الأعمال الموسيقية الكاملة لنيتشه: ترنيمة الحياة

هواية تحولت إلى شغف

Getty Images
Getty Images
الفيلسوف الألماني نيتشه عام 1885

الأعمال الموسيقية الكاملة لنيتشه: ترنيمة الحياة

في رسالة إلى قائد الأوركسترا الألماني هيرمان ليفي مؤرخة بأكتوبر/ تشرين الأول 1887كتب نيتشه "ما من فيلسوف كان في جوهره موسيقيا إلى هذا الحدّ الذي أنا عليه الآن، ومع ذلك، فمن الممكن أن أكون موسيقيا فاشلا تماما".

لم يقتصر ولع نيتشه على الكتابة عن الموسيقى في مجمل مؤلفاته الصّاخبة، وبخاصّة ما أفرده لصديقه السابق وغريمه اللاحق الموسيقار ريتشارد فاغنر، متأرجحا بين تبجيله وذمّه، بل تجاسر هو الآخر وغامر بتأليف أعمال موسيقية منذورة للبيانو والكمان.

إن كانت معظم نصوص نيتشه تنضح موسيقى، ولا تفتأ تفصح عن الفيلسوف المفتون حدّ التماهي مع الموسيقيّ الذي يسكنه، لدرجة بوّأه هذا الاهتمام الوجودي الحاد أن يكون فيلسوف الموسيقى الأكثر جدارة في تاريخ الأفكار، ففي الوقت نفسه حاول صاحب "ميلاد التراجيديا" في حياته ومنذ يفوعته أن يزاوج بين التنظير لها كتابة والإبداع فيها تلحينا إذ ناهزت مؤلفاته الموسيقية على البيانو والكمان الثلاثة والأربعين (ممّا تمّ الحفاظُ عليه وتسجيله أو وصلنا بالأحرى).

حاول صاحب "ميلاد التراجيديا" في حياته ومنذ يفوعته أن يزاوج بين التنظير للموسيقى كتابة والإبداع فيها تلحينا إذ ناهزت مؤلفاته الموسيقية على البيانو والكمان الثلاثة والأربعين

الموسيقى كهدية

"تغدو الحياة خطأ بدون موسيقى" يصدح نيتشه في كتابه اللاذع "أفول الأصنام" الشذرة 33، فصل "حكم وإشراقات". هذا ما تَمثّلَه في أسلوب حياته الفعليّ، حتّى أنّه كان يعايُد الأقلّية النادرة من الأصدقاء المحيطين به بإبداعاته اللحنية، وفي ناصية القائمة معشوقته الرّوسية لو سالومي، إذ كتب لها في رسالة مؤرّخة بنهاية أغسطس/ آب 1882 مُبشِّرا إيّاها بأنه لحّن إحدى قصائدها: "في ناومبورغ استولى عليّ شيطان الموسيقى مجدَّدا- وقد ألّفت لحنا لقصيدتك 'صلاة لأجل الحياة' وصديقتي من باريس، لويزه أوت، ذات الصوت المعبّر والبارع في قوته، ستغنّيه يوما ما لي ولك".

shutterstock
من أعمال الفيلسوف الألماني نيتشه.

وقبلها أهدى لأمّه فرانسيسكا وأخته إليزابيث معا قطعة "صدى ليلة رأس السنة" في رسالة مؤرخة بـ 23 ديسمبر/ كانون الأول 1871 التي سيؤدّيها صديقه الموسيقي غوستاف كروغ، زِدْ على ذلك قطعة "مسيرة الفرسان الهنغارية" المهداة إلى عمه ثيوبالد و"أغنية الحب" المهداة إلى عمته روزالي كما يشير إلى ذلك في الرسالة نفسها، وأمّا الشخصية الأقدس بعد لو سالومي فهي كوزيما ابنة الموسيقار فرانز ليست، زوجة الموسيقي المريب ريتشارد فاغنر، التي أهدى لها في السنة ذاتها 1871 قطعة رباعية الأجزاء "أصداء ليلة رأس السنة الجديدة/ أغنية الموكب/ رقصة الفلاحين/ وقرع الأجراس" كي تؤدّيها في حفلٍ بقيادة الموسيقي هانز ريختر، وبحضور زوجها فاغنر وكثير من الملحنين المرموقين فكان رد فعل فاغنر أن خرج من العرض مستهجنا اللحن النيتشي، بل وكان صريحا معه على نحو ساخر لاحقا: "أن تكونموسيقيّا، هو ما سأكونه أنا تقريبا لو صرتُ فيلولوجيّا". ومع ذلك يبقى أعنف انتقادٍ وُجّه لنيتشه ما صدر عن الموسيقي هانز فون بولاو عبر رسالة صادمة عندما وسم قطعة "تأمل مانفريد" على البيانو التي أرسلها له فيلسوفنا بحماس مستبشرا رأيه، فجاءه الانطباع السيء بأن وصم لحنه بالأشدّ معاداة للموسيقى ذاتها، لدرجة تساءل مرّات إن كان الأمر مجرد مزحة من نيتشه، كأن يكون قصده محاكاة ساخرة لموسيقى المستقبل! مردفا بقسوة: "تصف موسيقاك بأنّها مروّعة - إنها في الواقع أكثر فظاعة ممّا تدرك، ليس بطريقة تضرّ بالمصلحة العامة وحسب، بل أسوأ من ذلك: إنّها تضرّ بك".صمت نيتشه لفترة قبل أن يردّ برسالة مؤرخة في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1872 مُدافعا عن تكوينه الموسيقي الذاتي، منحازا لمزاجه الضاري الذي تتماوج فيه البهجة بالازدراء معا، مُعربا برباطة جأش: "هذه ليست موسيقى على الإطلاق؟ يجعلني هذا سعيدا جدا".

والغريب أن يُكرّرها نيتشه فيرسل إلى هانز فون بولاو سنة 1887قطعة "ترنيمة الحياة"، هذا الأخير تجاهله بذات القسوة، موكلا زوجته ماري لكتابة ملاحظة يزعم فيها أنه غارق في العمل ولا وقت له للردّ.

 في المقابل تلقى خطابا ألطف ممّا سبق من الموسيقي يوهانس برامز الذي اكتفى بأن شكره على قطعة "ترنيمة الحياة" التي أرسلها له وهذا ما اعتبره نيتشه تقديرا وإطراء استثنائيّا، لكن الصدمات تفاقمت حينما لم يستسغ الجمهور عزفه في بازل، الأمر الذي قُوبِل بالاستياء، بحسب الموسيقي جوليوس بيكارد وهذا ما وثّقه كوهلر، في كتابه "سرُّ زرادشت".

 

الفلسفة والموسيقى

لم ينقطع تأليف نيتشه الموسيقي ولم يَرْعَوِ فاستأنف إرسال ما يلحنه لكبار الموسيقيين من مُجايليه، وبعث في أكتوبر/ تشرين الأول 1887 قطعة "ترنيمة الحياة" إلى قائد الأوركسترا فيليكس موتي مخاطبا إيّاه: "أتمنى أن تكون هذه القطعة الموسيقية مُكمِّلة لكلمة الفيلسوف... إنّ تأثير فلسفتي يجد تعبيره في هذه الترنيمة".

وُلد نيتشه في منطقة ساكسونيا عريقة التقاليد الموسيقية بألمانيا وكانت تابعة لبروسيا آنذاك، وقد عُرفت بلدته لايبزيغ بأنها موطن العديد من الملحنين المرموقين مثل شوتز، باخ، هاندل، شومان، وفاغنر.

بحسب جورج ليبرت في كتابه" نيتشه والموسيقى" فأب نيتشه الذي كان قِسّا لوثريا عُرف هو الآخر بموهبته كعازف على البيانو، وقد توفي عندما كان نيتشه في الخامسة من عمره، وحينما انتقلت العائلة إلى نومبورغ، حصلت والدته فرانسيسكا على بيانو وأصبحت أول معلمة بيانو لنيتشه منذ 1851.

shutterstock
نصب تذكاري لريتشارد فاغنر في وسط بايرويت، حيث عاش الملحن الشهير السنوات الأخيرة من حياته.

تعود أولى محاولاته في ارتجال التلحين إلى سنة 1857: قطعة "أليغرو" تتمثّل هذه الفترة من يفوعته، حتّى أنّه أسّس مع صديقين نادي جرمانيا للموسيقى في الفترة بين 1861 و1865، في حين يظل لقاؤه بالموسيقار ريتشارد فاغنر المنعطف الحادّ في سيرة أفكاره، وحدث ذلك في نوفمبر/ تشرين الثاني 1868 بمنزل المستشرق هيرمان بروكهاوس وكان هذا متخصصا في اللغة السنسكريتية والفارسية، ولعله من ألهمه بالزرادشتية.

تأخّرت الأعمال الموسيقية الكاملة لنيتشه في الصدور حتى عام 1976 في مجلد نشره "كيرت بول جانز"، ويتضمن مؤلفات ما قبل النضج ما بين 1858 و1863 وهي ألحان لقصائد كلّ من: كلاوس جروث، ساندرو بيتوفي، هاندل، فريديريك روكريت، جوزيف فون أيشندورف، أوغست هوفمان فون فالرسليبن.

وبالنظر إليها كمحض ارتجالات فهي مسكونة بأطياف موسيقى كلٍّ من: مندلسون، موزارت، شومان، فرانز ليست.

هيرمان ليفي

ثمّ مؤلفات فترة النضج ما بين 1864 و1882، وهي ألحان لقصائد كلّ  من: بوشكين، ساندور بيتوفي، أدلبرت فون شاميسو، لورد بايرون، إيمانويل جيبل، جوته، لو سالومي، بذات المنحى الارتجالي لكن مع رصانة مفارقة لفترة يفوعته، ومجملها يحلّق بعيدا عن الفلك الفاغنريٍّ، بختْمٍ نيتشيٍّ ينحاز فيه إلى الديونيزوسية، منزاحا ما أمكن عن النزوع الأبولوني السابق.

وفي ازدواجية تجربته الأبولونية والديونيزوسية، تشكّلت ألحانه بصوغٍ متعدّد جمع هذا المزيج من الأغنية، والسوناتا، والرباعية الوترية، والسيمفونية، والأوبرا، والكانتاتا، والكتلة، والخطابة، وقداس الموتى، وحتى التمثيل الإيمائي.

 

معركة روحية

لقد أوجزت لو سالومي الجدل الموسيقي والفلسفي في كتابها عن نيتشه: "كلما ارتقى كفيلسوف في تمجيده للحياة، تعمقت معاناته كإنسان... هذه المعركة داخل روحه، المصدر الحقيقي لفلسفة سنواته الأخيرة، لم يتم تمثيلها بشكل كامل إلا في كلماته وكتبه، ولكن ربما يبدو ذلك بشكل أعمق من خلال موسيقاه لقصيدتي "ترنيمة للحياة" التي ألفها في صيف 1882 عندما أقام معي في تورينغن Thüringen".

لم يُنصَف نيتشه كموسيقي إلا في أواخر القرن العشرين، وبهذا المنحى يرى الموسيقي الروسي ميخائيل أركادييف في ارتجالات نيتشه الموسيقية موهبة هائلة بالرغم من انغلاقها

لم يُنصَف نيتشه كموسيقي إلا في أواخر القرن العشرين، بالنظر إليه كمبدع لا راهني، والمستقبل هو ما يعيد الاعتبار إلى استباقيته الزمنية، وبهذا المنحى يرى الموسيقي الروسي ميخائيل أركادييف في ارتجالات نيتشه الموسيقية موهبة هائلة بالرغم من انغلاقها، وهي أشبه ما تكون موسيقى سينمائية، أو اكتشافا موسيقيا سينمائيا قبل ولادة السينما، في ما تذهب عازفة البيانو السلوفاكية إيلينا ليتنيانوفا أبعد من ذلك، إذ تقيّم كتاب "هكذا تكلم زرادشت" كما لو كان محض سيمفونية أو سوناتا من أربع حركات، وأمّا موسيقاه الفعليّة: "أثناء أداء موسيقاه، أشعر بعدم الراحة من عدم كمالية شكلها، لكنني أقدر ثراءها العاطفي وحلميتها وحزنها... بدون هذه الموسيقى، سيكون فهمنا لنيتشه غير مكتمل".

shutterstock
نصب نيتشه التذكاري في ساحة السوق في نومبورغ

وهذا ما يتردّدُ صداه بعمق وتفصيل في الكتاب الجماعي "نيتشه والموسيقى: الأفكار الفلسفية والتجارب الموسيقية لكلّ من إيسيغول دوراك أوغلوومايكل ستاينمانويونس تونجل".

سواء كان نيتشه فاشلا في موسيقاه بحسب نظرة مُجايِليه الموسيقيين أو كان هاويّا موهوبا وخلّاقا بحسب الموسيقيين اللاحقين، فتاريخ الأفكار يسجّل له بإطلاقيَّة دامغة: ما من فيلسوف كان في جوهره موسيقيّا إلى هذا الحدّ الذي كان عليه.

font change

مقالات ذات صلة