يصعب العثور في زمن التحولات العلمية على مؤلفات ثقافية، نقدا وفكرا وشعرا وفنا ورواية، تضاهي الزخم الفكري الذي نعثر عليه في كتب صدرت في سبعينات القرن العشرين. ذلك أن الجرأة التي طبعت تلك الأعمال، سواء على مستوى رصد الواقع الثقافي أو تفكيك المفاهيم أو تأصيل النظريات ومحاولة تبيئتها، انطلاقا مما تقترحه الأعمال الفكرية من ميكانيزمات ونظم ومسالك، بعيدا من الممارسة الإسقاطية التي تحول العملية النقدية إلى وسيلة لمناقشة آراء وقضايا ومواقف لا ترقى إليها تلك الأعمال الأدبية والفكرية والفنية. لقد فطن الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز الذي تشهد هذه الأيام مئوية ولادته وذكرى ثلاثين عاما على رحيله (1925ـ1995) أن مهمة الفلسفة تكمن في ابتداع المفاهيم، لذلك سلك دروبا خفية ومسالك غريبة على مستوى التفكير، لم يستطع أحد أن يضاهيه فيها باستثناء رفيق دربه فليكس غاتاري، وهو ما دفع بابن موطنه ميشال فوكو إلى إطلاق عبارته الشهيرة: "ذات يوم سيصبح العالم دولوزيا".
منسي الثقافة العربية
إن ملاحظة صاحب "الكلمات والأشياء" بدت منذ الألفية الثالثة، تلوح في الأفق الفكري العالمي، بحيث يجد الباحث نفسه أمام مجموعة من المفاهيم التي طالما شغلت دولوز في أبرز مصنفاته المفاهيمية، مثل الرغبة والجسد والاختلاف والصورة والسينما. إنها بطريقة ما تشكل عدة براديغمية لفهم أسرار الحياة المعاصرة وفتح أشرعتها على تخوم الفهم والحلم والتأمل. وعلى الرغم من الترجمات الكثيرة التي رافقت سيرة صاحب "الاختلاف والتكرار" إلى العربية مثل "الصورة الزمن"، "الصورة الحركة"، "نيتشه والفلسفة" و"ما هي الفلسفة؟"، لا يزال دولوز مجهولا داخل الثقافة العربية المعاصرة، بحيث أن مفاهيمه تشكل ضرورة ملحة داخل مجال البحث العلمي، خاصة في ما يتعلق بمفاهيم من قبيل الجسد والصورة والمتخيل والرغبة، إذ تجد صعوبة بالغة في الوصول إلى القراء وذلك بسبب النسق الشفهي التقليدي الذي لا تزال ترزح تحته الثقافة العربية والمتمركزة أساسا حول الخطاب الشفهي أو المكتوب، مقارنة بالخطاب البصري الذي تقام له الولائم للمنع وإقامة نوع من الحدود والأسيجة على مختلف الأشكال التعبيرية البصرية، حتى لا تخترق الواقع الثقافي العربي وتصبح علامة دالة على تحول ثقافي حقيقي، ينتبه لما ينضح به الواقع من تغيرات في زمن التقنية، وهي تستخدم الناس وتحولهم إلى أداة لتكريس التفاهة وتفاقم البلاهة.