بين واشنطن وبكين... أوروبا تبحث عن طريق ثالث للذكاء الاصطناعي

الهاجس الأخلاقي الأوروبي

Al Majalla
Al Majalla
رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين

بين واشنطن وبكين... أوروبا تبحث عن طريق ثالث للذكاء الاصطناعي

لم يكن من السهل على أوروبا أن تجد لنفسها موقعا وسط زوبعة الذكاء الاصطناعي التي اجتاحت العالم خلال العقد الأخير. فالقارة التي كانت تتباهى يوما بأنها أنجبت العقل الفلسفي الحديث، وجعلت من العقلانية منهجا للحكم والمعرفة، وجدت نفسها فجأة أمام ثورة فكرية وتكنولوجية لا تشبه شيئا مما عرفته من قبل. كانت الثورة الرقمية في بدايتها أميركية النزعة، صاخبة وسريعة، ثم لحقت بها الصين بطريقتها المعبأة بالسلطة والانضباط. أما أوروبا، فظلت لفترة طويلة متفرجة — لا من ضعف في قدراتها العلمية أو الصناعية، بل من خوف ثقافي عميق من المجهول الذي يحمله الذكاء الاصطناعي. في قلب هذه المخاوف تكمن الذاكرة الأوروبية نفسها: ذاكرة قرنين من التجارب المريرة مع فكرة السيطرة المطلقة، سواء في السياسة أو العلم. فالقارة التي أنجبت الثورة الصناعية وأنشأت فكرة الإنسان الحديث، هي نفسها التي ذاقت وجهه المظلم في الحربين العالميتين. لذلك، حين بدأ الحديث عن أنظمة قادرة على التفكير والتعلم الذاتي، استيقظت في العقل الأوروبي كل الهواجس القديمة: ماذا لو خرج العقل من يد الإنسان؟ من يحاسب آلة تتخذ قرارا؟ ومن يضمن ألا يتحول الذكاء إلى سلطة لا ترى؟

لكن أوروبا، بعاداتها التاريخية في تحويل الخوف إلى نظام، لم تتوقف عند حدود القلق. لقد بدأت منذ منتصف العقد الماضي في هندسة مقاربة خاصة بها، مقاربة لا تقوم على السباق نحو الهيمنة التقنية، بل على محاولة ترويض هذه القوى الجديدة ضمن إطار قيمي وقانوني صارم. ومن هنا خرجت أول ملامح "القانون الأوروبي للذكاء الاصطناعي" الذي صاغته بروكسيل بصبر بيروقراطي تقليدي، لكنه يخفي في جوهره طموحا أكبر من مجرد التنظيم. كان الهدف الحقيقي أعمق: أن تجعل أوروبا من القيم نفسها — الشفافية، والخصوصية، والعدالة — أدوات نفوذ جديدة، تماما كما كانت الصناعة والفكر أدوات النفوذ في القرنين الماضيين.

لقد فاجأ "قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي" كثيرين بطموحه وشموله، لكنه في الحقيقة لم يكن مجرد قانون، بل بيان ثقافي يعلن كيف ترى أوروبا نفسها في عالم يتسارع دونها. فقد أدركت النخب السياسية والفكرية هناك أن المعركة لم تعد حول من يملك أسرع خوارزمية أو أكبر قاعدة بيانات، بل حول من يضع قواعد اللعبة. أوروبا التي تأخرت في السباق التكنولوجي، قررت أن تصبح حكم الملعب. ولهذا السبب، حين أقرت المفوضية الأوروبية بنود القانون التي تصنف أنظمة الذكاء الاصطناعي وفق مستويات الأخطار، لم تكن فقط تنظم أدوات تقنية، بل كانت تضع فلسفة جديدة للعلاقة بين الإنسان والآلة. هذه الفلسفة تعكس عمق التفكير الأوروبي: الاعتراف بأن التكنولوجيا لا يمكن وقفها، لكنها يمكن أن تؤطر وتخضع للمعايير الأخلاقية التي نشأت في قلب الحضارة الأوروبية منذ عصر التنوير.

 REUTERS/Dado Ruvic/Illustration/File Photo
رسالة "الذكاء الاصطناعي" مع لوحة مفاتيح وأيادٍ روبوتية في صورة توضيحية، 27 يناير 2025

ومع ذلك، فإن التحول الأعمق لم يكن في النصوص القانونية، بل في المزاج العام نفسه. ففي السنوات الأخيرة، بدأنا نلمس تغيرا في الخطاب الأوروبي: من لغة التحذير إلى لغة الطموح. لم تعد بروكسيل تتحدث فقط عن "أخطار" الذكاء الاصطناعي، بل عن فرص "السيادة الرقمية". لم تعد باريس ترى في شركات وادي السيليكون خطرا ثقافيا فحسب، بل نموذجا يمكن منافسته إن صيغت له بيئة أوروبية خاصة. أما برلين، فبدأت تفكر بعقل اقتصادي أكثر واقعية: كيف يمكن أن تتحول القيم إلى ميزة تنافسية، وأن يصبح التنظيم نفسه سلعة تصدر إلى العالم كما تصدر السيارات والآلات. هكذا، ولدت فكرة “القيادة الأخلاقية” كبديل من "القيادة التقنية".

هناك من يرى في هذا البطء نوعا من الحكمة التاريخية. فبينما تنشغل واشنطن وبكين في سباق محموم لا يخلو من الأخطار الأخلاقية، تحاول أوروبا أن تبني نموذجا أكثر استدامة، قائما على التوازن بين الابتكار والمسؤولية

لكن هذا الطموح الأوروبي، وإن بدا نبيلا في ظاهره، يحمل في داخله تناقضا مألوفا في تاريخ القارة ما بين الرغبة في أن تكون المثال الأخلاقي للعالم، والخوف الدائم من أن تتحول تلك الأخلاق إلى عبء اقتصادي. فبينما تتسابق الولايات المتحدة والصين في ضخ المليارات في تطوير النماذج الضخمة وتوسيع نطاقها، لا تزال أوروبا تقضي سنوات في صوغ بنود قانونية لتحديد من المسؤول إذا ارتكب الذكاء الاصطناعي خطأ في تشخيص طبي أو في قرار مصرفي. هذا البطء الموروث من البيروقراطية الأوروبية يجعلها دائما على حافة المفارقة، إذ تريد أن تسبق العالم، لكنها لا تتحرك إلا حين تتأكد أن الطريق معبد بالكامل بالقواعد.

مشروع هوية

مع ذلك، هناك من يرى في هذا البطء نوعا من الحكمة التاريخية. فبينما تنشغل واشنطن وبكين في سباق محموم لا يخلو من الأخطار الأخلاقية، تحاول أوروبا أن تبني نموذجا أكثر استدامة، قائما على التوازن بين الابتكار والمسؤولية. وفي هذا السياق، يصبح القانون الأوروبي للذكاء الاصطناعي ليس أداة تقييد، بل أداة تأهيل: تدريب للمجتمعات على العيش مع الذكاء الاصطناعي دون أن تفقد هويتها. وقد بدأت ملامح هذا التوجه تظهر في الجامعات ومراكز الأبحاث، حيث يدرس الذكاء الاصطناعي بوصفه علما اجتماعيا بقدر ما هو تقني، وحيث تطرح الأسئلة الفلسفية حول "من نحن" قبل "ما نستطيع أن نصنعه".

من المدهش أن هذا التحول الفكري لم يأت من السياسيين أولا، بل من الفلاسفة والحقوقيين وعلماء الاجتماع، الذين أعادوا إلى أوروبا نغمة التفكير النقدي التي كانت قد خفتت أمام صخب التكنولوجيا الأميركية. فبينما يتحدث وادي السيليكون عن "كفاءة النماذج" و"سرعة المعالجة"، يتحدث الأوروبيون عن "العدالة الخوارزمية" و"الشفافية الأخلاقية". هذه اللغة الجديدة تعيد أوروبا إلى نفسها، إلى تقليدها العريق في ربط العلم بالقيم، والفكر بالمسؤولية. لكنها أيضا تجعلها عرضة للاتهام بأنها تهدر الفرصة الكبرى بينما الآخرون يجنون الثمار.

والتحول الأوروبي ليس مجرد استجابة تكنولوجية، بل مشروع هوية جديدة في عصر الذكاء الاصطناعي. فالقارة التي بنت حضارتها على فكرة الإنسان العاقل، تجد نفسها مضطرة اليوم لإعادة تعريف هذا الإنسان في مواجهة كائنات رقمية تتعلم وتبدع وتخطئ مثله. وربما لهذا السبب يبدو النقاش الأوروبي حول الذكاء الاصطناعي أكثر عمقا ووجودية من أي مكان آخر. فبينما يتحدث الأميركيون عن فرص السوق، والصينيون عن أدوات السيطرة، يتحدث الأوروبيون عن مصير الإنسان نفسه.

AFP
نائب الرئيس الأميركي دي فانس، الى اليمين، مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خلال اجتماع ثنائي في قصر الإليزيه، على هامش قمة عمل الذكاء الاصطناعي في باريس

لكن السؤال الحقيقي هو: هل يكفي التنظيم لبناء قوة في عالم الذكاء الاصطناعي؟ هل تستطيع أوروبا أن تفرض رؤيتها الأخلاقية على الآخرين وهي لا تملك الشركات العملاقة ولا بنية الحوسبة الضخمة التي يملكها الأميركيون والصينيون؟ هنا تتجلى المعضلة الكبرى التي تشغل العقول الأوروبية اليوم، فكيف تجمع بين الطموح الأخلاقي والطاقة الاقتصادية، بين المبادئ القديمة وروح المنافسة الجديدة؟

ربما لم يعد لدى أوروبا رفاهية الوقت للإجابة الطويلة. فالذكاء الاصطناعي يتطور بسرعة مذهلة، والقرارات التي تتخذ اليوم ستحدد موقعها لعقود مقبلة. ومع ذلك، يبدو أن الأوروبيين، بطريقتهم التاريخية الهادئة، يفضلون التفكير الطويل قبل الفعل السريع. وهذا ما يجعل المشهد الأوروبي في هذه المرحلة مليئا بالتناقضات الجميلة: الخوف من المستقبل، والرغبة في قيادته في آن واحد: الحنين إلى القيم القديمة، والاعتراف بأن العالم الجديد لا ينتظر المترددين.

السيادة الرقمية

لا يمكن فهم التحول الأوروبي في الذكاء الاصطناعي بمعزل عن مفهوم "السيادة الرقمية" الذي بدأ يتبلور في القاموس السياسي الأوروبي بعد عام 2018، حين أدركت بروكسيل أن العالم الرقمي لم يعد مجرد مساحة تكنولوجية، بل ميدان نفوذ يعادل في أهميته النفط والطاقة في القرن العشرين. ففي لحظة ما، اكتشف الأوروبيون أن كل بنيتهم الرقمية — من محركات البحث إلى الحوسبة السحابية — تعتمد على شركات أميركية، وأن بياناتهم الخاصة تمر عبر خوادم في كاليفورنيا، وأن قواعدهم الأخلاقية لا تملك وزنا أمام خوارزميات "وادي السيليكون". كانت تلك الصدمة، وإن جاءت متأخرة، لحظة وعي استراتيجي: أوروبا ليست فقط متأخرة تكنولوجيا، بل تابعة سياديا.

من هنا ولدت فكرة "السيادة الرقمية" كحلم جديد لإعادة التوازن. لم يكن الهدف أن تنافس أوروبا أميركا في عدد الشركات العملاقة، بل أن تفرض قواعدها الخاصة على الفضاء الرقمي بحيث يصبح كل من يتعامل معها — شركات أو دول — مضطرا إلى التزام معاييرها. وقد نجحت إلى حد ما في ذلك مع "اللائحة العامة لحماية البيانات" التي دخلت حيز التنفيذ عام 2018، وغيرت قواعد التعامل مع البيانات في العالم كله.

الشركات الأوروبية الصغيرة لا تملك الموارد لتلبية متطلبات الامتثال الصارمة، بينما الشركات الأميركية العملاقة تستطيع التعامل معها بسهولة بفضل قدرتها المالية الهائلة. وهكذا، يصبح الخطر أن يتحول القانون الذي وضع لحماية المنافسة إلى أداة تكرس الاحتكار

وحين ظهر الذكاء الاصطناعي بوصفه القوة المحركة للمرحلة التالية، حاولت أوروبا تطبيق المنطق نفسه: إذا لم نستطع أن نصنع أقوى النماذج، يمكننا على الأقل أن نضع القواعد التي تحكم استخدامها. بهذا المنطق، يصبح "القانون الأوروبي للذكاء الاصطناعي" امتدادا طبيعيا لمشروع "السيادة الرقمية".

لكن الطريق إلى هذه السيادة لم يكن سهلا. فداخل أوروبا نفسها تباينت المواقف بشدة. ألمانيا أرادت قانونا صارما يحمي المستهلك والعمالة من قرارات خوارزمية قد تكون متحيزة أو غير شفافة، بينما ضغطت فرنسا في اتجاه نموذج أكثر مرونة يتيح للشركات الناشئة حرية الابتكار دون عبء تنظيمي يقتل المنافسة. أما الدول الصغيرة مثل إستونيا وفنلندا، فكانت أكثر حذرا من أن يؤدي التشدد في اللوائح إلى طرد الاستثمارات نحو الولايات المتحدة أو آسيا. هكذا، كان على الاتحاد الأوروبي أن يجد توازنا شبه مستحيل، فكيف يفرض معايير صارمة تحمي القيم، دون أن يخنق روح الابتكار التي تحتاجها القارة لتلحق بالسباق العالمي؟

الضمان والمساءلة

هذا التوازن لم يحل نهائيا، لكنه أنتج مقاربة جديدة أقرب إلى "البراغماتية الأخلاقية"، وفكرة أن الأخلاق يمكن أن تكون مرنة، وأن التنظيم يمكن أن يصمم ليواكب التطور بدلا من أن يسبقه. فالقانون الأوروبي للذكاء الاصطناعي يقوم على مبدأ "تصنيف الأخطار"، أي أنه لا يتعامل مع كل الأنظمة بالصرامة نفسها، بل يفرق بين ما يعد خطرا مرتفعا على الإنسان (كأنظمة التوظيف أو العدالة الجنائية) وما هو أقل خطرا (كالألعاب أو الترفيه). بهذه الطريقة، تبقي أوروبا صورتها كقوة أخلاقية، لكنها تفتح في الوقت نفسه نوافذ تسمح للتكنولوجيا بالنمو.

ومع أن هذا النموذج يبدو عقلانيا في الورق، إلا أن تطبيقه يواجه تحديات عميقة. فالشركات الأوروبية الصغيرة لا تملك الموارد لتلبية متطلبات الامتثال الصارمة، بينما الشركات الأميركية العملاقة تستطيع التعامل معها بسهولة بفضل قدرتها المالية الهائلة. وهكذا، يصبح الخطر أن يتحول القانون الذي وضع لحماية المنافسة إلى أداة تكرس الاحتكار. وهذا ما دفع بعض الأصوات في أوروبا إلى التحذير من "الاستعمار القانوني الذاتي"، حيث تصبح القارة سجينة لقواعدها، في الوقت الذي يتحرك فيه الآخرون بحرية.

ربما لهذا السبب تحديدا يبدو الاتحاد الأوروبي أكثر انسجاما مع نفسه حين يتحدث عن "الثقة" و"الشفافية" بدلا من "السرعة" و"الربحية". فهذه المفاهيم تنتمي إلى تقاليده القديمة، إلى ثقافة القانون والمؤسسات التي قامت عليها الحضارة الأوروبية. في حين أن الولايات المتحدة بنت ثورتها التكنولوجية على فكرة "المغامرة" و"الابتكار الحر"، فإن أوروبا تبني ثورتها على فكرة "الضمان" و"المساءلة".

ومن المثير أن هذا الانقسام في الرؤية لا ينعكس فقط بين القارات، بل داخل أوروبا نفسها. فهناك تيار جديد بدأ يظهر في فرنسا وألمانيا وإسبانيا يدعو إلى التحرر من العقدة التنظيمية، ويطالب بسياسة "أوروبية للابتكار" لا تقل جرأة عن نظيرتها في أميركا. هذا التيار يرى أن أوروبا لن تستطيع فرض أخلاقياتها ما لم تملك أدواتها، وأن القيم بلا قوة لا وزن لها. في المقابل، لا يزال التيار التقليدي في بروكسيل يصر على أن السرعة ليست دائما فضيلة، وأن من يركض بلا بوصلة سينتهي في الهاوية.

هذا الصراع بين القيم والقدرة هو جوهر المعضلة الأوروبية. فالقارة التي كانت يوما سيدة العالم بمعرفتها وتنظيمها، أصبحت اليوم تبحث عن طريق جديد لتستعيد مكانتها في عالم تتحكم فيه الشركات والأنظمة أكثر من الدول. الذكاء الاصطناعي أعاد طرح السؤال القديم: هل يمكن أن تكون أوروبا قوة عالمية من دون أن تتحول إلى نسخة جديدة من أميركا؟ هل يمكنها أن تصنع نموذجا مختلفا للحداثة الرقمية، يكون إنسانيا بقدر ما هو تكنولوجي؟

حين تحاول أوروبا فرض معاييرها على الشركات الأميركية، تواجه ضغطا هائلا من واشنطن التي ترى في ذلك تهديدا لمصالحها التجارية

حتى الآن، لم تتضح الإجابة بعد، لكن ما يبدو أكيدا أن أوروبا لم تعد تكتفي بدور المتفرج. ففي العامين الأخيرين، بدأت استثمارات كبيرة تضخ في بناء بنية تحتية حوسبية أوروبية مستقلة، ومشروعات لتطوير "نماذج لغوية أوروبية" قادرة على منافسة النماذج الأميركية. فرنسا تحديدا أخذت زمام المبادرة عبر دعم شركات ناشئة في الذكاء الاصطناعي بتمويل حكومي مباشر، فيما أعلنت ألمانيا خططا لإنشاء "سحابة أوروبية" بديلة من الخدمات الأميركية. هذه الخطوات، وإن كانت متأخرة، تعكس إيمانا متزايدا بأن السيادة الأخلاقية تحتاج إلى ركيزة تقنية.

بدأت بروكسيل في السنوات الأخيرة تبني تحالفات رقمية جديدة، مع دول تشترك في القلق ذاته من الهيمنة التكنولوجية الأميركية والصينية. الهند مثلا، التي تمتلك طموحات رقمية كبرى لكنها تخشى فقدان سيادتها على بياناتها، وجدت في أوروبا شريكا مقبولا لتبادل الخبرات وبناء نموذج أكثر استقلالا.

غير أن هذا التوسع المعياري يصطدم دوما بحدوده السياسية والاقتصادية. فحين تحاول أوروبا فرض معاييرها على الشركات الأميركية، تواجه ضغطا هائلا من واشنطن التي ترى في ذلك تهديدا لمصالحها التجارية. وحين تتحدث مع بكين عن "الذكاء الأخلاقي"، تجد نفسها أمام نظام لا يشاركها المرجعية ولا اللغة. وبين هذا وذاك، تجد القارة نفسها مجبرة على المناورة الدقيقة: أن تحافظ على استقلالها الأخلاقي دون أن تخسر شراكاتها الاقتصادية.

التحدي الحقيقي

وهنا يبرز دور فرنسا وألمانيا بوصفهما قاطرتي القرار الأوروبي. فباريس تميل إلى قراءة أكثر جيوسياسية للذكاء الاصطناعي، ترى فيه أداة لبناء "أوروبا القوة" القادرة على منافسة الكبار. بينما برلين، ببراغماتيتها الصناعية، تميل إلى رؤية الذكاء الاصطناعي كمسألة اقتصادية أكثر منها استراتيجية. هذا التباين يجعل الموقف الأوروبي مترددا بين الحذر الألماني والطموح الفرنسي، بين ثقافة التزام القواعد وثقافة القفز نحو المستقبل. أما بروكسيل، ببيروقراطيتها الثقيلة، فتحاول الجمع بين الطرفين من خلال لغة وسطى... لغة "المسؤولية التنافسية".

شترستوك
السلطات الأميركية منعت الصين من الوصول الى بعض التقنيات الحديثة التي من شأنها أن تعزز قدرتها في مجال الذكاء الاصطناعي

لكن التحدي الحقيقي لا يأتي من الخارج فحسب، بل من الداخل أيضا. فالاتحاد الأوروبي كيان فريد في تركيبته، يجمع بين ٢٧ دولة ذات مصالح وثقافات اقتصادية مختلفة. لذلك، فإن أي سياسة مشتركة للذكاء الاصطناعي تحتاج إلى توازن دقيق بين الدول الغنية المتقدمة رقميا مثل فرنسا وألمانيا، والدول الطرفية التي تخشى أن تتحول الثورة الرقمية إلى شكل جديد من التبعية الاقتصادية. ولعل هذا ما يفسر بطء أوروبا في اتخاذ القرارات مقارنة بخصومها: فكل خطوة تحتاج إلى توافق واسع، وكل بند يخضع لمفاوضات طويلة.

ورغم كل ذلك، يظل للنهج الأوروبي جاذبية خاصة. فبينما تنزلق الولايات المتحدة نحو تركيز غير مسبوق للسلطة في يد شركات التكنولوجيا الكبرى، وتغرق الصين في نموذج رقابي صارم، تحاول أوروبا أن تقدم مثالا ثالثا يعتمد نظاما يخضع التكنولوجيا للمجتمع لا العكس، ويجعل القيم الإنسانية جزءا من تصميم الخوارزميات نفسها. هذه الفكرة — رغم مثاليتها — تملك قوة رمزية كبيرة، لأن العالم يحتاج إلى نموذج يثبت أن التقدم لا يعني بالضرورة التخلي عن الأخلاق.

ومع الوقت، بدأت تلك الفكرة تتسلل حتى إلى الخطاب الأميركي نفسه. فشركات وادي السيليكون التي كانت تسخر يوما من البيروقراطية الأوروبية، أصبحت اليوم تتحدث بلغة "الذكاء المسؤول" و"الشفافية"، مدفوعة بضغوط الرأي العام والهيئات التنظيمية. وكأن أوروبا، رغم ضعفها التقني، نجحت في تصدير قيمها إلى خصومها. وهذه، بطريقتها الخاصة، صورة أخرى من صور النفوذ الأوروبي الهادئ: نفوذ الأفكار لا المصانع.

بدأ الأوروبيون يقرأون تاريخهم العمودي بعين جديدة، لم يعد التاريخ فقط سردا لإنجازات عقلية وسياسية، بل صار مخزونا من الخبرات التي تحذر من تمرير السلطة إلى كيانات تفلت من قيود المساءلة

لكن أوروبا تدرك أيضا أن النفوذ الأخلاقي لا يعيش في الفراغ، وأن بقاءها في طليعة النقاش العالمي يتطلب أن تثبت قدرتها على تحويل المبادئ إلى تطبيقات. من هنا بدأت برامج التمويل الضخمة تضخ مليارات اليورو في مشاريع ذكاء اصطناعي أوروبية خالصة، من النماذج اللغوية إلى تطبيقات الطب والتعليم والإدارة العامة. الهدف ليس فقط دعم البحث العلمي، بل خلق بيئة أوروبية متكاملة يستطيع فيها الابتكار أن يعيش دون أن يضطر للهجرة إلى كاليفورنيا أو شينزن.

ولعل المثير أن هذا المسار الأوروبي لم يعد مجرد خيار داخلي، بل أصبح عنصرا في سياستها الخارجية. فالاتحاد الأوروبي يستخدم اليوم ملف الذكاء الاصطناعي في حواراته مع الولايات المتحدة والصين، كما يستخدمه في مفاوضاته التجارية مع دول الجنوب. إنه يحاول أن يقول للعالم إن المستقبل ليس فقط لمن يملك القوة، بل لمن يملك الضمير الذي يوجهها. إنها عودة إلى روح أوروبا القديمة... روح كانت ترى في نفسها حارسا للقيم الإنسانية وسط صخب المصالح.

رويترز
ترمب يلقي كلمة حول الذكاء الاصطناعي في قمة "النصر في سباق الذكاء الاصطناعي" في واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة، 23 يوليو

تبدل منظور أوروبا للذكاء الاصطناعي لا يقتصر على صوغ القوانين أو إطلاق المبادرات الاقتصادية فحسب، بل يمتد إلى إعادة تشكيل المفاهيم الأساسية التي تصوغ الهوية الأوروبية نفسها. فكرٌ أوروبي يغالب نفسه الآن على سؤال بسيط لكنه عميق: ماذا يعني أن تكون إنسانا في عصر تتشارك فيه الجرأة المعرفية بين بشر وآلات؟ أعد التفكير في ذلك السؤال لأن الجواب الأوروبي عنه يحاول أن يوازن بين تراث طويل من الحقوق والكرامة والخصوصية، ورغبة حديثة في عدم فقدان الفرص الاقتصادية والسياسية.

من يمتلك البيانات؟

بدأ الأوروبيون يقرأون تاريخهم العمودي بعين جديدة، لم يعد التاريخ فقط سردا لإنجازات عقلية وسياسية، بل صار مخزونا من الخبرات التي تحذر من تمرير السلطة إلى كيانات تفلت من قيود المساءلة. لذلك، سعت النخب الفكرية والقانونية إلى أن تدمج في نصوص القوانين مبادئ أخلاقية عميقة، ليس كرفوف نظرية، بل كإجراءات عملية تترجم في متطلبات الشفافية والقدرة على المساءلة وتقنيات التحقق. طلبت القواعد الأوروبية أن تكون الخوارزميات قابلة للتفسير إلى أقصى حد ممكن، وفرضت آليات لاختبار الانحياز ودراسة أثر القرارات الآلية على الفئات الهشة.

دعمت هذه المتطلبات رؤية قوية، فالتقنية لا تعمل بمعزل عن البنية الاجتماعية، وأن الخوارزميات ليست محايدة بطبيعتها، لأنها تبنى على بيانات تحمل تاريخا وإدراكات بشرية. لهذا السبب، جعلت أوروبا من مسألة المصدر والبيانات محورا أخلاقيا وقانونيا، طارحة تساؤلات عمن يمتلك البيانات، ومن يحميها، ومن يستفيد منها. وقد أدت هذه المقاربة إلى اشتباكات حقيقية مع شركات ترى في الإفصاح الواسع خطرا على الملكية الفكرية والتنافس. تصاعد هذا الخلاف في جدل الشفافية وحقوق النشر الذي رافق صوغ مدونة الممارسات الخاصة بالنماذج العامة للذكاء الاصطناعي، حيث اصطدمت مطالب المجتمع المدني للشفافية الشاملة مع مخاوف الشركات الكبرى من الكشف عن أسرار تقنية قد تفقدها ميزة تنافسية.

التكيف لا يقاس فقط بتوقيع أو عدم توقيع كود طوعي. بل يقاس بقدرة أوروبا على إتاحة بيئة إنتاجية متكاملة تسمح للابتكار بالازدهار داخل إطار قيمي

أظهرت المسودات المتعاقبة لمدونة الممارسات — والنسخة الثالثة التي أعدها مكتب الذكاء الاصطناعي في المفوضية — محاولة أوروبية للرضوخ لتوازن دقيق يوازن بين الشفافية الكافية لطمأنة الجمهور والجهات الرقابية، وسرية كافية لحماية الابتكار التجاري. طالبت المدونة بالإفصاح عن منهجيات التدريب ومصادر البيانات بصورة عامة، مع استثناءات معقولة للملكية الفكرية، وطرحت آليات للتعامل مع شكاوى أصحاب الحقوق بطريقة تمنع الإساءة إلى النظام عبر تقديم شكاوى مفرطة أو غير مبررة. وقد أحدثت هذه التسوية شبه هدوء في بعض الأوساط، لكنها لم تطفئ تماما قلق المدافعين عن الحقوق الرقمية من أن التنازلات قد تضعف قدرة القانون على حماية المستخدمين.

رفعت أوروبا من سباق الأخلاق إلى مستوى عملي آخر، إذ جعلت من الامتثال معيارا للدخول إلى سوق كبيرة ومعتنية بحقوق الخصوصية. وهنا تتلاقى الرؤية الأخلاقية مع استراتيجيا اقتصادية بليغة، لأن السوق الأوروبية، بحجمها وقوتها الشرائية، أصبحت أداة ضغط حقيقية. والشركات التي تريد النفاذ إلى هذه السوق أو العمل معها تجد نفسها أمام خيارين أما التكيف مع معاييرها أو تقبل خسارة حصة مهمة من العملاء. بهذا المعنى، استخدمت أوروبا ما تملكه بالفعل — قانونها وسوقها — لتحويل قيمها إلى شروط عمل.

لكن التكيف لا يقاس فقط بتوقيع أو عدم توقيع كود طوعي. بل يقاس بقدرة أوروبا على إتاحة بيئة إنتاجية متكاملة تسمح للابتكار بالازدهار داخل إطار قيمي. هنا، برزت الحاجة إلى بنية تحتية فعلية مثل مراكز بيانات محلية، وشبكات حوسبة عالية، واستثمارات بحثية قادرة على إنتاج نماذج لغوية وخوارزميات متقدمة. تحولت الخطابات في باريس وبرلين من مجرد الدفاع عن القيمة إلى الدعوة لبناء أدوات تجعل تلك القيمة قابلة للتطبيق. وهنا دخلت مبادرات مثل تمويل شركات ناشئة موجهة، ودعم النماذج المحلية كما فعلت فرنسا بدعم مشاريعها الوطنية، وبرامج تمويل بحثية أوروبية واسعة النطاق في صلب الاستراتيجيا.

موجة الاندماجات

أعاد هذا التحول أيضا تشكيل العلاقة بين القطاعين العام والخاص في القارة. لم تعد العلاقة مجرد مراقب، بل شراكة تنظيمية تكافح لفهم التكنولوجيا وتوجيهها. دعيت الشركات الى المشاركة في مجموعات العمل والجلسات العامة التي نظمها مكتب الذكاء الاصطناعي في المفوضية، كما شجعت المنظمات الأكاديمية والمجتمع المدني على تقديم ملاحظاتها. ورغم الاتهامات المتكررة بأن بروكسيل قد استسلمت لضغوط الشركات، إلا أن المشاركة الواسعة عبر قطاعات عدة تظهر رغبة حقيقية في صنع قواعد تحظى بقبول واسع، حتى لو تطلب ذلك تفاوضا طويلا ومعقدا.

تفرض القواعد الأوروبية الجديدة للذكاء الاصطناعي التزامات معقدة تشمل الشفافية، وتقييم الأخطار، والإفصاح عن منهجيات التدريب ومصادر البيانات، مما يزيد الأعباء الإدارية على الشركات الصغيرة والمتوسطة. هذه الفئة التي تمثل محرك الابتكار في القارة تواجه معضلة حقيقية بين تكلفة الامتثال وتكلفة تطوير التكنولوجيا، وهو ما قد يؤدي إلى تباطؤ وتيرة الإبداع واتساع موجة الاندماجات، بحيث تصبح الشركات الناشئة هدفا سهلا لاستحواذ رأس المال الكبير.

بدأت بعض العواصم الأوروبية في مواجهة هذه المشكلة بإطلاق حزم دعم حكومية متنوعة، تشمل منحا بحثية وائتمانات ضريبية ومنصات حوسبة عامة مدعومة لتخفيف الأعباء المالية، وخلق سلسلة قيمة أوروبية في مجال الذكاء الاصطناعي تعزز قدرة القارة على المنافسة من دون التخلي عن معاييرها الأخلاقية.

الشركات الكبرى من جانبها قادرة على تحمل تكاليف الامتثال، لكنها تخشى أن يؤدي الكشف عن تفاصيل التدريب والبيانات إلى فقدان ميزتها التنافسية. هنا ظهر الكود الطوعي الذي قدمته المفوضية الأوروبية كحل وسط يسمح بدرجة من الإفصاح دون المساس بالأسرار التجارية. توقيع شركات كبرى مثل "أوبن إيه آي" و"ديب مايند" عليه، يعكس رغبة في التكيف مع السوق الأوروبية، بينما رفضت "ميتا" التوقيع يشير إلى تحفظات على مستوى الإفصاح المطلوب.

يهدف الكود الطوعي للنماذج العامة للذكاء الاصطناعي إلى تحقيق توازن بين الابتكار والمسؤولية ومساعدة الشركات على فهم قانون الذكاء الصناعي والامتثال له، ويرتكز على أربعة مبادئ أساسية هي الشفافية في منهجيات التدريب ومصادر البيانات بما يتيح فهما عاما لكيفية عمل النماذج دون الكشف عن الأسرار التقنية، وإدارة الأخطار من خلال التقييم المستمر بدلا من محاولة القضاء عليها تماما، والتزام السلامة عبر مراجعات دورية للأمان والأداء وفق المعايير الأخلاقية والقانونية، وأخيرا التعاون الدائم مع المفوضية الأوروبية لتبادل التقارير وتحديث الإرشادات بما يضمن مرونة الكود وتطوره مع سرعة التغير التقني.

وقد طالبت عشرات الشركات الأوروبية بتأجيل تنفيذ بعض بنود القانون، إذ عبرت 45 من كبرى الشركات الأوروبية في يوليو/تموز الماضي عن قلقها من تعقيد بنوده وصعوبة الامتثال له في المدى الزمني المحدد، مبررة ذلك بالغموض التقني وتكاليف الامتثال المرتفعة، لكن المفوضية تفضل مزيجا من الحزم والمرونة عبر فترات انتقالية ومساحات اختبار تنظيمية تسمح بتجربة التقنيات الجديدة تحت إشراف الجهات الرقابية قبل تعميمها.

على المستوى الدولي، تسعى بروكسيل إلى دمج قواعدها في الاتفاقيات التجارية الرقمية لتوسيع نطاق تطبيقها عالميا. نجاح هذه الجهود سيحول المعيار الأوروبي إلى قاعدة دولية مؤثرة، ويمنح القارة نفوذا مضاعفا في رسم مستقبل الذكاء الاصطناعي عالميا.

ورغم أن القانون الأوروبي يعبر عن نية استراتيجية واضحة، إلا أن فعاليته تعتمد في النهاية على قدرة أوروبا على تحويل هذه النية إلى أدوات تنفيذ واقعية بتمويل كاف، وبنية حوسبية قوية، وبرامج دعم مهني وتكنولوجي فعالة. فالقيم وحدها لا تصنع المنافسة، إنما تتحقق القوة حين تدار المبادئ بحنكة واقعية توازن بين الأخلاق والكفاءة.

font change