في راهنية جيل دولوز وتهميشه في الثقافة العربية

النقد الفني شكلا من التفكير

Wikipedia
Wikipedia
الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز

في راهنية جيل دولوز وتهميشه في الثقافة العربية

يصعب العثور في زمن التحولات العلمية على مؤلفات ثقافية، نقدا وفكرا وشعرا وفنا ورواية، تضاهي الزخم الفكري الذي نعثر عليه في كتب صدرت في سبعينات القرن العشرين. ذلك أن الجرأة التي طبعت تلك الأعمال، سواء على مستوى رصد الواقع الثقافي أو تفكيك المفاهيم أو تأصيل النظريات ومحاولة تبيئتها، انطلاقا مما تقترحه الأعمال الفكرية من ميكانيزمات ونظم ومسالك، بعيدا من الممارسة الإسقاطية التي تحول العملية النقدية إلى وسيلة لمناقشة آراء وقضايا ومواقف لا ترقى إليها تلك الأعمال الأدبية والفكرية والفنية. لقد فطن الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز الذي تشهد هذه الأيام مئوية ولادته وذكرى ثلاثين عاما على رحيله (1925ـ1995) أن مهمة الفلسفة تكمن في ابتداع المفاهيم، لذلك سلك دروبا خفية ومسالك غريبة على مستوى التفكير، لم يستطع أحد أن يضاهيه فيها باستثناء رفيق دربه فليكس غاتاري، وهو ما دفع بابن موطنه ميشال فوكو إلى إطلاق عبارته الشهيرة: "ذات يوم سيصبح العالم دولوزيا".

منسي الثقافة العربية

إن ملاحظة صاحب "الكلمات والأشياء" بدت منذ الألفية الثالثة، تلوح في الأفق الفكري العالمي، بحيث يجد الباحث نفسه أمام مجموعة من المفاهيم التي طالما شغلت دولوز في أبرز مصنفاته المفاهيمية، مثل الرغبة والجسد والاختلاف والصورة والسينما. إنها بطريقة ما تشكل عدة براديغمية لفهم أسرار الحياة المعاصرة وفتح أشرعتها على تخوم الفهم والحلم والتأمل. وعلى الرغم من الترجمات الكثيرة التي رافقت سيرة صاحب "الاختلاف والتكرار" إلى العربية مثل "الصورة الزمن"، "الصورة الحركة"، "نيتشه والفلسفة" و"ما هي الفلسفة؟"، لا يزال دولوز مجهولا داخل الثقافة العربية المعاصرة، بحيث أن مفاهيمه تشكل ضرورة ملحة داخل مجال البحث العلمي، خاصة في ما يتعلق بمفاهيم من قبيل الجسد والصورة والمتخيل والرغبة، إذ تجد صعوبة بالغة في الوصول إلى القراء وذلك بسبب النسق الشفهي التقليدي الذي لا تزال ترزح تحته الثقافة العربية والمتمركزة أساسا حول الخطاب الشفهي أو المكتوب، مقارنة بالخطاب البصري الذي تقام له الولائم للمنع وإقامة نوع من الحدود والأسيجة على مختلف الأشكال التعبيرية البصرية، حتى لا تخترق الواقع الثقافي العربي وتصبح علامة دالة على تحول ثقافي حقيقي، ينتبه لما ينضح به الواقع من تغيرات في زمن التقنية، وهي تستخدم الناس وتحولهم إلى أداة لتكريس التفاهة وتفاقم البلاهة.

تجد مفاهيم دولوز صعوبة بالغة في الوصول إلى القراء وذلك بسبب النسق الشفهي التقليدي الذي لا تزال ترزح تحته الثقافة العربية

ففي غمرة التحولات الأنطولوجية التي باتت تنضح بها الممارسات التعبيرية البصرية مثل السينما واللوحة والفوتوغرافيا والغرافيك وسواها، يصعب العثور على كتاب مانع بأفكاره وذكي في التقاطاته المفاهيمية لهذه الأشكال الفنية، من خلال إخضاعها للنقد والتحليل والتأصيل كأنها عمل أدبي. بهذه الطريقة يتحول النقد الفني من كونه ممارسة أدبية وصفية تستطرد في الاستعارة والمجاز، إلى أن يغدو شكلا من أشكال التفكير الذي يمنح الناقد أفقا مختلفا على مستوى التفكير والكتابة.

إن اللوحة والسينما والفوتوغرافيا عبارة عن أشكال فنية تعبيرية قادرة على أن تبلور مجموعة من الحقائق التاريخية والمفاهيم الفكرية التي طالما جعل منها دولوز مختبرا للتفكير، سيما في دراسته التأسيسية حول "الصورة الزمن" و"الصورة الحركة"، إلى جانب مصنفه الفكري المهم الذي يحمل عنوان "فرنسيس بيكون: منطق الإحساس".

GettyImages
منظر عام لمعرض الفنانة ماري لور دو ديكر يتضمن بورتريها للفيلسوف جيل دولوز، ضمن مهرجان التصوير الفوتوغرافي MAP في تولوز، فرنسا، 3 مايو 2019

كتاب جديد ـ قديم

نجح الكاتب والأكاديمي عادل حدجامي في كتابه "الوجود بالاختلاف: مدخل إلى فلسفة جيل دولوز" الذي صدر حديثا في طبعة ثانية ضمن "منشورات المتوسط" بإيطاليا، في إعادة الاعتبار الى هذا الفيلسوف المحلق في سماء الفلسفة، والذي كان قادرا على تجاوز الأنساق الفلسفية الكبرى. غير أن تعامل حدجامي مع دولوز، لم يأت من باب الشرح وإعادة التعريف بفلسفة دولوز وإنما في محاولة تبيان مداخله ومساربه وما يقترحه علينا من أفق فلسفي مغاير. قسم حدجامي كتابه الذي في أصله عبارة عن أطروحة دكتوراه بدأ الاشتغال عليها عام 2001 إلى 3 أقسام: يستعرض في قسمه الأول "المرجعيات والصيرورات" من خلال تناول جملة من المفاهيم المشكلة لفلسفة دولوز، مثل الحدس والوجود والديمومة والتجريبية والوعي المتعدد والرغبة وموانعها، وصولا إلى "العالم باعتباره إيتيقا" و"إيتولوجيا"، بكل ما يرتبط بهما من مفاهيم مثل الجوهر والصفات والأخلاق.

تعامل حدجامي مع دولوز، لم يأت من باب الشرح وإعادة التعريف بفلسفة دولوز وإنما في محاولة تبيان مداخله ومساربه وما يقترحه علينا من أفق فلسفي مغاير

أما القسم الثاني، "موانع الفكر وإبدالاتها"، فخصصه الباحث للحديث عن مجمل الصور الوثوقية ومسلمات تأسيسها، مثل الابتداء والطبيعة المستقيمة للفكر والتوافق ونموذج الحس المشترك، متوقفا عند مفهوم التعرف لدى كل من كانط وديكارت، مرورا بالمسلمات ونتائج صورها الوثوقية من الخطأ نقيضا للحقيقة والقضية معيارا للصحة والفساد، وصولا إلى تحديد طبيعة وماهية الفكر عبر تقديم مفهوم للمفهوم انطلاقا من تعدده وحركيته وتعاليه. أما القسم الثالث، "أنطولوجيا التواطؤ ومنطق الحدث"، فيقدم عبره صاحب "سبينوزا فلسفة عملية" سردا فكريا لبعض المفاهيم مثل الوجود والزمان والاختلاف والحدث والتفرد واللغة وغيرها من المفاهيم.

GettyImages
الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز وفيليكس غيتاري

بلاغة الفكر

تأتي قيمة هذا الكتاب في كونه يعيد الى جيل دولوز مكانته الاعتبارية في تاريخ الفلسفة، فهو ليس فيلسوفا نسقيا، كما هو حال عدد من الفلاسفة، بل يشتغل وفق آلية فلسفية مغايرة يهدم فيها الحدود والسياجات ويبني عبرها فكرا فلسفيا لا يؤمن بالبداية والنهاية. غير أن مجمل الكتابات العربية اللاحقة على قلتها التي تناولت دولوز نقدا وتحليلا في إطار فلسفة "ما بعد الحداثة"، لم تقف عند كتبه الخاصة بالمجال الفني، وذلك بحكم قدرته على تشريح الخطاب البصري الذي بذل فيه دولوز مجهودا فكريا تجاه مفهوم الصورة داخل المجال السينمائي ونظيره التشكيلي. لهذا يحرص حدجامي في كتابه هذا، على التفكير في جيل دولوز وليس تلخيصه أو تقديمه على شكل سردية فلسفية أو حكاية فكرية لها بدايتها ونهايتها. فهو كتاب مدهش في تأملاته ورائق في حفرياته المفاهيمية، بحكم قدرته المدهشة على توليد النصوص والمفاهيم وجعلها تأخذ أبعادا تأويلية أخرى. خاصة أنه في الفترة التي اشتغل فيها حدجامي على دولوز، لم يكن هناك أي كتاب بالعربية وحتى الموجودة بالفرنسية كانت قليلة جدا. لذلك تطلب الأمر من الباحث أن يحشد ترسانته المفاهيمية ويضع "سردا" للأنساق الفلسفية كما يراها هو، سيما أن صعوبة مثل هذه الأبحاث تدفع الباحث إلى بناء تصور خاص للكتاب والاجتهاد في القبض على الخيوط الفكرية للنصوص وتفتيتها على شكل مفاهيم وإعادة البناء من جديد، وفق طريقة تأويلية تولد الأفكار والمواقف وتعمل على تبيئة المفاهيم وبلورتها داخل تصور فكري يتماشى مع الأفق الفلسفي الذي يدافع عنه جيل دولوز.

الأفق الذي يدافع عنه دولوز، يصعب العثور عليه داخل فلسفة عربية يجزم البعض أنها لم تعد تفكر على الإطلاق، بسبب مركزيتها داخل موضوعات ذات صلة بالفلسفة الإسلامية وبالخطاب الديني والاستشراق

ورغم محاولة الباحث أن يكون كتابه سهلا ومقروءا، إلا أن القارئ غير المتخصص يجد صعوبة في فهم بعض الأفكار والمفاهيم التي تفرض عليه الرجوع إلى تاريخ الفلسفة والتدقيق فيها وفي السياقات التي تبلورت داخلها. مع العلم أن صعوبة بعض الفصول لا يتحملها الباحث نفسه، لأنها تعود إلى صعوبة فعل المجابهة لترجمة وفهم دولوز وتحويله إلى لغة لم تفطن بعد إلى قيمة هذا الفيلسوف ولا عملت على ترجمة بعض مفاهيمه ومحاولة تبيئتها داخل سياق الفكر العربي، وذلك لأن الأفق الذي يدافع عنه دولوز، يصعب العثور عليه داخل فلسفة عربية يجزم البعض أنها لم تعد تفكر على الإطلاق، بسبب مركزيتها داخل موضوعات ذات صلة بالفلسفة الإسلامية وبالخطاب الديني والاستشراق وغيرها من الموضوعات التي باتت تشكل هاجسا لدى الباحثين الجدد.

Wikipedia
الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز

بذل حدجامي مجهودا كبيرا في تقريب دولوز إلى الثقافة العربية، في وقت لم تكن فيه هذه الثقافة قد تعرفت بعد الى مبادئ التفكير الفلسفي المعاصر. لذلك تبدو هندسة الكتاب ومضامينه وطروحاتها وطريقته في التحليل واختيار أهم المفاهيم الدولوزية، تجعله يتجاوز كونه مجرد أطروحة دكتوراه، وهو ما جعله عام 2012 يقطف "جائزة الشيخ زايد للكتاب" ضمن فرع المؤلف الشاب.

font change

مقالات ذات صلة