وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون كيري والملك عبد الله الثاني، تلاه لقاء ثنائي بالقاهرة في أبريل/نيسان من العام نفسه، ثم اجتماع آخر في القاهرة في مايو/أيار 2018. كما التقيا علنا على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر/أيلول 2017، في أول لقاء معلن بينهما، قبل أن يتكرر هذا اللقاء في العام التالي.

ألمحت إسرائيل إلى نيتها إعادة فتح معبر رفح من الجانب الغزي لتسهيل خروج السكان في مسار أحادي الاتجاه، في حين أصرت مصر على أن يتم تشغيل المعبر في الاتجاهين وفقا لبنود اتفاق وقف إطلاق النار

وانصبت تلك اللقاءات في مجملها على تنسيق أمني ثنائي، ومبادرات متصلة بعملية السلام الإقليمي، إضافة إلى التطورات المرتبطة بقطاع غزة. غير أن التواصل المباشر على مستوى القيادتين توقف بشكل مفاجئ عقب انطلاق الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إثر الهجمات التي قادتها حركة "حماس" على بلدات إسرائيلية في الجنوب، وهو التطور الذي أعاد رسم المشهد الإقليمي بصورة جذرية. وفي هذا السياق، أفادت تقارير بأن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رفض تلقي عدة اتصالات من نتنياهو خلال تلك المرحلة، رغم الدور المحوري الذي اضطلعت به مصر لاحقا في الوساطة التي أفضت إلى وقف إطلاق النار في غزة في أكتوبر 2025.

أ ف ب
انتشرت دبابات الجيش المصري على طول الحدود مع قطاع غزة في 4 يوليو 2024 في العريش، شمال شبه جزيرة سيناء

التهديد الجوهري

يظل النهج الإسرائيلي تجاه غزة في مرحلة ما بعد الحرب، ولا سيما السياسات التي تهدف في النهاية إلى تقليص عدد سكان القطاع أو تهجيرهم، العامل الأكثر حسما في تحديد المسار الطويل الأمد للعلاقات المصرية–الإسرائيلية، بما يحمله ذلك من تداعيات قد تمتد لسنوات، إن لم يكن لعقود. فلا ملف آخر يضاهي هذا الملف في قدرته على تصعيد التوتر وفتح الباب أمام احتمال مواجهة مباشرة بين البلدين.

لقد اتخذت مصر، منذ اندلاع الحرب، موقفا حازما في مواجهة هذه الطروحات، مستندة إلى اعتبارات أمن قومي عميقة وحسابات جيوسياسية واسعة، ورفضت بشكل قاطع أي مقترحات لتهجير سكان غزة إلى سيناء، محذرة من أن مثل هذا المسار سيهدد بتحويل مساحة مصرية شاسعة، تعادل مجتمعة مساحة إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان، إلى ساحة صراع ممتد بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المناهضة للاحتلال. بل إن من شأن هذا السيناريو أن يقوض سيادة مصر على سيناء، فيطمس عقودا من الجهود والتضحيات التي بُذلت للحفاظ على السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية، التي تشكل نقطة تماس مع غزة وإسرائيل، وتطل في الوقت ذاته على البحر الأحمر وخليج العقبة وقناة السويس، فضلا عن البحر المتوسط.

وفي هذا الإطار، ألمحت إسرائيل إلى نيتها إعادة فتح معبر رفح من الجانب الغزي لتسهيل خروج السكان، في مسار أحادي الاتجاه، في حين أصرت مصر على أن يتم تشغيل المعبر في الاتجاهين وفقا لبنود اتفاق وقف إطلاق النار. ورغم أن بعض الأصوات في إسرائيل تقدم هذه الخطوة بوصفها إجراء إنسانيا يتيح لسكان غزة المتضررين من الحرب البحث عن فرص خارج القطاع، فإنها تعكس، في نظر القاهرة، مسعى متواصلا لتقليص الحضور الديموغرافي الفلسطيني في غزة.

عززت مصر حضورها الأمني والعسكري في سيناء ردا على العمليات الإسرائيلية في غزة، مع تقارير تفيد بنشر نحو 40 ألف جندي خلال الأشهر اللاحقة

وتواصل مصر رفض هذه التوجهات بحزم، مشددة على ما تنطوي عليه من تداعيات جيوسياسية بعيدة المدى. ووفق التقدير المصري، فإن أي تفريغ واسع النطاق للقطاع سيمثل خطوة خطيرة على طريق تقويض القضية الفلسطينية برمتها، ولا سيما في ظل السياسات الإسرائيلية الرامية إلى تعزيز السيطرة على الضفة الغربية، وربما المضي قدما نحو ضمها. وترى القاهرة أن تهميش القضية الفلسطينية أو تصفيتها فعليا من شأنه أن يعيد تشكيل النظام الإقليمي بصورة جذرية لا رجعة فيها.

وبدلا من أن يشكل ذلك نهاية للطموحات الإسرائيلية التوسعية، تحذر مصر من أنه قد يسرّع وتيرة مغامرات توسعية إضافية في أنحاء المنطقة.

رويترز
مركبة تقل جنوداً مصريين بالقرب من معبر رفح الحدودي بين مصر وقطاع غزة، في رفح، مصر، 6 أغسطس 2025

المشهد المتغيّر

بموجب الملحق الأمني لمعاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية الموقعة عام 1979، تخضع مصر لقيود صارمة على نشر قواتها وأسلحتها الثقيلة في معظم مناطق سيناء، ولا سيما في قطاعاتها الشمالية، وهو ما يقيّد قدرة القاهرة على الاستجابة الفعالة للتهديدات الراهنة.

ويبدو أن دوائر التخطيط الاستراتيجي في مصر توصلت إلى قناعة قاسية مفادها أن القيود المفروضة على انتشار القوات، والتي صيغت في سياق اتفاق السلام عام 1979، باتت اليوم أشبه بأغلال تُكبّل أمن الوطن، أكثر مما تمثل ركيزة لاستقرار العلاقة مع إسرائيل.

وعلى امتداد السنوات، أسهمت هذه القيود في إضعاف قدرة مصر على إحكام السيطرة الأمنية الكاملة على شبه الجزيرة، ما أتاح نشوء بؤر من الفوضى في بعض مناطق سيناء. وفي هذا الفراغ، تمكنت جماعات متطرفة وإرهابية من ترسيخ وجودها وتوسيع نشاطها، من بينها تنظيم ارتبط لاحقا بـ"داعش".

وخلال الفترة الممتدة بين عامي 2014 و2021، تكبّدت مصر كلفة بشرية ومادية باهظة في مواجهتها لهذا التنظيم، الذي سعى إلى إقامة كيان إسلامي متشدد في سيناء.

إلى ذلك، أسهمت تداعيات الحملة العسكرية الإسرائيلية على غزة، إلى جانب المخاوف المتزايدة من احتمال تهجير الفلسطينيين إلى المنطقة، في تعميق الإحساس بالحاجة الملحّة إلى تعزيز الأمن في سيناء، في وقت ازدادت فيه وطأة القيود التي يفرضها الملحق الأمني لمعاهدة 1979 على انتشار القوات.

وفي هذا السياق، عززت مصر بالفعل حضورها الأمني والعسكري في سيناء ردا على العمليات الإسرائيلية في غزة، مع تقارير تفيد بنشر نحو 40 ألف جندي خلال الأشهر اللاحقة. ومن غير المرجح أن تقدم القاهرة على سحب هذه القوات، بل يُتوقع أن تسعى إلى إدخال تعديلات على المعاهدة بما يمنحها هامشا أوسع لتأمين شبه الجزيرة على نحو أكثر فاعلية.

فيما توازن مصر وإسرائيل بين متطلبات الطاقة وضرورات الأمن الصارمة، فإن القرارات التي سيُقدم عليها الطرفان في المرحلة المقبلة قد تسهم إما في تعزيز علاقتهما، أو في إطلاق موجة اضطرابات إقليمية أوسع

وتبدو هذه الإجراءات الأمنية المعززة مرشحة لأداء وظيفة مزدوجة، إذ تسعى مصر من خلالها إلى تأكيد التزامها المستمر بمعاهدة السلام الموقعة عام 1979، وفي الوقت ذاته إلى تحصين أمنها الوطني. كما يُنتظر أن تسهم هذه التعزيزات في الحد من أنشطة التهريب عبر الحدود، بما في ذلك تهريب الأسلحة والمواد المحظورة إلى داخل إسرائيل، وهي ظاهرة متنامية أثارت قلق تل أبيب وأفضت إلى سلسلة من الإجراءات المضادة، كان آخرها قرار وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس، في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، باعتبار المنطقة الحدودية مع مصر منطقة عسكرية مغلقة.

الوضع بعد الحرب

يظل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة، وفقا لإطار وقف إطلاق النار الذي طرحه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عاملا حاسما في رسم مسار العلاقات المصرية–الإسرائيلية على المدى القريب. وبينما تتابع القاهرة بدقة تنفيذ بنود الاتفاق كافة، يبقى مصدر قلقها الأبرز هو السيطرة الإسرائيلية الراهنة على ممر فيلادلفي، الشريط الحدودي من الجانب الغزي.

وترى مصر أن هذا الوجود يشكل انتهاكا صريحا للملحق الأمني لمعاهدة السلام الموقعة عام 1979، الذي يفرض قيودا مشددة على انتشار القوات لدى الطرفين على طول الحدود، بما يضمن الحد الأدنى من الوجود العسكري. كما يعد خرقا لاتفاق فيلادلفي لعام 2005، الذي جاء عقب الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من قطاع غزة، وأسند مهمة الإشراف على الحدود إلى السلطة الفلسطينية، قبل أن تستولي حركة "حماس" بالقوة على القطاع عام 2007.

ولا يقتصر احتلال إسرائيل للممر على عسكرة الحدود المشتركة وزيادة الأعباء العملياتية على مصر، بل يقوض أيضا الأساس الذي تستند إليه إسرائيل في الاعتراض على تعزيز القاهرة لانتشار قواتها في المناطق المحاذية. وإلى جانب ذلك، يفتح هذا الوجود العسكري المستمر المجال أمام احتمال استغلال الحدود لفرض تهجير واسع النطاق لسكان غزة، وهو ما يضيف طبقات جديدة من القلق الاستراتيجي لدى دوائر التخطيط المصرية.

وقد شدد الرئيس السيسي، في أكثر من مناسبة خلال النزاع، على أن مصر لن تسمح باستخدام حدودها المشتركة مع غزة ممرا لمثل هذا التهجير الفلسطيني.

ومن المهم التذكير بأن معاهدة السلام المصرية–الإسرائيلية شكّلت، على مدى عقود، أحد الأعمدة الأساسية للاستقرار الإقليمي. إلا أن هذه المعاهدة تواجه اليوم مخاطر حقيقية ناجمة عن غموض مستقبل غزة، والتحديات الأمنية المتفاقمة في سيناء، والمخاوف من سيناريوهات تهجير قسري للفلسطينيين.

وفيما توازن مصر وإسرائيل بين متطلبات الطاقة وضرورات الأمن الصارمة، فإن القرارات التي سيُقدم عليها الطرفان في المرحلة المقبلة قد تسهم إما في تعزيز علاقتهما، أو في إطلاق موجة اضطرابات إقليمية أوسع، تستحضر إلى الأذهان شبح حروب الماضي. وبالنسبة لمصر، تظل حماية السيادة الوطنية ودعم القضية الفلسطينية مسألتين جوهريتين، إذ إن التغاضي عنهما قد يفتح الباب على مصراعيه أمام مرحلة جديدة من الصراع.

font change