في العلاقة الديناميكية بين الرسم والتصوير الفوتوغرافي

معرض جديد في "تيت مودرن"

 Larina Fernandes/Tate
Larina Fernandes/Tate

في العلاقة الديناميكية بين الرسم والتصوير الفوتوغرافي

لندن: حين اختُرع التصوير الفوتوغرافي اكتشف الرسامون أن ما كانوا يفعلونه لم يعد إعجازيا. عشرات من الساعات يمضونها في مواجهة قماشة الرسم صار في إمكان المصور أن يختصرها إلى دقائق وتكون النتيجة أكثر دقة. غيّر ظهور التصوير مجرى الرسم إلى الأبد. في هذا المعرض الفريد الذي يقيمه متحف "تيت مودرن" بلندن بعنوان "الإمساك باللحظة"، نتعرّف إلى تفاصيل العلاقة الديناميكية بين هذين الوسيطين من خلال بعض الأعمال الفنية الأشهر في عصرنا.

في القرن التاسع عشر عبّر الانطباعيون في فرنسا عن قلقهم في مواجهة تقنيات التصوير الفوتوغرافي ونجحوا في الخلاص بالرسم من خلال اكتشاف الطبيعة في تحولاتها الآنية المباشرة أو ما سُمي بالانطباع اللحظوي. ذلك ما لم يكن التصوير في حينه قد تمكّن من الخوض فيه. غير أن تقنية التصوير تطوّرت فصارت تنافس الأسلوب الانطباعي في التقاط لحظة التحوّل الفجائي. كان على الرسم أن يبحث عن حلول أخرى، يؤكد من خلالها ضرورته، مستفيدا من التصوير.

ذلك ما يستعرضه بعين ناقدة ومتفحصة، المعرض الذي يستمر حتى يناير/ كانون الثاني 2024. موضوع المعرض ليس غامضا على الرغم من غموض البحث في دوافعه وخلفيّاته. إلى أي حدّ استفاد الرسم من التصوير الفوتوغرافي ووظّفه لحسابه. والعكس يجوز أيضا. هناك نصوص جدارية وُضعت قريبا من الأعمال الفنية لتوضح الفكرة لكنها جاءت مبسّطة وبطريقة تكاد تكون ساخرة. تقرأ مثلا "بينما يتصارع المصوّرون مع آليات الكاميرا، يعمل الرسامون على سطح القماش وبنية الطلاء". تلك فكرة مبسّطة لا ترتقي إلى مستوى الأعمال المعروضة التي صارت جزءا من تاريخ الفن.

نكتشف في هذا المعرض كيف طمس الفنانون الحدود بين الرسم والتصوير الفوتوغرافي، وابتكروا أشكالا جديدة ومثيرة من الفن. ونرى كيف تكاملت هاتان الوسيلتان المميزتان بمرور الوقت

نكتشف في هذا المعرض كيف طمس الفنانون الحدود بين الرسم والتصوير الفوتوغرافي، وابتكروا أشكالا جديدة ومثيرة من الفن. من اللوحات التعبيرية لبابلو بيكاسو إلى الصور المذهلة التي التقطها هيروشي سوغيموتو، نرى كيف تكاملت هاتان الوسيلتان المميزتان بمرور الوقت. وصولا إلى مطبوعات آندي وارهول بالشاشة الحريرية، أو أعمال الرسم الواقعي لجيرهارد ريختر في ستينات القرن العشرين وثمانيناته، أو الصور البانورامية الواسعة النطاق لأندرياس غورسكي. حتى ليُشك في ما إذا كان الأميركي آندي وارهول رساما حقا، هو الذي حول الصور الفوتوغرافية إلى رسوم من طريق تقنية الطبع بالشاشة الحريرية.

Jai Monaghan

يقيم المعرض حوارا مفتوحا بين بعض أعظم الرسامين والمصورين في العصر الحديث، نستكشف من خلاله كيف استخدمت الفرشاة والعدسة لالتقاط اللحظات في الوقت المناسب. لكن مشكلة المعرض تكمن في أنه استند بشكل أساس إلى مجموعة رجل الأعمال التايواني بيير تشين من خلال مؤسسته YAGEOوهذا ما دعا النقاد إلى اعتباره معرضا غير جاد. فالرحلة المفترضة من خلال الرسم والتصوير مشوّشة، وفي بعض الأحيان مبسّطة بشكل هزلي. لكن ذلك شأن كل المعارض التي تعتمد على مبدأ المقاربة. شهدت باريس قبل سنوات معرضا بعنوان "رودان - بيكاسو". كان ذلك المعرض مناسبة لكي يُخرج متحفا بيكاسو ورودان ما تكدّس في مخازنهما من أعمال ليصنعا منها مناسبة لاجتذاب السياح. يملك بيار تشين أعمالا فنية في إمكانها أن تفتح الخيال على آفاق جديدة، فضلا عن امتلاكه موهبة النظر إلى الرسم والتصوير بقوة المزاج ذاته. ما يقوله النقاد ليس صحيحا دائما.

 

من خلال العدسة

يعدّ الرسام البريطاني ديفيد هوكني الأبرز في مجال تقريب الصلة بين الرسم والتصوير والأكثر افصاحا عن تلك الصلة. دأب هوكني منذ أكثر من عشرين سنة على رسم لوحات كبيرة للطبيعة لا يُخفي أصلها الفوتوغرافي، بل أنه كان أحيانا يعرض ذلك الأصل بتقنية تقرّبه من الرسم. لعبة كان الفنان قد مارسها يوم رسم مسابح كاليفورنيا في ستينات القرن الماضي. كانت تلك العلاقة واحدة من أسرار "البوب آرت" كما قدمه هوكني. في المقابل نجح الياباني هيروشي سوغيموتو في أن يصنع صورا هي أشبه بالرسوم حتى يصعب على المرء التفكير في أصلها الفوتوغرافي. لم يكن حضور لوسيان فرويد (1922 ــ 2011) في المعرض مفاجئا، فهذا الفنان اعتاد أن يرسم صورا شخصية بحجم الكف كما فعل مع الملكة اليزابيث الثانية، غير أن الألماني جيرهارد ريختر (1932) قد يكون بلوحاته الأربع المفاجأة التي تسرق الأضواء من الجميع. فالرسام الذي عُرف تجريديا يفصح عن مهاراته في تقليد الصورة الفوتوغرافية يوم كان رساما واقعيا حتى عام 1983. لكنها واقعية تنبئ بنزعة تجريدية.

 Larina Fernandes/Tate

لم يكن القيمون على المعرض أحرارا في ما اختاروه من الأعمال الفنية التي تثبت نظريتهم، بسبب اعتمادهم على مصدر وحيد هو مجموعة رجل الأعمال التايواني تشين وهذا ما دفعهم أحيانا إلى التغاضي عن وجود عدد من الأعمال تبدو مقحمة في مسألة هي بعيدة عنها. غير أن واحدة من أجمل المفاجآت السعيدة بالنسبة إلي أن أرى عملا للفنان السوري مروان قصاب باشي. كان الشاعر بدر شاكر السياب حاضرا في المعرض من خلال لوحة مروان. وليست هي المرة الأولى أرى فيها عملا لمروان في معرض عالمي. في هذا المعرض يبدو الفنان الذي عاش معظم حياته في برلين، في مكانه الطبيعي. فهو واحد من أكثر الفنانين حماسة لكسر الحدود بين الرسم والتصوير منحازا الى قوة الرسم التعبيرية. 

  

font change

مقالات ذات صلة