باحثة أميركية تقتفي أثر البدو والتهجير القسري وطبقات اللجوء

دراسة أنثروبولوجية تتحدى النظرة الاستشراقية

غلاف كتاب "من الجمل الى الشاحنة"

باحثة أميركية تقتفي أثر البدو والتهجير القسري وطبقات اللجوء

تحيل أطروحة الباحثة الأميركية داون تشاتي "من الجمل إلى الشاحنة: تطور حياة البادية في شمال الجزيرة العربية"(دار الرافدين- ترجمة بدر الحربي) إلى خرائط توزع القبائل البدوية في شمال الجزيرة العربية والتحولات التي طرأت على نمط عيشها، وذلك في قوس مفتوح من الصحراء إلى تخوم الأرياف والمدن.

يعتني هذا البحث الميداني بفكرة التكيف البدوي وفقا لمسارات الحداثة ومتطلباتها، وذلك بعدسة مفتوحة باتساع نحو أماكن توزع البدو وتوثيق مصائرهم في ترحالهم من مكان إلى آخر، بوصفهم أقواما عابرة للحدود ذهابا وإيابا، والتأرجح بين ضفتي الاستقرار والترحال، والتهميش والتجنيس أو ثنائية البدو والحضر، والفروقات الانثروبولوجية بين مربي الأبل ومربي الغنم لجهة المرتبة الطبقية بينهما. فالبدو العريقون هم مربو الإبل، أولئك الذين عملوا تاريخيا على تأصيل أعراف قبلية صارمة تميزهم عن رعاة الغنم، بما يخص القوة والنفوذ المالي والهيبة القبلية. لكن الصورة المستقرة للبدو ستهتز تحت ضربات النظام البيئي للمنطقة بتأثير التقسيم الإداري والسيطرة الاستعمارية، وتطوير البنية التحتية (الطرق والتلغراف)، ووسائل النقل الحديثة، وقبل ذلك ثارات الدم التي كانت تستيقظ بين فترة وأخرى، مما جعل نظام القبائل يشكل عقبة أمام الحداثة كأنه "دولة داخل الدولة"، ومشكلة عالقة تاريخيا تعيق عملية توطين القبائل والانتقال من الاقتصاد الرعوي إلى الاقتصاد الزراعي.

انتشار وتقييد

ستزداد الفجوة اتساعا بانتشار الإتاوة "الخاوة" التي اعتمدها البدو مقابل حماية حقول المزارعين أو تأمين عبور القوافل التجارية أو حملات الغزو. هكذا شهد القرنان الثامن عشر والتاسع عشر توسعا هائلا لقبيلتي عنزة وشمر -على نحو خاص- في اتجاه الشمال الغربي نظرا لضعف قبضة الدولة العثمانية المركزية، ولم يتوقف زحف هاتين القبيلتين إلا في المائة عام الأخيرة، وذلك بفضل تأسيس حكومة مركزية مستقرة في ظل الانتدابين الفرنسي والبريطاني ثم سيطرة الحكومات الوطنية على شمال الجزيرة العربية، فاستعيد الأمن و"قيدت القوة السياسية والعسكرية للبدو بصرامة".

تطيح تشاتي ما علق في الذاكرة الجمعية مما راكمته مخيلة المؤرخين والرحالة والشعراء عن البداوة لتحيزها في إضفاء تصورات تتسم بالمبالغة

تطيح داون تشاتي ما علق في الذاكرة الجمعية مما راكمته مخيلة المؤرخين والرحالة والشعراء عن البداوة لتحيزها في إضفاء تصورات تتسم بالمبالغة، سواء بمديح العظمة الغابرة للأمة أو بهجاء عنف سلوكهم، مستثنية كتابات المؤرخ السويسري يوهان بوركهارت الذي دون رواية متوازنة، حيث رأى أن "عيوب البدو ومحاسنهم متكاملة ومرتبطة ببيئتهم وتاريخهم". العبور من زمن الإبل إلى زمن الشاحنة، احتاج من الباحثة إلى زيارات ميدانية متتالية لمخيمات البدو في سوريا ولبنان والأردن والعراق، والتعرف من كثب الى ضروب الحياة اليومية بعيدا من قوانين الدولة بعدما رفضت معظم القبائل في لبنان التجنيس، على العكس من بدو سوريا الذين انخرطوا في البرامج الحكومية، وامتلاك الأراضي، وتمثيلهم في المجلس النيابي، وذلك في قراءة أنثروبولوجية تعيد تركيب الصورة من داخل الخيمة لا من خارجها، وتجريفها من النظرة الاستشراقية التي طبعت عمل معظم المؤرخين.

AFP
صورة التُقطت في أكتوبر 1933 لبدوي فلسطيني مع جمله قرب خيمة في فلسطين

تفكيك القبائل

 لن نستغرب اليوم إذن، أن نرى شاحنة تحمل جملا وهي تعبر البادية نحو موقع الماء والكلأ، أو أن نتصفح موقعا إلكترونيا باسم إحدى القبائل الكبرى كأرشيف سياسي وثقافي للأنساب، وكتمجيد لفضائل زعماء هذه القبيلة أو تلك، في محاولة لتأطير هوية ثقافية ومعرفية وعرقية وتمييزها، تستجيب للتحولات الاقتصادية والبيئية والتكنولوجية المستحدثة، من دون الإنكار بأن هذه البرامج عملت في المقابل على "تفكيك القبائل" جزئيا، وانحلال الرابطة السياسية التي كانت تجمع البدو في مجموعات متماسكة قائمة على النسب والقرابة. كما أن عمليات التكيف واغتنام  الفرص والمرونة، كانت عناصر أساسية في استراتيجيات معيشة البدو، إذ لم تعد تربية المواشي السبيل الوحيد للاقتصاد البدوي، فهناك من انخرط في الاعمال المأجورة والسياحة البيئية والحرف اليدوية، مما استدعى استخدام الشاحنات في تسويق منتجاتهم من الحليب والصوف والأجبان من دون وسطاء. حتى أن بعضهم باتوا يبيعون الصوف مباشرة إلى سماسرة يابانيين بأثمان مرتفعة، بالمقارنة مع مدفوعات التجار المحليين، مما انعكس على وفرة السلع المادية في المخيمات البدوية "حيث يضع كل شخص بالغ ساعة يد، بغض النظر عما إذا كانت تعمل بدقة أم لا، وامتلكت كل أسرة عددا من أجهزة الراديو المحمولة، ومسجلات الكاسيت"، بالإضافة إلى شراء الأراضي لاستخدامها للرعي، وبناء منازل حجرية للاستقرار.

AFP
عمّال زراعيون سوريون يجلسون أمام متجر في مخيم بدوي في سهل البقاع شرق لبنان قرب الحدود السورية، 31 أكتوبر 2008

اندماج لا ذوبان

والحال، إن ما حصل لاحقا هو اندماج لا ذوبان، وانتقال حثيث من "اقتصاد رعوي هامشي" إلى "اقتصاد إقليمي" تحت مسمى "تخصص مهني"، ذلك أن البدو ما انفكوا يبتكرون أساليب عيش تحمي خصوصيتهم البيئية وقيمهم المتوارثة في الشجاعة والكرم والشرف. على أن هذه القيم الراسخة تآكلت بشدة وجرى تقويضها باستقلال الوحدات الصغرى (العشائر) عن القبيلة الكبرى ورفضها قرارات السلطة التقليدية لزعيم القبيلة في أوامر الطرد أو الإجلاء أو الضريبة الجماعية، مما جعل من الصعب حشد القبيلة بأكملها خلف قراراته. لا حملات غزو تقليدية اليوم بين القبائل المتحاربة، إنما نسخة جديدة تتمثل بمنسق للأعمال التجارية المبتكرة التي تشتمل على تسمين الأغنام وجلب الأعلاف وشحن وتسويق الألبان وحتى محصول البطيخ، فأدى هذا التنويع الذي تعد الشاحنة عاملا أساسيا فيه إلى "دمج التخصص الرعوي في الاقتصاد الاقليمي".

ما انفك البدو يبتكرون أساليب عيش تحمي خصوصيتهم البيئية وقيمهم المتوارثة في الشجاعة والكرم والشرف

هكذا تلاشى حضور سفينة الصحراء بعد أن تحولت القبائل العريقة إلى تربية الاغنام بمساعدة المعدات التقنية الحديثة كالشاحنة وصهريج الماء، مما منحها مدى أوسع وحركة أكبر في الوصول إلى المراعي والمخيمات وموارد المياه. إلا أن هذا التطور في نمط العيش البدوي، حسب ما تقول الباحثة، ترك آثارا سلبية في تدمير الغطاء النباتي نتيجة الرعي الجائر، واتساع رقعة التصحر بسبب مواسم الجفاف، فيما لجأ بعض زعماء القبائل إلى التجارة العابرة للحدود، أو اعتماد الدعم المالي الحكومي كبديل لتقليد "الخاوة"، وذلك لضمان ولائهم.

AFP / Thomas Coex
بدوي أردني يمتطي جملا عند غروب الشمس في صحراء وادي رم جنوب الأردن، 25 سبتمبر 2018

ومثلما ذهب زمن الإبل، انطفأت معظم مضافات الشيوخ، لا دلاء قهوة مرة فوق موقد النار، وولائم للضيوف، ولا شعراء عتابا جوالين يمجدون بسالة رجال القبيلة في الغزو والشهامة والكرم. فالبدو يستخدمون اليوم مواقد الغاز بدلا من الحطب وروث الإبل، واستبدلت الأقمشة المحلية بأقمشة مستوردة، وتشق القوارير الحافظة للحرارة "الترمس" طريقها إلى المجالس لتحل محل فناجين القهوة التقليدية، وأصبحت سفينة الصحراء الآن سيارة تويوتا، أو داتسون، أو نيسان، أو جنرال موتورز.   

ردم الفجوة الثقافية

في فصل لاحق، تتجول داون تشاتي في الجزء المخصص للنساء داخل الخيمة كواحدة من قاطنيها بتأثير العشرة الطويلة مع البدو، وتدرس حيثيات عمل النساء ومراتب الهيبة بين الأم والأحفاد، وطراز الثياب، وصولا إلى طقوس الزواج وكيفية جمع مهر العروس وأهمية النسب في إتمام القران. فكلما كان العريس بعيدا في النسب ترتفع قيمة المهر. وتختتم قائلة: "مع تزايد ارتباط البدو بالشاحنة الحديثة عوضا عن الجمل، هناك أمل في ردم الفجوة الثقافية التي تفصل هذه الفئة السكانية عن بقية مجتمع الشرق الأوسط".

داون تشاتي

 في كتابها "سوريا: تشكل دولة اللجوء وتفككها"، تتابع داون تشاتي اهتمامها بقضايا النزوح والتهجير القسري، وفي مقدمها تجارب اللجوء السوري، بالأسلوب الاستقصائي ذاته الذي اعتمدته في كتاباتها عن اقتصاد البدو، وهي هنا تتذكر طفولتها في دمشق قبل مغادرتها إلى الولايات المتحدة الأميركية، وكيف كانت ترافق والدها طبيب العيون الذي عمل متطوعا في معالجة اللاجئين الفلسطينيين، والبدو الرحل في ضواحي دمشق، وستكتشف أثناء دراستها في جامعة أكسفورد علم الانثروبولوجيا ثم إدارة مركز دراسات اللاجئين في الأمم المتحدة، أن التوطين القسري للبدو والهجرة القسرية للمستوطنين وجهان لعملة واحدة لجهة التمييز والحرمان من حقوق الإنسان والحقوق السياسية.

التوطين القسري للبدو والهجرة القسرية للمستوطنين وجهان لعملة واحدة لجهة التمييز والحرمان من حقوق الإنسان والحقوق السياسية

المفارقة التي تعمل عليها داون تشاتي هنا، كيف لدولة مثل سوريا كانت ملجأ لجماعات من إثنيات وديانات مختلفة في القرنين التاسع عشر والعشرين، ومركزا للتنوع الثقافي واندماج الأقليات، أن تتحول اليوم إلى دولة مصدرة للاجئين! وتتبع خريطة 150 عاما من "الحركة غير الطوعية للسكان" التي ميزت المنطقة، بدءا من العقود الأخيرة للإمبراطورية العثمانية. وتؤكد أن الجهود لتعزيز وجود أمة متعددة الأعراق خلال مرحلة التنظيمات العثمانية، وأزمات لجوء جماعات مختلفة من المهاجرين وطرائق الاستجابة المنظمة التي تبنتها الإمبراطورية العثمانية في أواخر عهدها، والتي سهلت اندماج أولئك المهاجرين مع الحفاظ على هويتهم الخاصة، ساهمت في تشكيل ثقافة قبول "الآخر" والعيش المحلي والتسامح مع الاختلاف الذي ميز على نحو خاص دولة سورية الحديثة، وإذا بالدولة التي نهضت على الكرم والتعددية الإثنية والدينية تتحول لاحقا إلى مجتمع نزوح نحو كل أصقاع العالم.

font change