يصعب إحصاء الروايات الفرنسية والجزائرية المستوحاة، كليا أو جزئيا، من حرب التحرير الجزائرية (1954 – 1962). روايات قاربت هذا الموضوع من مختلف زواياه، وإن بموضوعية متباينة، لكنها لم تتمكن من استنفاده أو إسقاطه من دائرة اهتمام الروائيين الجدد، لأسباب عدة، أبرزها الغموض الذي ما برح يلف بعض الفصول الرهيبة لهذه الحرب.
من هنا الأعمال الروائية التي لا تزال تصدر بانتظام حول هذا الموضوع، وآخرها رواية "جيش الحدود" التي صدرت حديثا في باريس عن دار "موريس نادو" العريقة، ويتوق الشاعر والكاتب الفرنسي بول دو برانسيون فيها إلى تسليط الضوء على فصل مجهول من هذه الحرب من خلال قصة مشوّقة ذات طابع جاسوسي، تستمد قيمتها من المزج الحاذق في عملية تشييدها بين عناصر واقعية وأخرى خيالية، ومن عملية سردها التي تتحكم بها رؤية شعرية صوفية.
القصة مبنية على حقائق مؤكدة، لكن غير معروفة، تتعلق بتسهيل فرار عناصر من الفيلق الأجنبي للجيش الفرنسي خلال الحرب المذكورة على يد شبكة أدارها جهاز الاستخبارات في ألمانيا الغربية، وذلك بعد تشجيعهم على الانشقاق. شبكة نشطت على مدى سنوات، بدعم من أربعة ألوية تابعة لـ"جبهة التحرير الوطني" الجزائرية، وتمكنت من ترحيل أكثر من 4000 جندي إلى أوطانهم.
عميل مزدوج
لسرد هذه القصة، يبتكر برانسيون شخصية عميل مزدوج يدعى عيسى فالتر وتربطه صلات وثيقة بالجزائر وألمانيا وفرنسا. شخصية غنية للغاية ليس فقط لأنها ذات هوية متعددة، بل لأنها تجمع أيضا بين الجندي الصارم والمدرب، والكائن الروحي، الحساس، الذي يقرأ بنهم النصوص اللاهوتية والروحية. بالتالي، يجسد عيسى تلك القدرة على الفعل، ولكن أيضا على التخفي، فنراه تارة يشارك في عمليات عسكرية أو استخباراتية، وطورا يتوارى خلف مهنة التدريس التي يمارسها في العلن.
في مطلع الرواية، نعرف أن عيسى فالتر ولد في سيدي فروش لأم جزائرية وأب ألماني نازي كان ملحقا عسكريا في القنصلية الألمانية في الجزائر، قبل أن يفر إلى برلين فور حبل حبيبته منه. لاحقا، تزوجت هذه الأم من هاينريش فالتر، وكان ضابط صف في فوج النخبة بالفيلق الأجنبي للجيش الفرنسي، فتبنى ابنها وعلمه لغته الأم، وأيضا قيمة الصمت.