أزمة المعنى في الفن المعاصر من نيتشه إلى "ما بعد الحقيقة"

شاهد على مأساته ومختبر لترميمه

Wikimedia Commons
Wikimedia Commons
فريدريتش نيتشه

أزمة المعنى في الفن المعاصر من نيتشه إلى "ما بعد الحقيقة"

يعد فريدريك نيتشه أحد أبرز الفلاسفة الذين دشنوا الفكر المعاصر بأزماته وتساؤلاته الجذرية حول الحقيقة والمعنى والقيمة. حين أعلن نيتشه "موت الإله"، لم يكن يقصد نفي الإيمان أو مهاجمة المعتقدات اللاهوتية فحسب، ولكن الإشارة إلى انهيار البنية الكلية التي كانت تمنح الإنسان معنى وغاية. إن هذا الإعلان لم يكن سوى التعبير الفلسفي عن بداية زمن جديد، يفقد فيه الإنسان يقيناته الموروثة، ويجد نفسه أمام فراغ رمزي يتهدد كل منظومات الفكر والأخلاق والجمال. فالحقيقة عند نيتشه ليست مطلقا ثابتا، إذ هي نتاج تأويل، والتأويل بدوره فعل إنساني يتغير بتغير العصور والمجتمعات واللغات.

من هذا المنظور، يصبح العالم ساحة لتصارع التأويلات، وتغدو الحقيقة نفسها نوعا من القوة، لا من المعرفة الخالصة. وهكذا، تحول نيتشه من فيلسوف ناقد للميتافيزيقا إلى موقظ لعصر الشك، فبدلا من أن يوجه الإنسان نحو اليقين، أعاده إلى ذاته ليصنع معناه بنفسه، وليؤسس قيمه في غياب أي مرجعية متعالية. لقد فتح نيتشه باب أزمة المعنى الكبرى التي ستطبع الفلسفة الحديثة بأكملها، من هايدغر إلى دولوز، ومن فوكو إلى دريدا.

أزمة الحقيقة

ومع انتقال الفكر الغربي من الوجودية إلى ما بعد الحداثة، تعمقت أزمة الحقيقة وتحولت إلى أزمة في اللغة والمعنى. فقد أعلن فلاسفة ما بعد الحداثة نهاية السرديات الكبرى، أي تلك القصص الفكرية التي كانت تبرر وجود الإنسان وتمنحه موقعا في التاريخ: سردية التقدم، سردية العقل، وسردية الخلاص. صار الشك هو المبدأ الجديد للمعرفة، وأصبح كل معنى نسبيا، وكل حقيقة مؤقتة، وكل هوية قابلة للتبدل. أما فوكو فبيّن أن الحقيقة ليست سوى إنتاج اجتماعي يخضع لعلاقات السلطة والمعرفة، وأن ما يقدم لنا على أنه "حقيقة" إنما هو حصيلة نظام من الخطابات التي تحدد ما يمكن قوله وما لا يمكن قوله. وقد دفعت التفكيكية هذا المنحى إلى أقصاه، حين جعلت اللغة فضاء للانفلات والتأجيل، بحيث لا يعود المعنى يمسك به، إذ يظل مؤجلا إلى ما لا نهاية.

تعيش الفنون المعاصرة اليوم حالة مستمرة من الزوال والأفول، تتلاشى فيها الحدود التقليدية بين ما يعتبر فنا وما يندرج تحت مسميات أخرى، مثل الديكور أو السلع التجارية. هذه الحالة ليست وليدة المصادفة، فهي نتاج لمسار طويل من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية التي طرأت على الفضاء الفني والثقافي منذ القرن العشرين. إذا ما أردنا فهم هذه الأزمات، فينبغي أن نعيد النظر في العلاقات المعقدة التي تربط بين الفنان، والغرض الفني، والمؤسسات التي تتحكم في صناعة الفن وتوجهاته.

أصبح الفن في هذا السياق رهينة الأزمات التي تلامس مفهوم الزوال والأفول وحتى الموت، تلك المفاهيم التي ترتبط بالفناء والاختفاء من جهة، وبالبعث والتجديد من جهة أخرى. حيث لم تعد الأعمال الفنية تنتج لتكون خالدة أو تحمل في طياتها رمزية عميقة تتحدى الزمن. ولكن على العكس، نعيش اليوم في عالم تتناقص فيه الهالة (l’aura) الخاصة بالأعمال الفنية، تلك الهالة التي تحدث عنها والتر بنيامين والتي عُدّت قبل زمن إعادة الإنتاج الميكانيكي جوهرية لتمييز العمل الفني عن الإنتاج الجماهيري، إذ بفقدان الهالة تترك القدسية المساحة للعرض، ويصير الحدث أهم من العمل في حد ذاته.

تعيش الفنون المعاصرة اليوم حالة مستمرة من الزوال والأفول، تتلاشى فيها الحدود التقليدية بين ما يعتبر فنا وما يندرج تحت مسميات أخرى، مثل الديكور أو السلع التجارية

أدت الثورة التكنولوجية إلى إضعاف هذه الهالة، حيث بات في إمكان أي شخص إعادة إنتاج الأعمال الفنية، مما أفقدها جزءا كبيرا من قيمتها الفريدة. ومع هذا الزوال التدريجي للهالة، يمكن القول إن الفن المعاصر، من ناحية ما، يعكس أزمة عميقة تتعلق بفقدان المعنى والقيمة التي كانت ترتبط بالعمل الفني في العصور السابقة.

وهكذا، تتجلى أزمة المعنى في الفلسفة المعاصرة كحركة مزدوجة: من جهة، تحرر من القيود التي فرضتها الميتافيزيقا والعقلانية القديمة، ومن جهة أخرى، ضياع في تعدد المعاني وتفكك المرجعيات. إن الإنسان ما بعد الحداثي، الذي فقد مركزه في الكون، لم يعد يعرف بأي مبدأ يسترشد، ولا بأي حقيقة يتمسك. لذلك أخذ الفن، بوصفه مجالا لتجسيد القيم والتمثلات، يعكس هذه الحيرة الوجودية، فأصبح بدوره فضاء لتجريب المعنى وضياعه.

AFP
زوار يتأملون بورتريه الفنان الفرنسي إيف كلان خلال معرض "الثورة الزرقاء" في متحف موموك بفيينا، 8 مارس 2007

مفهوم الزوال

عندما نفكر في الأعمال الفنية التي تجسد مفهوم الزوال والنهاية، تقفز إلى الذهن تجربة إيف كلاين، الذي كان يعبر في أعماله عن هذه المفاهيم بشكل غير مباشر. في أحد أشهر أعماله، "الوثب في الفراغ " (Le Saut dans le Vide)، نرى كيف يجسد كلاين مفهوم الزوال بوضوح. هذا العمل لا يمثل مجرد قفزة جسدية، وإنما هو تعبير فلسفي استعاري عن الهروب من القيود التقليدية للفن نحو حالة من الفراغ، تلك الحالة التي يمكن اعتبارها انعكاسا لأزمة الفن نفسه. القفز نحو الفراغ هو وثب نحو المجهول، نحو النهاية التي قد تكون بداية جديدة، أو ربما زوالا نهائيا لكل تجليات المعنى بما فيها الجسدي.

هنا تظهر العلاقة الوثيقة بين الفن المعاصر وفكرة الزوال: هل يمكن الفن أن يستمر إذا ما فقد قدرته على تحدي الفناء؟ أم أن نهاية الفن هي شرط أساس لولادة شيء جديد؟ أم أن الأمر يتعلق بما يخبرنا عنه أدورنو، قائلا: "تظهر البشرية دون وعي رغبتها في اتباع وهم الأشياء غير المعروفة أبدا، لكن هذا الوهم يشبه الموت؟".

AFP
عمل فني بعنوان «النافورة» للفنان مارسيل دوشان في افتتاح معرض «دوشان، مان راي، بيكابيا» في متحف "تيت مودرن" في لندن، 19 فبراير 2008

في هذا السياق يمكن فهم الأعمال الفنية المعاصرة مثل"النافورة" لمارسيل دوشان أو "صندوق بريلو" لأندي وارهول، بوصفها علامات على انزياح الفن عن دوره التقليدي كمصدر للجمال أو التعبير الروحي، نحو كونه سؤالا مفتوحا حول ماهيته ذاتها. إن "النافورة" [المبولة] هنا ليست مجرد غرض فني في شكله الحداثي والتقليدي، ولكنها تعليق على أزمة الهوية الفنية في عصر يتحكم فيه السوق والمؤسسات، حيث يعمد الفنان لاستفزاز "الفن" وطبيعته، ويسائل وضعه المؤسساتي وراهنيته أمام التحول القيمي والإستطيقي والفكري الذي يعرف العصر المنتمي إليه. وقد جاء وارهول بدوره، عبر صيغ التكرار، ليؤكد هذا الاتجاه، حيث حول المنتجات التجارية اليومية إلى أعمال فنية، مما جعل حدود الفن تتلاشى بشكل كامل.

يمكن فهم الأعمال الفنية المعاصرة بوصفها علامات على انزياح الفن عن دوره التقليدي كمصدر للجمال أو التعبير الروحي، نحو كونه سؤالا مفتوحا حول ماهيته ذاتها

بينما يضع جوزيف كوسوث المتلقي أمام أزمة انكشاف للمعنى في تمثلات العمل وهو يستبصره في حالات ثلاث: المادية والمعجمية والصورية، مثلما يجعل من "الكرسي" حاضرا في شكله المادي (الخشبي) والتصويري الفوتوغرافي المعلق على الجدار والتعريف المعجمي المأخوذ من القاموس... فأي المعاني هي المعنى الحقيقي للشيء المسمى "كرسيا"، وأي منها يتحول الى حقيقته؟ في الوقت الذي لطخ روبرت روشنبورغ لوحة الرئد التحديث الأميركي الفني دو كونينغ بالأبيض بشكل كامل، كأنه عبر اللعب هذا يلغي كل صيغ المعاني القديمة، ليجعل من اللوحة طرسا فارغا يمكن ملؤه بما نشاء من المعاني.

وضمن فوران المعاصرة ذاك، برزت تجارب حاولت المزج بين مجموعة من التيارات الفنية وعمدت إلى إحداث تداخل شكلي بينها، حتى تعمد لإرباك الحدود الفاصلة بينها في مقصد غايته إتاحة للمتلقي الفضاء الأوسع للتأويل، فقد انتقلنا من فعل التفسير إلى حرية القراءة الفردية للمنجز، الذي بات مساحة مفتوحة على كل احتمالات التأويل المفرط. ولكن هل يعني هذا أن الفن فقد قدرته على المقاومة؟ أم أنه فقط يغير من طبيعته ليواكب التحديات الجديدة التي يفرضها العصر؟

لقد تحول العمل الفني إلى مرآة لأزمة الحقيقة: ما الذي يجعل من هذا الشيء "فنا"؟ أهو جماله؟ فكرته؟ أم مكان عرضه وسياقه؟ هذه الأسئلة التي طرحها الفن المعاصر ليست إلا ترجمة حسية للفلسفة التي باتت تشك في كل مسلمة وتعيد النظر في كل قيمة.

Reuters
امرأة تمر بجانب عمل آندي وارهول، "صناديق بريلو"، في افتتاح معرض استعادي لأعماله في "تيت مودرن" بلندن، 5 فبراير 2002

التحولات الكبرى

يأخذنا هذا الاشكال إلى مفهوم الأزمة ذاته، وهو مفهوم يرتبط بشكل وثيق بالتحولات التاريخية الكبرى، فهي، مثلما يصفها إدغار موران، "تنامي الفوضى وغياب اليقين ضمن نظام ما (أكان فرديا أم جماعيا)". كما أن الأزمة ليست فقط تعبيرا عن انهيار القيم الفنية والجمالية، وإنما هي أيضا مرحلة انتقالية نحو نظام جديد.

يوضح الفيلسوف جورج ديكي في نظرياته أن المؤسسات الفنية هي التي تتحكم في تحديد ما يعتبر فنا، وما هو خارج عن هذا الإطار. وفي هذا السياق، تصبح الأزمة جزءا من النظام الذي يحكم هذه المؤسسات، حيث يتحول الفن إلى سلعة تتحكم فيها قوى السوق والترويج الإعلامي. وهنا يكمن التناقض: فبينما يزعم الفن أنه ينبع من الإبداع الحر والتفرد، نجد أنه في الحقيقة خاضع لآليات السوق والتصنيع، تماما كأي منتج آخر.

لهذا غالبا ما تكون الأزمات في الفن نتيجة لنقد عميق للنماذج الراسخة، مما يتسبب في نقطة تحول أو تمزق في الطريقة التي ينظر بها إلى الفن وممارسته. على سبيل التمثيل، سعت الحركات الطليعية في القرن العشرين إلى كسر التقاليد الأكاديمية وإعادة تعريف الفن، مما يمثل نقاط تحول مهمة في تاريخ الفن. مثلما سعت بوادر الفن المعاصر لإعلاء قيمة الجسد، تبعا لذلك المد النيتشوي الذي وجد لنفسه مسارا فجا في خطابات ما بعد الحربين العالميتين. إذ بعد إعلانه "موت الإله"، سوف تتأثر فسلفات بهذا الخطاب لتعلن موت الإنسان وموت الحقيقة وموت التاريخ، وصولا إلى موت الفن نفسه.

يصبح الفن شريكا للفلسفة في تفكيك المعنى، لكنه أيضا شاهد على عطش الإنسان إلى إعادة اكتشاف معنى جديد، معنى لا يفرض من الخارج وإنما يبنى من الداخل

وتلعب الظروف التاريخية والفلسفية والاجتماعية دورا حاسما في هذه التطورات والميتات. إذ تؤثر الاضطرابات السياسية والتغيرات الاجتماعية والتقدم التكنولوجي بشكل عميق على الممارسات والنظريات الفنية. فقدمت الثورتان الصناعية والرقمية مواد وتقنيات ومفاهيم جديدة، مما أدى باستمرار إلى إعادة تشكيل المشهد الفني المعاصر. باختصار، تؤكد فلسفة نهاية الفن، التي عبر عنها هيغل فلسفيا في المقام الأول، التغيير العميق في دور الفن وتصوره عبر التاريخ. وتستمر هذه الأفكار في تحفيز التفكير حول طبيعة الفن ووظيفته في العالم المعاصر، وهو الذي يؤثر على الممارسات الفنية والنظريات النقدية.

من خلال هذا التحول، يصبح الفن شريكا للفلسفة في تفكيك المعنى، لكنه أيضا شاهد على عطش الإنسان إلى إعادة اكتشاف معنى جديد، معنى لا يفرض من الخارج وإنما يبنى من الداخل، من التجربة الفردية والجماعية. غير أن هذه المسافة بين المعنى واللا معنى هي التي تصنع قلق الإنسان المعاصر، ذلك القلق الذي جعل الفلاسفة المعاصرين يتحدثون عن "زمن الفراغ" أو "زمن ما بعد الحقيقة".

AFP
الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في باريس خلال السبعينيات

يرتبط الفن، في هذا المعنى، بشكل وثيق بأسطورة العنقاء التي تنبعث من رماد احتراقها. فرغم مخاوف غوستاف مورو من تبسيطية التصوير الصباغي لدى ماتيس، الذي من شأنه أن يقود إلى نهاية الفن الصباغي على حد قوله، ظل هذا الشكل الفني قائما إلى يومنا هذا، مغيرا شكله وجلده فحسب. ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الأعمال الفنية المعاصرة بوصفها جزءا من صناعة فنية ضخمة، تتحكم فيها المؤسسات والجماعات الفنية الكبرى. وهذه الصناعة ليست مجرد وسيلة لتسويق الفن، لكنها أيضا أداة لإعادة تشكيله، حيث تفرض معايير جديدة على الفنانين من أجل ملاءمة متطلبات السوق.

من صانع حرّ إلى جزء من ماكينة

في ظل هذه الظروف، يتحول الفنان من صانع حر إلى جزء من ماكينة إنتاجية كبيرة. وقد يكون هذا التغيير أدى إلى انحسار المعايير الجمالية التقليدية، حيث أصبح من الصعب التمييز بين ما هو فن حقيقي وما هو مجرد سلعة ترويجية.

دخل العالم المعاصر مرحلة جديدة من أزمة المعنى مع ظهور ما يعرف اليوم بـ"ثقافة ما بعد الحقيقة". في هذا العصر، لم تعد الحقيقة قيمة معرفية تبحث من أجل ذاتها، ولكن تحولت إلى أداة ضمن صراعات إعلامية وسياسية واقتصادية. فمع صعود وسائل التواصل وتدفق المعلومات الزائفة، صار من الصعب التمييز بين الصدق والكذب، وبين الخبر والتحليل، وبين الواقع والتمثيل. أصبحت "الحقيقة" خاضعة لمزاج السوق الإعلامية، توجه وفق رغبات الجمهور، وتختزل في الانطباع والعاطفة. ومن ثم، لم تعد الحقيقة معيارا للقول، إذ أصبح القول ذاته معيارا للحقيقة.. فهذه الأخيرة تقيم في الخطاب، الذي بدوره تحدده وتؤطره "السلطة" التي تقع في يد المؤسسة.

AFP
الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في منزله قرب باريس، 6 يناير 2001

وهذه الحالة ليست حادثة عابرة، وإنما هي نتيجة منطقية لمسار فلسفي طويل بدأ مع نيتشه وامتد عبر فوكو ودريدا حتى زمننا الرقمي. فحين فقد الإنسان إيمانه بالمعنى المتعالي، وحين تحطمت المرجعيات الكبرى التي كانت تنظم رؤيته للعالم، لم يبق له سوى ذات متشظية تبحث عن معنى في فضاء من الصور والكلمات المتداخلة. انتقلنا من أزمة الحقيقة في الفلسفة إلى أزمة الثقة في الواقع، ومن الشك في المعنى إلى الشك في الواقع نفسه.

العالم الذي فقد إيمانه بالحقائق الكبرى، لم يفقد حاجته إليها، إذ بات يبحث عنها في أشكال جديدة: في الفن، في التجربة الجمالية، في الذوق، وفي الحياة اليومية

إن أزمة المعنى المعاصرة تعيدنا في النهاية إلى سؤال الإنسان ذاته: ماذا يعني أن نعيش في عالم بلا مرجعيات؟ أن نفكر بلا يقين؟ أن نبدع في غياب فكرة الحقيقة؟ لعل الفن هو المجال الوحيد الذي لا يزال يتيح للإنسان إمكان اختبار هذا الفراغ دون أن يسقط فيه. فالفن يفتح مجالات للسؤال ولا يقدم أجوبة جاهزة. إنه يحول أزمة المعنى إلى تجربة جمالية، والضياع إلى لغة، والفوضى إلى شكل. في هذا المعنى يمكن القول إن الفن المعاصر هو ابن هذه الأزمة ووارثها، لكنه في الوقت ذاته محاولة مستمرة لتجاوزها.

تحيا الفنون المعاصرة إذن، في حالة دائمة من الأزمات، تلك الأزمات التي تعبر عن نهاية الأنظمة القديمة وبداية جديدة. فالأزمة ليست نهاية بقدر ما هي فرصة للتجديد والإبداع. في هذا السياق، يمكن أن يكون الزوال هو القوة الدافعة التي تدفع بالفن نحو آفاق جديدة، حيث يتحول إلى تجربة فلسفية تتجاوز حدود المادة والزمن. ويعدّ خطاب الموت/النهاية، في هذه الحالة، دعوة الى التجديد، والانعتاق من الأزمنة التي يبلغها الفن في حقبة معينة، بعد ان يستوفي شروطه الوجودية ومواضيع عصره. والأزمة هنا هي المدعاة إلى القفز، إلى الانتحار مجازا من أجل الانبعاث من جديد في بدن مختلف. الأزمة هي عجلة تطور التاريخ، ودافعة الفن إلى الأمام. الشكل الأولي للموت من أجل الحياة. لا يعني إذن الموت، نهاية مطلقة، وإنما حياة أخرى، لكنها لا تقيم في عالم مفارق وأخروي، ولكن تقع في هنا والآن، في الدنيوي باستمرار.

AFP
الفنان الأميركي جوزيف كوسوث خلال معرضه «السؤال» في صالة "ألمين ريش" بباريس، 15 سبتمبر 2025

تجربة وجودية

فمنذ منتصف القرن العشرين، أصبح العمل الفني تجربة وجودية أكثر منه غرضا ماديا. إذ أنه لا يسعى إلى الجمال بقدر ما يسعى إلى الكشف، ولا يهدف إلى الإقناع بقدر ما يدعو إلى التساؤل. فتحول الفنان من مبدع للصور إلى صانع للمعاني، ومن ناقل للعالم إلى منقب في طبقاته المخفية. لذلك، فإن الفن في زمن ما بعد الحقيقة يرمي إلى جعل المعنى نفسه موضوعا للتفكير، أي أنه يمارس الفلسفة عبر الصورة، ولا يسعى إلى إقرار معنى محدد معطى سابقا وثابتا لا يبتغي النقد.

غير أن هذه الحرية الجديدة التي يمنحها غياب الحقيقة المطلقة ليست خالية من الأخطار. فحين تمحى الحدود بين الصدق والزيف، وبين الواقع والخيال، يتهدد الوعي نفسه بفقدان قدرته على التمييز. لذلك يواجه الفن والفكر اليوم تحديا مزدوجا: كيف يمكن الدفاع عن المعنى دون العودة إلى الدوغمائية القديمة؟ وكيف يمكن الاحتفاظ بالحرية دون السقوط في العبث؟ هذا هو السؤال الذي تركه نيتشه مفتوحا، والذي لم يزل الفكر المعاصر يسعى للإجابة عنه دون جدوى نهائية.

أزمة المعنى ليست مجرد ظاهرة فكرية، فهي تجربة وجودية يعيشها الإنسان في كل لحظة من حياته المعاصرة. فالعالم الذي فقد إيمانه بالحقائق الكبرى، لم يفقد حاجته إليها، إذ بات يبحث عنها في أشكال جديدة: في الفن، في التجربة الجمالية، في الذوق، وفي الحياة اليومية. وهكذا، يصبح الفن المعاصر شاهدا على مأساة المعنى، ومختبرا مستمرا لمحاولة ترميمه.

font change

مقالات ذات صلة