التجارة الأميركية الكندية... من الشراكة إلى تبادل الخسائر

أوتاوا تبحث عن مخرج من قبضة السوق الأميركية والأنظار تتجه نحو المفاوضات المقبلة

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
رئيس الوزراء الكندي مارك كارني، في مؤتمر صحفي لتعليق حول ملف التعريفات الجمركية بين كندا وأميركا، 30 يوليو 2025

التجارة الأميركية الكندية... من الشراكة إلى تبادل الخسائر

تُعدّ العلاقة الاقتصادية بين الولايات المتحدة وكندا من أعمق وأكثر العلاقات التجارية تعقيدا في العالم، ومع ذلك، شهدت أخيرا توترا غير مسبوق، خاصة مع خطوة الرئيس الأميركي دونالد ترمب التي أثارت جدلا واسعا، إذ أعلن فرض رسوم جمركية جديدة على الواردات من كندا بنسبة 25 في المئة، تُطبَّق اعتبارا من فبراير/شباط 2025، في قطاعات مثل الألمنيوم والصلب والأخشاب والمنتجات الزراعية، وفرض تعريفة إضافية بنسبة 10 في المئة على موارد الطاقة. والحجة في ذلك مكافحة تهريب المواد المخدرة غير المشروعة مثل مخدر "الفنتانيل" إلى الولايات المتحدة، والمهاجرين غير الشرعيين، ودعم التصنيع المحلي الأميركي وخفض العجز التجاري.

ووقع الرئيس ترمب، في 31 يوليو/ تموز، أمرا تنفيذيا يقضي برفع التعريفات الجمركية على الواردات من كندا من 25 في المئة إلى 35 في المئة، مع سريان الزيادة فورا في الأول من أغسطس/ آب. وجاء في بيان البيت الأبيض: "ردا على استمرار تقاعس كندا وردها الانتقامي، رأى الرئيس ترمب ضرورة زيادة الرسوم الجمركية لمعالجة حالة الطوارئ الحالية بفاعلية".

هذه السياسة التجارية، التي وُصفت بأنها ذات طابع سياسي أكثر منه اقتصاديا، أدت إلى تصعيد التوترات التجارية بين الجارتين في أميركا الشمالية، وخلفت تداعيات اقتصادية عميقة على البلدين. فمن هم الرابحون والخاسرون في الاقتصادين، وكيف كانت ردود الفعل الكندية، وما هي توقعات الخبراء في شأن تأثير هذه الرسوم على الاقتصاد الكندي؟

حسابات الأرباح والخسائر بين البلدين؟

من أهم الرابحين في هذه الحرب الجمركية الصناعات الأميركية، حيث تهدف الرسوم الجمركية إلى تعزيز الصناعات الأميركية، خصوصا في قطاعات الصلب والألمنيوم والسيارات، من خلال جعل المنتجات المحلية أكثر تنافسية مقارنة بالواردات الكندية. وقد تشهد الشركات الأميركية التي تعتمد على المواد الخام المحلية، زيادة في الطلب، مما يعزز الإنتاج والوظائف.

الاقتصاد الكندي، الخاسر الأكبر، حيث تواجه كندا، التي تصدر ثلاثة أرباع منتجاتها إلى الولايات المتحدة، ضغوطا اقتصادية هائلة، اذ تضرر قطاع الصلب والألمنيوم بشدة، مما أدى إلى فقدان وظائف وإغلاق مصانع، وتأثر قطاع البناء

حسابات الأرباح  تتقدم الخزينة الأميركية، حيث زادت الرسوم الجمركية من الإيرادات الفيديرالية، وارتفع متوسط الرسوم من 2,5 في المئة إلى 18,4 في المئة في يوليو/تموز 2025، وأصبحت تمثل 5 في المئة من الإيرادات، كما أعلنت وزارة الخزانة الأميركية.

وهناك الدول المصدرة البديلة، إذ قد تتحول الولايات المتحدة إلى استيراد هذه المواد من دول أخرى مثل المكسيك أو الصين، مما يعزز اقتصاداتها.

"إشْتَرِ منتجات كندية"

يضاف إلى قائمة الرابحين، صناع القرار الكنديون الذين استخدموا الأزمة كدافع لتعزيز الاستقلال الاقتصادي، فحركة "اشْتَرِ منتجات كندية" (Buy Canadian)نمت بقوة، وتحرك رجال الأعمال إلى التصدير نحو أوروبا وآسيا.

.أ.ف.ب

أما أهم الخاسرين فهو الاقتصاد الكندي، حيث تواجه كندا، التي تصدر ثلاثة أرباع منتجاتها إلى الولايات المتحدة، ضغوطا اقتصادية هائلة، حيث تضرر قطاع الصلب والألمنيوم بشدة على سبيل المثل، مما أدى إلى فقدان وظائف وإغلاق مصانع، وتأثر قطاع البناء بارتفاع تكاليف المواد، مما أدى إلى اضطراب سلاسل التوريد وتفاقم أزمة الإسكان.

المستهلك الكندي والأميركي هما من الخاسرين، فقد يصل ارتفاع التكلفة للمستهلك الكندي إلى 1900 دولار كندي سنويا للفرد، بحسب توقعات غرفة التجارة الكندية. وبالنسبة للمستهلك الأميركي سترتفع أسعار السلع المستوردة، مما يؤدي إلى زيادة تكلفة المعيشة.

تشير تقديرات مؤسسة "ويدبوش" للأوراق المالية (Wedbush Securities) إلى "أن الرسوم على السيارات وقطع الغيار قد ترفع سعر السيارة العادية بين 5000 و10000 دولار"، كما سترتفع أسعار الأجهزة المنزلية، مما ينعكس على أسعار البيع بالتجزئة.

المستهلك الكندي والأميركي هما من الخاسرين، فقد يصل ارتفاع التكلفة للمستهلك الكندي إلى 1900 دولار كندي سنويا للفرد، بحسب توقعات غرفة التجارة الكندية. وبالنسبة للمستهلك الأميركي سترتفع أسعار السلع المستوردة، مما يؤدي إلى زيادة تكلفة المعيشة

بالنسبة للشركات الأميركية المعتمدة على الواردات الكندية، فسوف يؤثر ارتفاع الأسعار على أرباحها، فيما الشركات الكندية المصدرة ستواجه خسائر كبيرة بسبب ارتفاع تكاليف التصدير إلى السوق الأميركية. وأكد تقرير صادر عن "بنك مونتريال" (BMO) أن الرسوم على الأخشاب اللينة أدت إلى زيادة أسعار المنازل في الولايات المتحدة، بينما أضرت بالشركات الكندية المصدرة. 

"المقاومة الكندية": إجراءات تجارية وقانونية

أعلنت الحكومة الكندية رفضها القاطع للرسوم الجمركية، ووصفتها بأنها "غير مبررة وتضر بالعلاقات الاقتصادية بين البلدين". وأعرب رئيس الوزراء الكندي، مارك كارني، عن خيبة أمله من قرار ترمب، مشددا على أن كندا لن تتراجع وستتخذ إجراءات لحماية اقتصادها.

.أ.ف.ب
سفن لشحن البضائع ترسو في ميناء مونتريال بعد التعريفات الجمركية الجديدة، 1 أغسطس 2025

وأعلنت كندا فرض رسوم جمركية انتقامية بنسبة 25 في المئة على المركبات الأميركية غير المتوافقة مع اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (USMCA)، ورسوم على 1256 منتجا أميركيا بقيمة إجمالية تصل إلى نحو 30 مليار دولار أميركي، واستهدفت كندا في رسومها المضادة منتجات من ولايات أميركية رئيسة لإرسال رسالة سياسية.

كما لجأت في مارس/آذار إلى منظمة التجارة العالمية، للطعن في شرعية الرسوم الأميركية. وأعلنت نيتها اتخاذ إجراءات قانونية أمام هيئات دولية ذات صلة للطعن في الرسوم الأميركية، معتبرة أنها تنتهك اتفاقيات التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا (USMCA). 

وصف قادة أونتاريو وكيبيك القرار الأميركي بـ"إعلان حرب اقتصادية"، محذرين من فقدان 100 ألف وظيفة وتأثر حاد في قطاعات الصناعة والطاقة.

في أبريل/نيسان 2025، علّقت كندا بعض الرسوم الجمركية المضادة مؤقتا لمدة ستة أشهر للسماح للشركات الكندية بتعديل سلاسل التوريد وتقليل الاعتماد على الموردين الأميركيين. ومع ذلك، ظلت رسوم بقيمة 41 مليار دولار كندي (30 مليار دولار أميركي) سارية على السلع الأميركية.

وتعمل حكومة كارني على دعم الطلب الداخلي وتعزيزه، وإزالة الحواجز التجارية بين المقاطعات، وتشجيع الاستثمار، وفي مقدمه خطة لدعم الانتعاش الاقتصادي. كما خصصت 8 مليارات دولار لدعم العمال والشركات المتضررة.

.أ.ف.ب
حاويات البضائع في مرفأ مونتريال، بعد موجة التعريفات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة على كندا، 1 أغسطس 2025

واتجهت كندا إلى تنويع السوق، فتقلّصت صادراتها إلى الولايات المتحدة من 78 في المئة إلى 68 في المئة من إجمالي صادراتها بين مايو/ آيار 2024 ومايو/آيار 2025 ، مع نمو في أسواق مثل الاتحاد الأوروبي، وأوستراليا، واليابان وإندونيسيا كما أفادت "رويترز". وشهدت كندا قفزة في إيراداتها من الرسوم الجمركية خلال الربع الأول من 2025 نتيجة التعريفات الجمركية الانتقامية.

الاقصاد الكندي: ركود أم تعافٍ؟

يرى معظم الخبراء الاقتصاديين والخبراء في كندا أن الرسوم الأميركية تضر بالاقتصاد الكندي بشكل مباشر. وقد وصفت القيادات المحلية الكندية، مثل رئيس وزراء أونتاريو دوغ فورد، ورئيس وزراء كيبيك فرنسوا ليغو، القرار الأميركي بأنه "إعلان حرب اقتصادية"، مؤكدين أن القطاعات الصناعية والطاقة ستتضرر بشدة، خاصة في مقاطعة كيبيك التي قد تفقد 100 ألف وظيفة. وحذر "اتحاد الصناعات الكندية" من أن القرار سيؤدي إلى فقدان الوظائف وتراجع النمو في القطاعات المتضررة.

من جهته، أشار "المصرف المركزي الكندي" إلى أن التوترات التجارية قد تؤثر على الاستقرار الاقتصادي وتزيد عدم اليقين في الأسواق، وكذلك إمكان حدوث ركود شامل، وتراجع الاستثمار والطلب المحلي. وحذّر من سيناريو انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3 في المئة خلال عامين إذا استمرت الحرب التجارية، مع توقعات بتباطؤ النمو الطويل الأجل بنسبة 2,5 في المئة مقارنة بالسيناريو الذي لا يتضمن فرض رسوم.

الإعفاءات الكندية خفضت الرسوم الجمركية المضادة، مما قد يخفف أخطار التضخم ويحسن توقعات النمو، على الرغم من خطر الركود

"أكسفورد إيكونوميكس"

وتوقع "رويال بنك أوف كندا" خسارة الناتج المحلي الكندي ما بين 3,4 و 4,2 نقطة مئوية، وأن العجز في الصادرات وانخفاض استثمارات المشاريع سيؤدي إلى تراجع الطلب الداخلي.

أما "بلومبرغ" فأشارت إلى توقع خبراء اقتصاديين انخفاض نمو الاقتصاد الكندي بمقدار 2 إلى 4 نقاط مئوية، مع ارتفاع أسعار المستهلكين بوتيرة أسرع من هدف المصرف المركزي البالغ 2 في المئة، وزيادة معدل البطالة، وانخفاض الدولار الكندي إلى 65 سنتا أميركيا. فيما توقعت "فانغارد كندا" انخفاض النمو في 2025 من 1,7 في المئة إلى 1,2 في المئة، وارتفاع معدل البطالة إلى 7 في المئة. وأشارت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في يونيو/حزيران إلى أنه من المتوقع أن يتراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي من 1,5 في المئة في عام 2024 إلى 1 في المئة في عام 2025 و1,1 في المئة في عام 2026 بسبب التوترات التجارية مع الولايات المتحدة.

.أ.ف.ب
نحاس يتم صهره في مصفاة للنحاس كندية، في مونتريال 17 يوليو 2025

ولفتت "أكسفورد إيكونوميكس" إلى أن الإعفاءات الكندية قلّصت الرسوم الجمركية المضادة إلى مستويات منخفضة، مما قد يخفف بعض أخطار التضخم ويحسن توقعات النمو، لكن الاقتصاد الكندي لا يزال يواجه أخطار الركود.

بينما رجحت "غولدمان ساكس" أن تكون الرسوم الجمركية مؤقتة أو تستهدف سلعا معينة، مما قد يقلل التأثير الطويل الأجل، لكنها حذّرت من ارتفاع الأسعار وتباطؤ النمو في حال استمرارها. ويرى مراقبون أن استمرار هذه السياسات قد يدفع كندا إلى تنويع شركائها التجاريين، بما في ذلك تعزيز العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والصين، مما قد يقلل اعتمادها على السوق الأميركية.

مستقبل غامض للعاصفة الجمركية

على الجانب الآخر، يرى بعض الخبراء أن التفاوض قد يؤدي إلى إزالة بعض الرسوم، كما حدث في ولاية ترمب الأولى، ومع ذلك، يظل الاقتصاد الكندي عرضة للخطر، خاصة مع التوقعات بركود اقتصادي محتمل في 2025، إذا لم يتم التوصل إلى حلول دبلوماسية.

تكشف هذه الأزمة هشاشة العلاقات الاقتصادية حتى بين الحلفاء، فعلى الرغم من تحقيق الولايات المتحدة مكاسب قصيرة الأمد، إلا أن التكلفة الاقتصادية والسياسية باهظة. بالنسبة لكندا، فإن التأثير سلبي ويدفعها لإعادة التفكير في سياساتها التجارية، ويبقى المستقبل مرهونا بقدرة كندا على التنويع وتحويل الأزمة إلى فرصة.

تؤكد هذه الحرب التجارية أن لا رابحين حقيقيين فيها، بل خسائر مشتركة، وتتجه الأنظار الآن نحو المفاوضات المستقبلية التي ستشكل العلاقات التجارية بين البلدين.

font change