كنا في مقال سابق، أجملنا موقف عالم الاجتماع الألماني جورج زيميل من المال بعقد مقارنة بين ثلاثة أطراف: البخيل، والمبذر، والزاهد. يتبين من تلك المقارنة أن المال يتحول عند البخيل إلى غاية في ذاتها ومصدر للذة، بينما يظل أساسيا عند المبذر كما لدى البخيل، لكن على شكل الإنفاق لا الادخار. فما يهم المبذر ليس المال في ذاته ولا ما يوفره، وإنما فعل التبذير. ما يهمه ليس المال مترجما إلى أشياء، وإنما المال مترجما إلى أفعال تبذير. لكن البخيل والمبذر يلتقيان معا في خاصية اللامحدودية: المبذر لا ينفك يبذر، والبخيل لا ينفك يدخر. لا حدود يتوقفان عندها، ولا وضع يرتاحان إليه. إلا أنهما معا يتميزان عن الزاهد: فإذا كان البخيل يوقف حركته عند المال ذاته، والمبذر عند لحظة إنفاقه، فإن الزاهد الفقير يتجاوز المال برمته ليصل إلى عالم بلا وسائط مادية. هذه المواقف الثلاثة، على اختلاف دوافعها ونتائجها، تكشف أن للنقود قوة خاصة تمنحها موقعا مركزيا في الحياة الاقتصادية والنفسية للإنسان، وأن علاقتنا بها، سواء تمسكا، أو إهدارا، أو نبذا، هي علاقة تحدد ملامح وجودنا الاجتماعي والنفسي والأخلاقي.
الرهان والمصادفة
ماذا لو أضفنا إلى ثالوث زيميل هذا طرفا رابعا لا تربطه بالمال أي علاقة من تلك العلاقات التي سلط الضوء عليها المفكر الألماني؟ هذا الطرف هو المقامر الذي يكشف بعدا آخر في علاقة الإنسان بالمال: بُعد الرهان والمصادفة. فبينما يوقف البخيل المال عند ذاته، فيصبح عنده غاية، وبينما يوقفه المبذر عند لحظة إنفاقه، فيجعل اللذة في ضياعه، وبينما يتجاوز الزاهد المال برفضه أصلا فيبتغي العيش بلا وسيط، فإن المقامر يضع المال في حالة مغامرة، فلا هو يحتفظ به ولا هو ينفقه كما العادة، بل يرمي به لقانون الاحتمال.
يشارك المقامر كل واحد من الأطراف الثلاثة خاصية من خصائصه: فمثل الزاهد، يقضي على القوة الشرائية للنقود، ومثل البخيل، يخرجها من دائرة التبادل، ومثل المبذر، "يراقصها" في جذبتها، إلا أنه، مع ذلك، يخالف الأطراف جميعها. فإذا كان البخيل يعبد المال في ثباته، والمبذر في فنائه، والزاهد في إنكاره، فإن المقامر يعبده في احتماله.
يعيش المقامر تجربة مزدوجة: يحرر المال من وظيفته الاقتصادية، فلا يعود وسيلة لشراء أشياء أو تأمين حياة، بل يصبح "رأسمال للعبة". ثم إنه يدخل المال في لعبة المصادفة، فيعلق وجوده على الحظ، كأنما يجرد المال من قيمته الواقعية ليحوله إلى رمز للمخاطرة. فعند المقامر يصبح المال إمكانا خالصا، وعدا بالزيادة أو التلاشي. لذلك نراه يعيش لحظة توتر وجودي، حيث القيمة نفسها تدخل في لعبة المصادفة.