ما أسرار اشتعال الجبهة التجارية الأميركية الكندية؟

هل التوقيت يرتبط بقلق ترمب من جلسة المحكمة العليا المقبلة؟

المجلة
المجلة

ما أسرار اشتعال الجبهة التجارية الأميركية الكندية؟

في قرار مفاجئ، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2025، وقف كل المفاوضات التجارية مع كندا، متهما حكومة مقاطعة أونتاريو بـ"سلوك غير مقبول" بسبب إعلان تلفزيوني انتقد التعريفات الجمركية الأميركية.

للمفارقة، ومن جهة أخرى، تبدو العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين تتجه الى انفراج نسبي في ضوء الزيارة المرتقبة للرئيس ترمب الى بكين، ولا سيما بعدما أعلن وزير الخارجية الصيني وانغ يي، في 27 أكتوبر/تشرين الأول، التوصل إلى اتفاق إطاري في محادثات كوالالمبور لتسوية عادلة للقضايا الاقتصادية والتجارية، مع استمرار العمل على تفاصيل نهائية تشمل الرسوم الجمركية وقضايا حساسة أخرى، تمهيدا للقاء مرتقب بين ترمب والرئيس الصيني شي جين بينغ.

كما أنه أعلن اليوم عن توصل سيول وواشنطن الى اتفاق تجاري واسع النطاق يشمل خصوصا الرسوم الجمركية على السيارات، بحسب ما اعلن كبير مستشاري الرئيس الكوري الجنوبي كيم يونغ بيوم، كما نقلت وكالة "فرانس برس". واوضح ان "الاتفاق الذي ابرمه الرئيسان دونالد ترمب ولي جاي ميونغ ينص على خفض الرسوم الجمركية المتبادلة على السيارات الى 15 في المئة، اضافة الى خطة لاستثمارات كورية جنوبية بقيمة 350 مليار دولار في الولايات المتحدة بينها 200 مليار نقدا و150 مليارا للتعاون في قطاع بناء السفن".

يُشار إلى أن الولايات المتحدة وكندا كانتا تجريان مفاوضات منذ أسابيع حول اتفاق محتمل لقطاعي الصلب والألومنيوم.، لكن قرار ترمب، الذي أُعلن عبر منصة "تروث سوشيال"، يعكس تصعيدا في التوترات بين البلدين المتحالفين تاريخيا، ويثير تساؤلات حول مستقبل اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA)، المقررة مراجعتها السنة المقبلة.

واللافت أن هذا التحول الدراماتيكي يأتي بعد أسبوعين من زيارة رئيس الوزراء الكندي مارك كارني للبيت الأبيض، في محاولة لتخفيف الرسوم الجمركية الأميركية، مما يزيد تعقيد العلاقات الاقتصادية بين الجارتين في أميركا الشمالية.

"إعلان ريغان" التلفزيوني الذي أشعل الأزمة

قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب وقف المفاوضات التجارية مع كندا جاء ردا مباشرا على حملة إعلانية أطلقتها حكومة مقاطعة أونتاريو، بقيادة رئيس وزراء المقاطعة دوغ فورد، تنتقد التعريفات الأميركية على الصلب والألومنيوم وقطع السيارات.

قرار ترمب وقف المفاوضات التجارية مع كندا جاء ردا على حملة إعلانية أطلقتها حكومة أونتاريو، تنتقد التعريفات الأميركية على الصلب والألومنيوم وقطع السيارات

الإعلان استشهد بكلمات الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان، محذرا من أن "الرسوم الجمركية المرتفعة تثير ردود فعل انتقامية وتشعل حروبا تجارية". وعلّق فورد قائلا: "سمعت أن ترمب شاهد الإعلان ولم يكن سعيدا".

اتهم ترمب كندا بـ"الاحتيال"، مستندا إلى بيان "مؤسسة ريغان الرئاسية"، التي وصفت الإعلان بأنه يشوه آراء ريغان.

وأشارت المؤسسة إلى أن إعلان حكومة أونتاريو "استخدم تسجيلات صوتية ومرئية انتقائية" لريغان، وإن المؤسسة تراجع خياراتها القانونية. وقالت: "يشوّه الإعلان الخطاب الإذاعي الرئاسي (الذي ألقاه ريغان عام 1987)، ولم تطلب حكومة أونتاريو، ولم تحصل على إذن لاستخدامه وتعديله".

ووصف ترمب، عبر منصة "تروث سوشيال"، الإعلان بـ"السلوك الفاضح"، معلنا إنهاء المفاوضات التجارية مع كندا فورا، ومعتبرا أن التعريفات ضرورية للأمن القومي والاقتصاد الأميركي. كما أعلن في 25 أكتوبر/تشرين الأول، "بسبب تحريفهم الخطير للحقائق وتصرفهم العدائي، سأرفع الرسوم الجمركية على كندا بنسبة 10 في المئة إضافية فوق ما يدفعونه الآن". ولم يتضح ما هي السلطة القانونية التي سيستخدمها ترمب لفرض هذه الرسوم الإضافية على الواردات. وليس معروفا موعد سريان الزيادة، وما إذا كانت ستطبق على كل السلع الكندية. لكن فورد دافع في البداية عن استمرار الحملة، مشيرا إلى أن "ريغان كان يؤمن بوحدة القوتين"، لكنه قرر إيقاف الإعلان بدءا من الإثنين لاستئناف المحادثات، مع السماح بعرضه خلال عطلة نهاية الأسبوع أثناء مباريات بطولة البيسبول (World Series).

ترمب انتقد ذلك قائلا "كان يجب سحب إعلانهم على الفور، لكنهم سمحوا بعرضه الليلة الماضية خلال بطولة -وورلد سيريز- للبيسبول، رغم علمهم أنه زائف".

تحولت العلاقة مع الولايات المتحدة من تحالف استراتيجي إلى عبء ثقيل

رئيس الوزراء الكندي مارك كارني

رئيس الوزراء الكندي كارني، كان زار البيت الأبيض مرتين لتخفيف الرسوم، وألغى معظم التعريفات التي فرضها سلفه ترودو على الواردات الأميركية. وخلال جولته الآسيوية، أكد كارني استمرار المفاوضات البناءة حول الصلب والألومنيوم والطاقة، لكن مستشار البيت الأبيض كيفن هاسيت أشار إلى إحباط ترمب من تعثر المحادثات، واصفا التفاوض مع كندا بـ"الصعب للغاية".

كندا تقرر مواجهة سياسة ترمب التجارية

أثار قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب وقف المفاوضات التجارية مع كندا موجة استياء واسعة في أوتاوا. وصف رئيس الوزراء الكندي مارك كارني العلاقة مع الولايات المتحدة بأنها تحولت من "تحالف استراتيجي" إلى "عبء ثقيل". وأكد استعداد كندا لاستئناف المحادثات التجارية مع واشنطن "عندما تكون الأخيرة جاهزة"، مشيرا إلى التقدم الكبير الذي تحقق في المفاوضات السابقة.

.أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب أثناء اجتماعه مع رئيس الوزراء الكندي مارك كارني، في البيت الأبيض، 7 أكتوبر 2025

ومع ذلك، شدد كارني على أن كندا تعمل الآن على تنويع أسواقها التصديرية لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة.

رسوم من ثلاثينات القرن المنصرم

انتقد كارني الرسوم الجمركية الأميركية، التي وصفها بأنها بلغت مستويات لم تُرَ منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، مؤكدا أن التغيرات الجذرية في السياسة التجارية الأميركية تستلزم إعادة صوغ استراتيجيا كندا الاقتصادية. وأضاف: "لا يمكننا التحكم بسياسات واشنطن التجارية، لكننا لن نسمح بالوصول غير العادل إلى أسواقنا إذا فشلت المفاوضات".

كارني كان قد حذر في مارس/آذار 2025 من أن التكامل الاقتصادي التقليدي بين البلدين "انتهى"، داعيا إلى إعادة تشكيل الاقتصاد الكندي بشكل جذري.

من المعلوم أن إدارة الرئيس ترمب تترقب ببالغ القلق جلسة المحكمة العليا في 5 نوفمبر المقبل، والتي ستنظر في شرعية الرسوم الجمركية الواسعة التي فرضتها الإدارة بموجب قانون الطوارئ الاقتصادية الدولية (IEEPA)

وعلى الرغم من حضور كل من ترمب وكارني عشاء منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك) في كوريا الجنوبية، أكد ترمب عدم وجود خطط للقاء كارني. ووصفت الصحافة الكندية قرار ترمب بـ"المؤسف وغير المتوقع"، محذرة من تأثيره على العلاقات الثنائية التي تدعم تجارة بقيمة تريليونات الدولارات سنويا. ودعت إلى حوار هادئ بدلا من "التصعيد الدراماتيكي"، مشيرة إلى أن كندا تواجه "صراعا جديدا" مع ترمب.

تأييد لترمب وتحذيرات اقتصادية

أثار قرار الرئيس دونالد ترمب وقف المفاوضات التجارية مع كندا وفرض رسوم جمركية إضافية تباينا في الآراء داخل الولايات المتحدة. وأيد البيت الأبيض القرار، حيث أكد وزير الخارجية ماركو روبيو تعليق جميع المحادثات التجارية. في المقابل، انتقد السناتور الديمقراطي غاري بيترز القرار واصفا إياه بـ"الاستعراض المتهور"، محذرا من أضراره على الولايات الحدودية التي تعتمد على التجارة مع كندا.

.أ.ف.ب
قوات وزارة الأمن الداخلي الأميركية تقف عند الجسر المؤدي إلى كندا، في نياغارا، نيويورك، الولايات المتحدة الأميركية، 22 نوفمبر 2022

انقسمت الصحافة الأميركية حول القرار. فقد وصفته صحيفة "وول ستريت جورنال" بأنه "خطوة جريئة لحماية الاقتصاد الأميركي"، بينما حذرت شبكة "إن بي آر" من أنه "آخر ما تحتاجه البلدان"، مشيرة إلى أن التعريفات قد ترفع أسعار الطاقة والسلع. كما أكد المحلل جاك بوفينغتون من جامعة دنفر أن التصعيد يهدد "العلاقة الاقتصادية الحيوية" بين البلدين.

قرار المحكمة العليا الأميركية قريبا

رأت بعض وسائل الإعلام أن القرار يعكس أسلوب ترمب الشخصي أكثر من كونه تحركا اقتصاديا بحتا، مشيرة إلى أن توقيته يرتبط بقلق إدارته من جلسة المحكمة العليا المقبلة في 5 نوفمبر/تشرين الثاني، التي قد تحد من سلطاته في فرض الرسوم الجمركية.

ومن المعلوم أن إدارة الرئيس ترمب تترقب ببالغ القلق جلسة المحكمة العليا في 5 نوفمبر المقبل، والتي ستنظر في شرعية الرسوم الجمركية الواسعة التي فرضتها الإدارة بموجب قانون الطوارئ الاقتصادية الدولية (IEEPA). ففي حال أيدت المحكمة قرار المحاكم الأدنى بأن الرئيس تجاوز سلطاته، فإن ذلك قد يُقيد السلطات التنفيذية في فرض الرسوم الجمركية الشاملة، ويُعيد التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في مجال التجارة الدولية. وقد يؤدي القرار إلى إلغاء جزء كبير من الرسوم الجمركية، مما يهدد بتقويض الأداة الرئيسية التي يعتمد عليها ترمب لـممارسة الضغط التجاري والدبلوماسي على الشركاء والخصوم على حد سواء، وقد يجبر الإدارة على رد تريليونات الدولارات كرسوم تم تحصيلها. 

للمزيد إقرأ: التعريفات الجمركية في انتظار كلمة المحكمة العليا الأميركية

هذا ليس مجرد تحدٍ قانوني، بل تهديد مباشر لأجندة "أميركا أولا". إنها معركة قانونية مصيرية قد تحد من صلاحيات الرئيس في السياسة التجارية وتخلف تداعيات اقتصادية وسياسية كبرى.

توقعات مستقبلية: تصعيد تجاري 

في النتيجة، ينذر توقف المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة وكندا بتباطؤ التجارة الثنائية، مع استمرار التعريفات الجمركية المرتفعة على الصلب والألومنيوم، مما قد يرفع أسعار السلع للمستهلكين في البلدين.

في النهاية، قد يعيد هذا التوتر تشكيل التحالفات الاقتصادية في أميركا الشمالية، محولا الجيران المتعاونين إلى منافسين أكثر حدة، ومذكرا بأن السياسة التجارية سلاح ذو حدين

وقد يواجه الاقتصاد الكندي، الذي يعاني انكماشا، أخطارا إضافية، بما في ذلك خسارة عشرات الآلاف من الوظائف. كما يُحتمل أن يلجأ ترمب إلى فرض عقوبات أو تعريفات إضافية كأداة ضغط.

تدفع هذه الأزمة كندا الى تسريع تنويع أسواقها التصديرية، مع التركيز على تعزيز الشراكات التجارية في آسيا وأوروبا. وقد أعلن رئيس الوزراء كارني خطة لمضاعفة الصادرات خارج الولايات المتحدة، لكن الحكومة الكندية قد تواجه ضغوطا داخلية من المصنعين والمصدرين لاستئناف الحوار أو تقديم تنازلات لتهدئة الموقف الأميركي.

لقد بات مستقبل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (USMCA)، المقررة مراجعتها في 2026، موضع شك، مع مخاوف من نزاع تجاري طويل الأمد قد يهدد الاتفاقية. وحذر الخبير الاقتصادي الأميركي جوزف ستيغليتز الحائز جائزة نوبل للاقتصاد، من أن "أي صفقة مع ترمب لا تستحق الحبر"، مشيرا إلى انعدام الثقة المتبادل كأخطر العواقب.

.أ.ف.ب
عمال يحملون بكرات الحديد، في معمل للصلب في مدينة هاملتون الكندية، 9 يونيو 2025

لا شك أن قرار ترمب ليس مجرد رد فعل عابر، بل إشارة إلى دخول العلاقات الاقتصادية بين البلدين مرحلة من "عدم اليقين". وستضطر كندا للتكيف مع واقع جديد، وتعزيز الشراكات الدولية لتقليل الاعتماد على واشنطن.

محللون في "بوليتيكو" يرون أن هذا التصعيد قد يكون مؤقتا، مدفوعا بضغوط الأعمال المشتركة، لكن النزاع يعكس تحولا أعمق من خلافات تجارية إلى صراع سياسات، مهددا استقرار التجارة القارية.

في النهاية، قد يعيد هذا التوتر تشكيل التحالفات الاقتصادية في أميركا الشمالية، محولا الجيران المتعاونين إلى منافسين أكثر حدة، ومذكرا بأن السياسة التجارية سلاح ذو حدين.

font change

مقالات ذات صلة