الاستثمار في الإنسان والتكنولوجيا يصنع السلام والمستقبل

رسالة "مبادرة مستقبل الاستثمار" للنهوض بالاقتصاد وتمكين المجتمعات والبناء على التنمية والذكاء الاصطناعي

رويترز
رويترز
محافظ صندوق الاستثمارات العامة السعودي، ياسر الرميّان يلقي كلمته في افتتاح الدورة التاسعة من مبادرة مستقبل الاستثمار (FII)، في الرياض، 28 أكتوبر 2025.

الاستثمار في الإنسان والتكنولوجيا يصنع السلام والمستقبل

تجاوز منتدى "مبادرة مستقبل الاستثمار" (FII9) كونه حدثا سياسيا–اقتصاديا كبيرا ليصبح مساحة جيو-اقتصادية تبلور رؤية جديدة لـ"الشرق الأوسط"، تضع السلام والتنمية البشرية، والاستثمار في الانسان، والازدهار المستدام في صلب المعادلة، لتبتعد بذلك عن الرؤى القائمة على الهيمنة الأمنية أو المساومات السياسية المدمرة.

لم تعد "مبادرة مستقبل الاستثمار" مجرّد حاضنة لإبرام الصفقات الكبرى، بل تحوّلت إلى مختبر عالمي لإطلاق مبادرات تتجاوز حدود الأرقام، نحو تمكين المجتمعات وبناء تنمية مستدامة واقتصاد جديد يرتكز على المعرفة والابتكار والذكاء الاصطناعي. نموذج للتنمية يرسخ مفهوما متقدما للاقتصاد القائم على الارتقاء بالإنسان والتكنولوجيا معا، حيث تتقاطع الرؤية الاستثمارية مع القيم الإنسانية وصناعة المستقبل.

هذا ما ظهر مع الإعلانات التي رافقت انطلاقه رسميا في دورته التاسعة في الرياض اليوم. إن التضارب الجوهري في تعريف مستقبل المنطقة عاد ليفرض نفسه بقوة في الأشهر الأخيرة، فبين رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يسعى الى شرق أوسط قائم على السيطرة العسكرية وتصفية القضايا المحورية لضمان "أمنه" الأحادي، وبين رؤية القوى الإقليمية والدولية المتأرجحة بين السلام الاقتصادي المنفصل عن العدالة السياسية (كما في بعض الطروحات الأميركية)، تبرز في مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" رؤية 2030 كنموذج ثالث يربط بناء الدول القادرة على السلم، بالاستثمار في الإنسان، وحمايته اقتصاديا، وصحيا وأمنيا.

رويترز
جلسة رؤساء الشركات الدولية ، إحدى أبرز حلقات النقاش، في افتتاح مبادرة مستقبل الاستثمار (FII) في الرياض، ويبدو الرئيس التنفيذي لـ"جي.بي. مورغان" جيمي ديمون متحدثا، 28 أكتوبر 2025

ويجري العمل عبر "مبادرة مستقبل الاستثمار"، على إعادة رسم خريطة النفوذ الاقتصادي العالمي، لتتحول الرياض من عاصمة دولية للطاقة إلى مركز جيو-اقتصادي عالمي، وتصبح مختبرا لـ"عولمة جديدة" قوامها القدرات، والتكنولوجيا المتقدمة، والشراكات العابرة للمحاور السياسية.

كشف محافظ صندوق الاستثمارات العامة السعودي ياسر الرميان أن حجم الصفقات المبرمة في الدورات السابقة لمنتدى "مبادرة مستقبل الاستثمار" بلغت نحو 250 مليار دولار، ما يشير إلى الثقة العالمية المتزايدة في البيئة الاستثمارية السعودية

ما كشفه محافظ صندوق الاستثمارات العامة، ياسر الرميان، خلال جلسة الافتتاح عن بلوغ حجم الصفقات المبرمة في الدورات السابقة من "مبادرة مستقبل الاستثمار" نحو 250 مليار دولار، يشير إلى الثقة العالمية المتزايدة في البيئة الاستثمارية السعودية. وفي الوقت الذي تتراجع فيه المراكز التقليدية، يقدم المؤتمر نموذجا للاستثمار أكثر براغماتية وأقل أيديولوجية، يهدف إلى تحقيق قيمة طويلة الأجل. ودعا الرميان الحكومات والقطاع الخاص للعمل كشركاء لتحقيق الازدهار العالمي، مفصحا عن نمو الاستثمارات الأجنبية المتدفقة على السعودية بنسبة 24 في المئة خلال العام المنصرم، لتصل إلى 31.7 مليار دولار.

تحويل الطاقة إلى "بيانات ذكية"

تستغل الرياض قدراتها في موارد الطاقة لترسيخ مكانتها كمركز رئيس للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي، كما أشار الرئيس التنفيذي لشركة "غروك" (Groq)، جوناثان روس، فإن الفكرة تتمحور حول تحويل الطاقة إلى بيانات، من خلال جلب المعالجة الحاسوبية وإجراء عمليات الذكاء الاصطناعي داخل المملكة.

هذا التركيز لا يعزز فقط التنويع الاقتصادي (كما في رؤية 2030)، بل يمنح المملكة دورا مركزيا في الاقتصاد الرقمي المستقبلي، وتظهر الطموحات واضحة في مساعي شركات محلية كبرى لتصبح "ثالث أكبر مزود للذكاء الاصطناعي في العالم".

رويترز
لقطة من افتتاح الدورة التاسعة من "مبادرة مستقبل الاستثمار" في الرياض، 28 أكتوبر 2025

وتعكس التوجهات مرونة إستراتيجية حاسمة، إلى جانب الدور المحوري لـ"صندوق الاستثمارات العامة" الذي يعد "جسر" السيولة العالمية، مما يمنح المستثمرين الأمان الذي يبحثون عنه في سوق متقلبة. وتحدد النقاشات حول الذكاء الاصطناعي، والطاقة المستدامة، و"مفارقات الابتكار"، اتجاهات تدفقات رأس المال للسنوات المقبلة، وتدعم هدف المملكة في تعزيز وزنها في المؤشرات العالمية.

لم يعد النظام التجاري العالمي يلبي حاجات القرن الحادي والعشرين وفق ما تعتبر المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية نجوزي أوكونجو-إيويالا، داعية إلى تحديث القواعد لتواكب الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي. مشيرة إلى أن "تجارة الخدمات تنمو ضعف تجارة السلع، وأن 42 في المئة من نمو التجارة العالمية في النصف الأول من العام جاء من السلع المرتبطة بالذكاء الاصطناعي". وتبرز هذه الأرقام أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في دفع السعودية إلى موقع متقدم داخل الاقتصاد الرقمي العالمي، عبر المشاريع العملاقة في الطاقة، والبيانات، والبنية التحتية التكنولوجية.

"هيوماين" والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا

بالتزامن مع الجلسات، أعلنت مؤسسة مبادرة مستقبل الاستثمار (FII Institute) وشركة "هيوماين" السعودية للذكاء الاصطناعي شراكة إستراتيجية للتأكيد على مفهوم أن جوهر التنمية يكمن في ربط رأس المال بالتكنولوجيا لخدمة الإنسان. وتهدف "هيوماين" إلى ترسيخ مكانة السعودية كمركز عالمي للابتكار في الذكاء الاصطناعي، وتسريع التحول نحو اقتصاد المعرفة. كما أعلن طارق أمين الرئيس التنفيذي لشركة هيوماين أن منتج الذكاء الاصطناعي الخاص بالشركة "هيوماين 1" تم نشره بالفعل في مؤسسات الحكومة السعودية وفي برامج تجريبية لدى ثلاث جهات تابعة لصندوق الاستثمارات العامة، مع وجود خطط لتوسيع نطاق نشره عالمياً.


ويشدد ريتشارد أتياس، الرئيس التنفيذي لمؤسسة "FII"، على أن الشراكة مع "هيوماين" ستعمل على "صياغة مستقبل الذكاء الاصطناعي بطرق تدفع الابتكار، وتعزز الاقتصادات، وتضمن أن تخدم التكنولوجيا الإنسانية حقاً".
كما أعلنت "هيوماين" وشركة "كوالكوم تكنولوجيز" الأميركية، عن شراكة إستراتيجية نوعية تهدف لإطلاق بنية تحتية متقدمة للذكاء الاصطناعي في المملكة، هدفها إتاحة تقديم خدمات استدلال عالمية تمكِّن تشغيل النماذج الذكية وتوليد مخرجاتها بكفاءة عالية، من خلال أول منظومة ذكاء اصطناعي هجينة متكاملة تربط بين الحوسبة الطرفية والسحابية في العالم.

كما كشف خلال الجلسات رئيس شركة "أرامكو السعودية" أمين الناصر عن خطة استثمارية لتعزيز الذراع التقنية للشركة، تستهدف ضخ ملياري دولار في "أرامكو الرقمية" خلال العامين إلى الأعوام الثلاثة المقبلة.
مشيراً إلى أن استثمارات "أرامكو السعودية" في قطاع التكنولوجيا أثمرت قيمة تراكمية بلغت 6 مليار دولار خلال عامين.

خريطة طريق للصحة والانسان

على الجانب الاجتماعي والإنساني، وبالتزامن مع إطلاق مبادرات استثمارية وتكنولوجية عملاقة، جاء إعلان مؤسسة "مبادرة مستقبل الاستثمار" عن إطلاق "خريطة الطريق نحو مستقبل صحي للبشرية"، وتهدف هذه المبادرة إلى ترسيخ الوقاية والصحة الشاملة في صميم الأنظمة الصحية عالميا، وتدعو إلى توفير فحوص وقائية مجانية لكل مواطن، مرة كل عامين. يمثل هذا التحول اعترافا بأن 75 في المئة من تكاليف الرعاية الصحية ناتجة من حالات يمكن الوقاية منها، وبأن كل ما يُستثمر في الوقاية يمكن أن يولد ما يصل إلى 6 دولارات في شكل منافع اقتصادية.

على الصعيد الاجتماعي والإنساني، يتحول المؤتمر من حاضنة للصفقات الاستثمارية الكبرى، إلى مختبر لمستقبل الإنسان، مع إطلاق "خريطة الطريق نحو مستقبل صحي للبشرية"

وترتكز الخريطة على الوقاية، الفحص والتشخيص (عبر الذكاء الاصطناعي)، إدارة الصحة، وتنمية المهارات، مما يجعل الرعاية الوقائية "حقا للجميع، وليست امتيازا".

ويؤكد الرميان التخوف المتزايد من تأثير الذكاء الاصطناعي على العدالة عالميا، موضحا أن انعدام المساواة ليس مجرد فجوة اقتصادية بل "عائق أمام طموح الإنسان"، مشيرا إلى أن هذا الطرح يربط البعد الاقتصادي مباشرة بالعدالة الاجتماعية، سعيا لتطوير نظام عالمي أكثر إنصافا.

الترتيب لشرق أوسط جديد

في ظل التحديات الجيوسياسية، يكتسب المؤتمر ثقلا مختلفا عن السنوات الماضية، ليصبح ملتقى لربط الاستقرار السياسي بالاستثمار الاقتصادي، ويتطلب تحقيق شرق أوسط جديد تجاوز الرؤى المتضاربة من خلال الشرط السياسي المسبق وهو ترسيخ مبدأ أن السلام الاقتصادي لا يقوم من دون عدل سياسي، حيث لا يمكن أن يولد الشرق الأوسط الجديد إلا من خلال إنهاء الاحتلال وإيجاد مسار موثوق به نحو حق تقرير المصير للفلسطينيين، مما يمنح أي ترتيب إقليمي لاحق "شرعية" ضرورية للقبول الشعبي.

وكما أشارت أوكونجو-إيويالا، فإن النظام العالمي يحتاج إلى إصلاح، داعية القوى الإقليمية للعمل مع واشنطن وبكين لتحديث القواعد التجارية لتناسب الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، لضمان أن الجميع يمكنه الاستفادة من الفرص الجديدة.

رويترز
جانب من حضور الدورة التاسعة لمنتدى "مبادرة مستقبل الاستثمار" في الرياض، 28 أكتوبر 2025

من خلال فعاليات "مبادرة مستقبل الاستثمار"، يبدو واضحا أن الشراكة هي الأفضل للشرق الأوسط الجديد وليست القوة، فالاستقرار لم يعد يُشترى بالسلاح، بل يُبنى بالثقة والتنمية، وحين يكون الاقتصاد عادلا يصبح أداة سلام لا تناقض بينهما. فطرح "خطة بديلة" للمنطقة، يتطلب إعادة تعريف كاملة لمعنى القوة والنفوذ الذي لم يعد يُبنى على الخوف، بل على الثقة. وحين قال أحد المستثمرين الكبار في المؤتمر إن "المملكة تمثل المستقبل الأكثر اتزانا في عالم غير متزن"، كان يلخص واقعا جديدا، الرياض اليوم هي المدينة التي تبني المستقبل من دون أن تهدم الحاضر، وتحوّل فائض الطاقة إلى فائض أمل.

عبر "مبادرة مستقبل الاستثمار"، يتم تقديم دليل عملي على نموذج يجمع بين طموح النمو غير المشروط والمرونة في التنفيذ، وتسعى الرياض لترسيخ شرق أوسط جديد تقوده القدرات والأفكار الخلاقة، ويهدف إلى تطوير الإنسان، ويكون فيه الازدهار الشامل هو "مفتاح" الاستقرار، وليس القوة العسكرية.

font change

مقالات ذات صلة