ديفيد زالاي لـ"المجلة": أوروبا تمرّ بتحولات اجتماعية وسياسية هائلة

روايته "جسد" وصلت إلى قائمة "بوكر" القصيرة

Daniel LEAL / AFP
Daniel LEAL / AFP
الكاتب الكندي البريطاني ديفيد زالاي خلال جلسة تصوير في لندن عام 2016 بعد ترشحه لجائزة "مان بوكر" عن روايته "كل ما هو إنسان"

ديفيد زالاي لـ"المجلة": أوروبا تمرّ بتحولات اجتماعية وسياسية هائلة

ولد ديفيد زالاي في مونتريال عام 1974 لأم كندية وأب مجري، وبرز كأحد أكثر الكتاب قدرة على تصوير ملامح الحياة الأوروبية المعاصرة. أمضى سنوات طفولته الأولى بين بيروت ولندن، درس في جامعة أكسفورد قبل أن يتفرغ تماما للكتابة، ليستقر لاحقا مع أسرته في العاصمة المجرية بودابست. بدأت مسيرته الأدبية عام 2008 برواية "لندن والجنوب الشرقي" التي فازت بجائزتي "بيتي تراسك" و"جيفري فابر التذكارية". غير أن المتتالية القصصية، "كل ما هو إنسان"، كانت سبب شهرته، إذ وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة "بوكر" عام 2016، وفاز بجائزة "غوردون بيرن" عام 2016. وقد أشاد النقاد بعمق النص وبنيته المبتكرة، رغم جدلهم حول تصنيفه كـرواية أم مجموعة قصصية.

غالبا ما تتلاشى الحدود في أعمال زالاي بين الرواية والمجموعة القصصية، كما يتجلى في "الاضطراب" 2018، وهي متتالية قصصية تمتد عبر قارات العالم، أما روايته الأحدث، "الجسد"، فتعود للقائمة القصيرة لجائزة "بوكر" لعام 2025، مؤكدة مكانته كأحد أبرز الأصوات في الأدب المعاصر. هنا حوار معه.

استخدمت في "كل ما هو الإنسان" و"الاضطراب" بناء المتتالية القصصية كنمط سردي بدلا من النص السردي الروائي ذي الفصول. متى تقرر الأسلوب السردي لأعمالك؟

لم يكن هناك لحظة واحدة اتخذت فيها قرارا محددا في هذا الاتجاه. فهناك عوامل ظرفية، "كل ما هو إنسان" بدأت بقصة واحدة، ثم قررت أن أكتب قصصا أخرى بالطول نفسه، بينما كتبت "الاضطراب" في الأصل كمتتالية قصصية. ومع ذلك، وجدت أن لبنية المتتالية القصصية مزايا واضحة: فهي تتيح تركيزا أكبر على ما هو جوهري والأكثر درامية، وفي الوقت نفسه تتيح تغطية نطاق أوسع من التجارب الإنسانية.

كما أود القول إن كلا العملين في الواقع يمتلك قوسا سرديا واحدا متصلا، وهذا مهم خصوصا في "كل ما هو إنسان". في هذا الكتاب تحديدا، هناك إحساس بأن الشخصيات التسع المستقلة هي، بطريقة غامضة، شخصية واحدة، أو على الأقل يثير الكتاب السؤال حول ما تعنيه كلمة “شخصية” أو “فرد” حقا. فهو كتاب يتساءل عن بعض المسلمات الفلسفية لفكرة الفردانية.

أشكال التحول

وصف النقاد "كل ما هو إنسان" بأنها "نقاط على قوس واحد، لا أقواسا قائمة بذاتها". كيف توازن بين دفع السرد إلى الأمام وحجب الخلفيات الكاملة للشخصيات، خصوصا حين يشعر القارئ بغياب التحول الجوهري لدى بعضهم؟ هل الجمود جزء من الفكرة؟

لا أعتقد أن الجمود هو جوهر الفكرة. أظن أن غالبية القصص في "كل ما هو إنسان" تتضمن شكلا من أشكال التحول يمر به البطل. وربما أشير مرة أخرى إلى العمل ككل، إلى الطريقة التي يمتلك بها نوعا من الخط السردي، إحساسا بالتطور والتغير.

يمكن القول إننا جميعا نعيش الحياة نفسها، أي أن حياتنا جميعا تتبع المسار الأساسي ذاته، وتخضع للنمط نفسه من التحولات

صحيح أن هناك القليل من المعلومات في ما يخص الخلفيات الخاصة بالشخصيات، وأعتقد أن هذا الجزء مقصود. فالماضي، أو مصادفات الحياة الفردية، ليست ذات أهمية كبرى. يمكن القول إننا جميعا نعيش الحياة نفسها، أي أن حياتنا جميعا تتبع المسار الأساسي ذاته، وتخضع للنمط نفسه من التحولات.

REUTERS/John Phillips/Pool
لوك إليس وكاميلا دوقة كورنوال يقدّمان للكاتب ديفيد زالاي نسخة من روايته "كل ما هو الإنسان" خلال حفل جائزة "مان بوكر" 2016 في لندن

في رواية "الجسد"، تتناول الحياة كـتجربة جسدية، معتبرا الجسد جوهر الوجود. كيف يؤثر هذا التركيز على اختيارك لما تظهره وما تلمح إليه، خاصة في الحالات العاطفية أو الروحية التي عادة ما تتجنب الوصف المباشر؟

أعتقد أن هذا الاختيار غريزي أكثر منه متعمدا. لكن من المؤكد أن الكتاب، رغم تركيزه الأساسي على الوجود الجسدي، يهتم أيضا بالحالات العاطفية والروحية ويقترب منها بشكل غير مباشر، إذ تكون غالبا (وإن لم يكن دائما) كامنة ومضمنة بدل أن توصف مباشرة. لماذا؟ لأن هذا بدا لي أسلوبا أكثر فعالية للتعبير عنها.

الجسد والشخصية

أثناء كتابة الرواية، هل فكرت في الجسد كشخصية بحد ذاته أم كعدسة تكشف من خلالها جوهر شخصياتك؟

لا أصف الجسد بأنه عدسة تكشف جوهر الشخصيات، لأنني ببساطة أراه المكون الأهم في جوهر الشخصية نفسها. لا أؤمن بفكرة أن الناس يكونون شيئا آخر غير ما يظهرون عليه. ولهذا أردت أن أكتب عن الحياة كتجربة مادية مباشرة. في ذلك نوع من الحقيقة التي لا يمكن اختزالها.

لكنني لم أرد أن أكون هذا الاختزال بالمعنى السلبي، فخبرتنا الذاتية بالحياة معقدة للغاية، وتضم أشكالا أخرى من التجربة، وأردت بالطبع أن يعكس الكتاب ذلك، وأرجو أنه فعل. غير أن التجربة الجسدية تظل ذات أسبقية ما، فكل شيء يبدأ منها.

REUTERS/Bernadett Szabo
منظر عام لمبنى البرلمان المجري كما يُرى من حصن الصيادين في بودابست، المجر، 15 نوفمبر 2018

أوروبا، والهجرة، والهوية المتغيرة، والمنظور الداخلي للغريب، ثيمات تتكرر في أعمالك. إلى أي مدى كانت التحولات الجغرافية/الهوية رموزا واعية لشكوك داخلية أوسع أو انقسامات مجتمعية في أوروبا المعاصرة؟

كنت أريد بشدة أن يكون الكتاب عن أوروبا المعاصرة بطريقة محددة ومفصلة. وآمل أنه كذلك. أوروبا تمر بمرحلة تحولات اجتماعية وسياسية هائلة، الهويات تتفكك، يعاد صوغها، وتتعرض لضغوط هائلة. إنها فترة مقلقة بلا شك، لكنها بالنسبة للروائي، بالطبع، تمثل أيضا فرصة. هناك أشياء مثيرة جدا للكتابة عنها، وربما الرواية هي الشكل الوحيد القادر على احتوائها كاملة.

REUTERS/Michele Tantussi
ركاب ينظرون إلى شاشة في مطار برلين براندنبورغ (BER) في شونفيلد قرب برلين، ألمانيا، 7 يوليو 2022.

في أعمالك كثيرا ما تشكل الأحداث والتاريخ مصير الشخصيات أكثر مما تشكل الشخصيات تلك الأحداث (كما في حرب العراق وتأثيرها على إيشتفان بطل فصل "الضماد" في رواية "الجسد"). كيف توفق بين حرية الفرد والشعور أن الحياة كثيرا ما تفرض علينا بقوى سياسية واقتصادية واجتماعية خارجة عن السيطرة؟

أظن أن مفهوم "الفاعلية الفردية" أو غيابها هو أحد المحاور المركزية في "الجسد". حياة إيشتفان تتشكل، كما قلت، تحت تأثير قوى وأحداث خارجة تماما عن إرادته. ومن المهم الإشارة إلى أن هذه القوى ليست خارجية فقط كالتاريخ والمجتمع بل داخلية أيضا كاحتياجات الجسد وحدوده.

لا جدوى من كتابة رواية عما يمكن التعبير عنه بسهولة، وما يصعب التعبير عنه لا يمكن قوله مباشرة، بل يجب أن يكون كامنا أو موحى به

السؤال عن مدى قدرة الفرد، في هذه الظروف، على ممارسة إرادته الحرة، هو أحد الأسئلة التي يحاول الكتاب مناقشتها. وهو سؤال معقد للغاية، بلا إجابة بسيطة، ومن ثم هو بالضبط نوع الأسئلة التي تستحق أن تكتب عنها الروايات.

المسؤولية الأخلاقية

في الرواية يبدو العجز عن التعبير محورا أساسيا، وكذلك طريقة استجابة الشخصيات للصدمة. ما المسؤوليات الأخلاقية التي تشعر بها ككاتب تجاه تلك الأصوات العاجزة عن التعبير؟ وكيف تضمن أنك لا تكتفي بالملاحظة بل تمنح شكلا لما يصعب التعبير عنه؟

أعتقد أن الرواية، كشكل أدبي، يجب أن تكرس نفسها لما يصعب التعبير عنه. لا جدوى من كتابة رواية عما يمكن التعبير عنه بسهولة، وما يصعب التعبير عنه لا يمكن قوله مباشرة، بل يجب أن يكون كامنا أو موحى به.

لذلك شعرت فعلا بمسؤولية أخلاقية أثناء كتابة الرواية. مسؤولية ألا أسيء تمثيل المعاناة أو أتعامل بخفة مع الصدمة. الجزء الذي يتناول تجربة إيشتفان في حرب العراق كان تحديا خاصا من هذه الناحية. وفي النهاية عالجته بشكل غير مباشر تماما عبر الصمت أو من خلال حواراته مع المعالجة النفسية.

Mike Coppola / GETTY IMAGES NORTH AMERICA / Getty Images via AFP
دوا ليبا وديفيد زالاي خلال تسجيل بودكاست "نادي كتاب سيرفِس 95" في مكتبة نيويورك العامة، 15 سبتمبر 2025

أسلوبك السردي يجمع بين الحداثة في اللغة، والتكثيف، مع لحظات من التفاصيل الحية في ما يخص الأشياء المحيطة والملابس والطبيعة. كيف تختار أي التفاصيل تكتب، وكيف توازن بين التفاصيل التي تثري البنية النفسية وتلك التي قد تشتت عنها؟

هذا أيضا أمر غريزي جدا. في الحقيقة، أستطيع القول إنني أبدأ بالتفاصيل، لا بالأشياء التي يفترض أن تعبر عنها. العالم الذي أتخيله يتكون منها. ليست المسألة أن أتخيل حياة نفسية ثم أبحث عن تفصيل يعبر عنها. الاثنان، في ذهني، متداخلان منذ البداية.

ذكرت سابقا أنك "غير متصالح مع شكل الرواية التقليدية"، أهذا ما دفعك لاستكشاف بنية سردية هجينة. وكيف ترى أنه سيؤثر في أعمالك المقبلة؟

أعتقد أنني أصبحت الآن ملتزما تماما البنى "الهجينة". لقد صار ذلك عادة تخيلية. حتى "الجسد"، التي تبدو ظاهريا رواية تقليدية، تتألف من وحدات شبه مستقلة. هذا ما فكرت فيه أثناء الكتابة بالفعل. والكتاب الجديد الذي أعمل عليه الآن يتكون من ثلاثة أجزاء غير مترابطة بطريقة سردية مألوفة. كما قلت سابقا، هذا الشكل يفتح أمامي إمكانات أوسع وعالما تخيليا أغنى وأكثر تعقيدا من البنية السردية الموحدة.

من الكتّاب أو الأعمال التي وجدت فيها معالجة ناجحة للثيمات التي تشغلك؟ وماذا أخذت منهم من حيث التقنية السردية أو المنظور؟

أذكر على سبيل المثل آلان هولنغهيرست، وطريقته في معالجة الزمن والبنية السردية التي يستخدمها للتعبير عن تجربة مروره. ومن ميشال ويلبيك تعلمت النسيج الواقعي الصارم والوفاء الدقيق لتجربة العصر. ومن فرجينيا وولف إحساسها بوحدة التجربة الداخلية والخارجية، وأنهما ليسا شيئين منفصلين بل كيان واحد متعدد الوجوه، والسعي للتعبير عن ذلك في اللغة.

Mike Coppola / GETTY IMAGES NORTH AMERICA / Getty Images via AFP
الكاتب ديفيد زالاي خلال تسجيل بودكاست "نادي كتاب سيرفِس 95" مع دوا ليبا في مكتبة نيويورك العامة، 15 سبتمبر 2025.

كيف أثرت خلفيتك الجغرافية، بين المجر وكندا وبريطانيا، وعيشك بين البلدان ليس فقط في موضوعات كتبك، بل أيضا في الإيقاع واللغة والإحساس بالزمن في كتابتك؟

خلفيتي المتعددة الجنسيات، وما تتضمنه من تنقل مستمر، أثرت بالطبع في كتابتي بطرق واضحة جدا. وكما قلت، ليس في المحتوى فقط، بل في المنظور أيضا. أشعر براحة أكبر حين أعتبر نفسي كاتبا أوروبيا رغم أنني لست متأكدا من أن "الكاتب الأوروبي" مصطلح قائم فعليا.

كثير من الكتاب لديهم مشاعر مختلطة تجاه الجوائز الأدبية، فهي تمنح شهرة لكنها قد تقيد طريقة تلقي الكتاب. بعد وصول "الجسد" إلى القائمة القصيرة لجائزة "بوكر"، هل نظرت إلى الرواية بطريقة مختلفة في ضوء هذا التقدير؟ أم أنك تفصل تماما بين الكتابة والجوائز؟

بالطبع أقدر الظهور الأوسع الذي تمنحه جائزة مثل "بوكر"، وأقدر الزيادة في المبيعات التي تنتج منها. لكنني أحاول أن أمنع النقاشات التي تثار حول الجوائز من التأثير في ما أكتبه مستقبلا. وهذا ليس سهلا دائما.

أشعر براحة أكبر حين أعتبر نفسي كاتبا أوروبيا رغم أنني لست متأكدا من أن "الكاتب الأوروبي" مصطلح قائم فعليا

فعندما كتبت "كل ما هو الإنسان"، لم أكن حتى مدركا لوجود ما يسمى "أزمة الذكورة"، لذلك لم تكن هناك أي رغبة في تناولها فكريا أو تجريديا، كل ما فعلته أنني كتبت عن العالم كما أراه، ببساطة ودون وعي نظري.
لكن حين نشر الكتاب، جرى تأطيره فورا في سياق تلك القضية والنقاش الدائر حولها، مما جعلني، وأنا أكتب "الجسد"، مدركا سلفا أنه سيقرأ جزئيا على الأقل في هذا الإطار. وهذا جعل من الصعب عليّ الكتابة بالتلقائية السابقة نفسها.

font change