قرن على الحداثة: قصة "عوليس" و"الأرض اليباب"

Nicola Ferrarese
Nicola Ferrarese
لم تولد الحداثة من فراغ، فقد بدأت مع بوادر الثورة الصناعية، وكان لا بد من أن تكون متعددة المراحل، لتواكب التطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة بوتيرة عالية

قرن على الحداثة: قصة "عوليس" و"الأرض اليباب"

مضى نبض الحداثة بطيئا في البداية، عملاقا غير مرئي، استيقظ مع ضجيج أول آلة، ولم يتخذ شكله النهائي بعد، كأنه لا يزال يخبئ لنا مفاجآت، ليس آخرها الرقمنة، ابتداء من تسعينات القرن الماضي، والميتافيرس، وأخيراً "تشات جي بي تي" الذي سيفسح الطريق لطور تكنولوجي وثقافي جديد.

هذا كله بدأ في مطلع القرن العشرين، الذي دأب كثر على وصفه بأنه قرن الارتباك والبلبلة، ملقيا بتبعاته أيضا على قرننا الحالي، بحروبه اللامتناهية وأزماته المتفاقمة وازدياد الهوة أكثر فأكثر بين الدول الغنية والفقيرة، ناهيك بأزمة المناخ والانفجار السكاني.

تقاطعات مدهشة

يعتبر الناقد الويلزي ريموند ويليامز، أن القرن العشرين تكوّن من ظواهر تتعايش وتتقاطع بشكل مدهش، ويمكن تقسيمها إلىالمتبقّي والطارئ والمهيمن، وهي ظواهر لا بد من العودة إليها باستمرار، لأنها، بطريقة ما، صاغت ملامح قرن بحاله ولا تزال تُعتبر المرجع الأساسي لما أطلق عليه مصطلح أو اسم "الحداثة" في العشرينات من القرن المنصرم.

Getty Images
الرقيب نوروود دورمان، بنسون، نورث كارولاينا، يتوقف للراحة عند النصب التذكاري للجند الإيطاليين في الحرب العالمية الأولى برولو، صقلية، 14 أغسطس 1943

تميزت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين برغبة عميقة في الاستفزاز وقطع الصلة مع الماضي، وكان هدف الحداثة، على وجه الخصوص، تدمير البنى القائمة والثورة عليها، ولغتها تهدف إلى الفوضى، لتكون معارضة لنظام القيم القائمة. شكلت مرحلة ما بعد الحداثة التي بدأت مع نهاية الحقبة الاستعمارية وريادة الإعلام والتواصل عن بعد، نهاية الحداثة، أي المرحلة التاريخية التي تميزت بالديناميكية والتقدم والتحول المستمر. وأعقبتها مرحلة ما بعد الحداثة التي وصفها النقاد والباحثون بالتفتت والتعقيد غير القابل للتنظيم.

في الوقت الراهن، الذي تواجه فيه أوروبا أزمات غير مسبوقة، ويبدو أن خيط ذاكرتها وحيويتها التي لم تهمد منذ عصر النهضة، قد ضاع في الحروب والأزمات الاقتصادية والبيئية، يتم الاحتفال بالذكرى المئوية المتزامنة لحجرَي الأساس لحركة الحداثة الأدبية في الغرب، وهما رواية "عوليس" لجيمس جويس، التي نشرت في باريس عام 1922، و"الأرض اليباب" لتوماس إليوت، التي نشرت في أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه. تزامن ذلك مع انفجار أصوات الأقليات أو المهمّشين بشكل عام، ولا سيما أدب الجندر، أو الجنسانية، والدراسات النسوية، تحت شعار "التحديث"، إيذانا بولادة مصطلح "الحداثة" الذي سيشمل كل هذه التحولات، وشرطها الأول هو الريادة، لأنها تنتمي إلى الغد وليس إلى الوقت الحاضر.

لم تولد الحداثة من فراغ، فقد بدأت مع بوادر الثورة الصناعية وكان لابد من أن تكون متعددة المراحل، لتواكب التطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة بوتيرة عالية

مراحل

لم تولد الحداثة من فراغ، فقد بدأت مع بوادر الثورة الصناعية (في منتصف القرن السابع عشر تقريبا)، وكان لا بد من أن تكون متعددة المراحل، لتواكب التطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة بوتيرة عالية. فكانت هناك مرحلة ما قبل الحداثة 1890-1900، والحداثة المبكّرة 1900-1920، والحداثة المتعارف عليها 1920-1940، ثم أدب ما بعد الحداثة 1940-1960، معلنا نهاية التاريخ، أو استحالة إنتاج شيء جديد، وبالتالي الإحياء الحتمي لأساليب الماضي.

احتفاءً بهذه المناسبة، صدرت في إيطاليا ترجمة جديدة هي التاسعة لقصيدة "الأرض اليباب" أنجزتها سارة فنتروني، وسبقتها قبل عام واحد تقريبا ترجمة أخرى، ولكن بعنوان مختلف، "الأرض المُدَمَّرَة". بررت المترجمة كارمن غالّو هذا الاختيار بالحاجة إلى إعادة ربط القصيدة ﺒ"أنقاض" الحرب العالمية الأولى التي زرعت الدمار وخلّفت ملايين الضحايا في أوروبا.

كانت ذائقة إليوت الأدبية تميل على ما يبدو، إلى التقليدية، إذ أعلن أكثر من مرة أنه كلاسيكي في الأدب نافيا إمكان الكتابة التلقائية. مع ذلك يمكن تسمية كل من "الأرض اليباب" وبعض قصائده اللاحقة، وفقا لرأي بعض النقاد، "قصائد مجرّدة"، وهي، بدلا من أن تحتفي بتكامل المعنى، أو على الأقل بالحنين إلى هذا الاكتمال، نجدها مهووسة بغياب المعنى الذي يميز العصرين الحديث والمعاصر. من خلال التجاذب في الفراغ ("ربط لا شيء/ بلا شيء")، مثلما كتب إليوت نفسه في مقالته الأساسية "التقليد والموهبة الفردية"، تمكن من تحقيق انتصار جزئي على التقاليد، من خلال خلق مساحة لشعره، قلة المعنى التي جعلت من الممكن إنتاج معان جديدة.

ربع قرن

في العودة إلى ترجمة سارة فنتروني، أجمع النقاد هنا على أنها ترجمة مكتملة، وتفوق، لغة وعمقاً، ما سبقها من ترجمات. بدأت فنتروني العمل في ترجمة القصيدة عام 1996 ولم تنته منها إلا خلال الأشهر القليلة الماضية، أي قبل إرسال النسخة النهائية إلى المطبعة في شهر سبتمبر/ أيلول من العام الماضي. ووجدت فنتروني، وهي إحدى أهم الشاعرات المعاصرات، طريقة لالتقاط عناصر الخطاب الشعري الأكثر حسماً ومراوغة في الوقت نفسه، وهو ما يسمى "المسار"، الذي يتيح اختيار أفضل نهج، خاصة لمن يقرأ القصيدة للمرة الأولى. الانصهار كليا في تدفق الصور، من أول كلمة إلى آخرها، دون أن يطمح المرء إلى فهم كل شيء أو يتوقع فهم كل شيء، لأن الفهم الجزئي فقط يسمح لنا باكتشاف معان جديدة في كل قراءة جديدة.

Keystone Pictures
توماس إليوت كاتب قصيدة "الأرض اليباب"

كتب ت. إس. إليوت قصيدة "الأرض اليباب" في لندن بين عامي 1921 و1922 ونشرت في مجلته "المعايير" في أكتوبر/تشرين الأول1922، وتلتها طبعة ثانية في المجلة نفسها، وأخيرا، في العام ذاته، صدرت الطبعة الورقية في نيويورك، مع إضافة بعض الملاحظات تشير إلى نصوص أخرى. القصيدة الطويلة، التي تنتمي إلى الطور الأول من شعر إليوت، تركز على أزمة المجتمع الغربي، الذي تحول، كما يوحي العنوان، إلى "أرض يباب".

تتكون القصيدة من خمسة أقسام: "دفن الموتى"، "لعبة شطرنج"، "موعظة النار"، "الموت بالماء"، "ما قاله الرعد". يمكننا أن نرى فيها أصالة كتابات إليوت، الذي قام، تحت تأثير عزرا باوند (الذي أهديت إليه القصيدة)، بمضاعفة الإشارات إلى نصوص أخرى، مع إدخال اقتباسات مخفية أو واضحة، مطعّمة بأساطير مختلفة، غربية وشرقية.

في "الأرض اليباب"، يؤكد إليوت رؤيته الواضحة المتشائمة للواقع، مصورا الحالة المأسوية للأرض: سقوط كل قيمة لا تتوافق مع البدائل الممكنة، وهذا ما يفتقده تماماً الإنسان المعاصر بإمعانه في تكريس واقع لا محال أن يؤدي إلى الهاوية. تأثر عمل إليوت بشعراء العصر الإليزابيثي، "الميتافيزيقيون" في القرن السابع عشر، وبالشعر الرمزي؛ لكن رمزية إليوت، أكثر مما هي من القرن التاسع عشر، تشير إلى القرون الوسطى وعلى وجه الخصوص إلى "الكوميديا ​​الإلهية"، المشار إليها كنموذج يجب اتباعه (وإلى دانتي في الواقع خصص إليوت دراسات نقدية عديدة).

بعد الحرب العالمية الأولى، بدا التاريخ البشري لإليوت كومة من الأنقاض، كشيء لا يمكن أن يكون مدعاة للانتصار، ومن الصعب ربطه بأي قيمة أخلاقية بعدما شهدته البشرية من أهوال تلك الحرب. بينما على المستوى الخطابي، يقترح شعر إليوت نوعا من الانصهار بين العاطفة والتفكير. في هذا السياق، ولدت شاعرية "الترابط الموضوعي"، التي ترى أن من الضروري تحويل كل عاطفة فردية إلى صور موضوعية صالحة للجميع. الشعور والحدس الشخصي يتم توصيلهما في شكل رمزي، من خلال موضوع يستوعب كليهما.

هناك شهادة نموذجية للمزيج المستمر من المراجع الثقافية المختلفة الموجودة في بنية "الأرض اليباب"، في القسم الأخير من القصيدة، "ما قاله الرعد"، يبدأ إليوت برؤية يائسة للصحراء: "ربما ينتظر الرجال المطر الذي لم يأت؛ حتى الرجاء الذي يمكن أن يأتي من المسيح بعيد، بينما الناس على الأرض يموتون". في هذا المقطع، يواصل الشاعر أسلوبه في التداخلات الثقافية، مستفيدا من ترتيب دقيق للمراجع التي تتراوح بين دانتي وإنجيل لوقا، مرورا بأساطير مختلفة.

من جهة أخرى، نجده يستحضر حالة من عدم الراحة والأرق بعبارات تشبه الحلم، مما يخلق جوا كابوسيا. ففي المقطع الثاني، يطابق إليوت، مزاج الإنسان مع خراب المنظر الطبيعي (غياب الماء = غياب الحياة)، ويصر على جفاف المشهد من خلال سلسلة من التكرارات تخلق تأثيرا موسيقيا مهووسا.

لكن إليوت يقدم لنا أيضاً ولادة جديدة، يرمز إليها الديك بصياحه البهيج، وعلامة فجر جديد، والرياح الرطبة التي تعيد المطر. انتهى الخراب الآن، والرعد يتحدث ويعلن رسالته للخلاص: من كلماته تنبثق القيم الأساسية للحضارة الماضية: الإيثار، والرحمة، وضبط النفس، والتي على أساسها يجب إعادة إنشاء حضارة جديدة.

لعب عزرا باوند دورا أساسيا في الانتقال من النسخة الأولى من "الأرض اليباب" التي نشرت في المجلة الآنفة الذكر، إلى النسخة النهائية التي نُشرت عام 1925 في لندن في مجموعة "أشعار Poems". مسلحا بمقص حاد، أزال باوند نحو نصف الأبيات التي كتبها صديقه، مما سمح للقصيدة، المؤلفة من خمسة أجزاء، بالوصول إلى تدفقها وانسيابها الرائعين: "بالدفء أحاطنا الشتاء، مغطّيا/ الأرض بثلج غُفُولٍ، مغذّيا/ الحياة الآفلة بدرنات جافة".

أما بالنسبة إلى جذور هذه التحفة الأدبية، فالناقد الإيطالي إيمانويل تريفي يؤكد "أننا لا نستطيع أن نحدد فقط جذور العمل، ولكن أيضا تحديد محاوره الرئيسية واحدا تلو الآخر، مع مراعاة ما ذهب إليه إليوت نفسه، وهو ما يعني قراءة كتاب نشرته جيسي ل. ويستون، وهي باحثة بريطانية بارعة في الميثولوجيا والأنثروبولوجيا في عام 1920. بعدما وضعت كمية هائلة من البيانات معا، لمحت ويستون في روايات الكأس المقدسة في العصور الوسطى أثر طقوس الخصوبة القديمة، وهي مجموعة من المعتقدات والأساطير تتمحور حول موضوعين مترابطين هما الجفاف وخراب الأرض التي لم تعد تنتج ثمارا، ومن مرض الملك الذي يجب أن يُؤمِّن الغذاء لشعبه. انتقد المتخصصون الذين جاؤوا لاحقا بشكل كبير استنتاجات معينة للباحثة الإنكليزية، لكنها لا تزال صالحة جدا من عنوان الكتاب "من الطقوس إلى الرومانسية". في هذه الرحلة التاريخية من الطقوس إلى الأدب الروائي، بحكم طبيعتها، تجد الرموز الأكثر غموضا وسيلة للبقاء على قيد الحياة عبر الزمن، حتى لو تعامل الكتاب معها بشكل سطحي، بعدما فقدت مغزى وجودها".

من الممكن أيضا أن نفهم من هذه التلميحات الضئيلة مقدار الإلهام الذي يمكن أن يجده شاعر لا يزال شاباً، إذ كان إليوت قد تجاوز الثلاثين من عمره عندما كتب "الأرض اليباب"، بحثا عن فكرة مركزية من شأنها أن تركز فهمه للحياة ومصير الإنسانية الحديثة و"مدنها غير الواقعية". لقد انتقل إليوت إلى ذاكرة الأجيال القادمة ليس فقط كشاعر فذّ، بل أيضاً كوصي على التقليد الأدبي؛ وخاصة بالنظر إلى مقالاته. لكنه أكثر من باوند وجويس، شعر بشدة أن هذا التقليد لم يمر دون أن يصاب ببلاءالحضارة الصناعية، والاستنساخ الميكانيكي للصور والاغتراب الحضري.

الموضوع الحقيقي لـ"الأرض اليباب" ليس استنساخ أساطير الكأس المقدسة، بل فقدان وحدة أي أسطورة، لأي حكمة ورثها الإنسان الحديث، فعلى عكس أسلافنا، يبدو أننا نتحرك داخل سلسلة لا متناهية من الأنقاض والصور المهشّمة، التي لا يمكن، نظراً إلى تشابكها وغموضها، استخلاص مغزى حقيقي منها.

ومع أن مشروع جيسي ل. ويتسون يتخذ طابعا غير مسبوق إذا فسرنا "الأرض اليباب"، كما يبدو من عنوان كتابها كمحاولة لتتبع المسار في اتجاه معاكس، ليس من الطقوس إلى الأدب، إنما من الأدب إلى إمكان طقوس جديدة، وبالتالي تطهير جديد قادر على تخليص العالم من عقمه، وهو على الأرجح، ما ابتغاه إليوت في الجزء الخامس والأخير من القصيدة، "ما قاله الرعد": "بعد الضوء القاني للقناديل على وجوه مُعَرَّقَة/بعد الصمت الجليدي في الحدائق/بعد الألم في الأماكن الحجرية/الصرخات والدموع/السجن والقصر وصدى صوت/ الرعد في الربيع على الجبال البعيدة/ الذي كان حياً مات الآن/ نحن الذين كنا على قيد الحياة نموت الآن/ بقليل من الصبر" (الترجمة عن الإيطالية).

 يعرّف جويس عمله ﺒ "الأوديسة الحديثة" و "ملحمة الجسد البشري". ولفهم عوليس، لا تعتبر الإشارة إلى عمل هوميروس ضرورية فحسب، بل من الضروري أيضا الرجوع إلى الأسطورة القديمة


ملحمة الرجل العادي

أما بالنسبة إلى تحفة جويس، فقد أدرك إليوت منذ البداية القيمة الحقيقية لرواية "عوليس"، وأصبح يعرّفها بأنها "أهم تعبير عن عصرنا". هذه الرواية التي تدور أحداثها في دبلن، في يوم واحد، 16 يونيو/حزيران 1904 (تاريخ أول موعد لجيمس جويس مع نورا، المرأة التي ستصبح زوجته)، وتروي قصة يوم في حياة وكيل الإعلانات ليوبولد بلوم، تعيش ثلاث شخصيات رئيسية: ليوبولد بلوم، وزوجته مولي والشاب ستيفن ديدالوس، نوعا من الأوديسة الشخصية، يستيقظون، ويعقدون لقاءات مختلفة، ويخلدون إلى النوم بعد ثماني عشرة ساعة.

Getty Images
جيمس جويس، مؤلف أيرلندي، القرن العشرين.

الشخصية المركزية في "عوليس" هي ليوبولد بلوم وتمثل الرجل العادي، وكيل إعلانات يتجول في دبلن وخلال تجواله، الذي يُذكّر بتجوال بطل "الأوديسة"، عوليس، على امتداد البحر الأبيض المتوسط، يلتقي الكاتب الشاب المعوز ستيفن ديدالوس (الذي يُعتبر الأنا الأخرى لجويس).

يلتقي الاثنان (في منتصف الرواية تقريبا) مصادفة، بعدما تلاقيا في مناسبات مختلفة، دون أن يعرف أحدهما الآخر، في بيت دعارة حيث يصلان في حالة ثمالة واكتئاب من تجاربهما الشخصية: بلوم متضايق بسبب خيانات زوجته، وإحباطه من العمل، وذكرى ابنه الميت، الذي كان يعلّق عليه آمالا كبيرة في الخلاص؛ بينما ستيفن مسكون بعقدة الذنب لعدم قيامه بأعمال التفاني الكاثوليكي على فراش موت والدته ومعذّب بسبب ركاكة شخصية الأب وقصورها.

بلوم ينقذ ستيفن المتورط في مشاجرة ويستضيفه في منزله. يصبح ستيفن موقتاً ابن بلوم بالتبني: الرجل العادي المنسلخ ينقذ الفنان المنسلخ ويأخذه إلى المنزل.

يركز الفصل الأخير على شخصية مولي، زوجة بلوم، المغنية الشبقة. بعد أن يغادر ستيفن ويخلد بلوم إلى النوم، تقوم المرأة بمونولوغ داخلي تتذكّر فيه علاقتها بزوجها وتتبع خيالاتها من خلال التخطيط لقضاء فترة ما بعد الظهيرة مع مدرّس الموسيقى. تبقى نهاية الرواية مفتوحة.

هناك رابط واضح بين "عوليس" وملحمة هوميروس العظيمة. يستخدم جويس "الأوديسة" كإطار مرجعي لكتابه، وينظم شخصياتها وأحداثها في إشارة إلى نموذج هوميروس البطولي. يعرّف جويس عمله ﺒ "الأوديسة الحديثة" و "ملحمة الجسد البشري". ولفهم عوليس، لا تعتبر الإشارة إلى عمل هوميروس ضرورية فحسب، بل من الضروري أيضا الرجوع إلى الأسطورة القديمة.

في "الأرض اليباب"، يؤكد إليوت رؤيته الواضحة المتشائمة للواقع، مصورا الحالة المأسوية للأرض: سقوط كل قيمة لا تتوافق مع البدائل الممكنة، وهذا ما يفتقده تماماً الإنسان المعاصر بإمعانه في تكريس واقع لا محال أن يؤدي إلى الهاوية


ملحمة حديثة

يكتب جويس "نثرا ملحميا حديثا"، وهي ملحمة محدثة تقلب فيها الأسطورة بطريقة مناهضة للبطولة أو البطل الذي لا يقهر. عوليس هوميروس، يمثل البطل اليوناني القديم وقيم الإنسانية القديمة، أما عوليس جويس فيمثل الإنسان الحديث، والإنسان العادي هو البطل الحديث، الذي يجعله متوسط ​​الأداء ومناهضا للبطل، مظهرا مخاوفه ونقاط ضعفه وتناقضاته التي لم يعثر بعد على حلّ لها.

من جهة أخرى، يكسر جويس تقليد القصة الكلاسيكية المبنية على التسلسل المنطقي والتسلسل الزمني للأحداث وعلى الروابط السببية والزمنية المعتادة، ملتزما الشكل الجديد لـ"تيار الوعي"، بناء على النقل الفوري من أعمق أحاسيس الأنا، ومن خلال إجراءات غير منطقية خاصة باللاوعي. ويجمع أيضا مع تقنية تدفق الوعي بين طرق مختلفة لتقديم مجموعة كبيرة ومتنوعة من المواقف: تقنية التصوير السينمائي، ذكريات الماضي، تعليق الكلام، وإنشاء ما يسمى بـ"تقنية الكولاج". بالإضافة إلى ذلك، يستخدم جويس المونولوغ الداخلي ومستويين للسرد: أحدهما خارج عقل الشخصية، والآخر داخلي مع تدفق أفكار الشخصية القادمة من العالم الخارجي بحرية ودون أي انقطاع.

أما اللغة، فنجدها مليئة بالصور والتناقضات والمفارقات والرموز والإيحاءات. كما يستخدم جويس اللغة العامية والألقاب والكلمات الأجنبية والكلمات الجديدة والاقتباسات الأدبية والتلميحات إلى نصوص أخرى.

وعلى عكس من يسمون بالمحافظين، الذين كانوا يحاولون عبثا استعادة الماضي المفقود، فإن هذين العبقريين، جويس وإليوت، قبلا العيش في عالم مقفر إلى الأبد، عالم ممزق بصورة يتعذر إصلاحه معها، ولهذا السبب على وجه التحديد، لا تزال رؤى هذين الكاتبين تحمل ختم المستقبل ومحاولة رسمه بالتتابع، من جيل إلى جيل، فقد كانا يدركان تماما أن الحضارة البشرية لم تقم خلال فترة زمنية معينة، وأن الغريزة الإنسانية لا يمكن صقلها بين ليلة وضحاها. لذلك من المهم أن تستمر ترجمات إليوت وجويس من جيل إلى آخر، إذ لا يمكن للمرء أن يترجم ببساطة هذين النصين، بقدر ما عليه أن يجيب عن هذين النصين بطريقة مختلفة في كل مرة.

font change

مقالات ذات صلة