الأزمة بوصفها فرصة للانتقال إلى عالم جديد

موران أحد أبرز الفلاسفة الذين اهتموا بدراستها

AFP
AFP
عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إدغار موران

الأزمة بوصفها فرصة للانتقال إلى عالم جديد

تعد فلسفة الأزمة مجالا غنيا ومعقدا، حيث يستخدم هذا المفهوم بوصفه نقطة انطلاق لتأملات عميقة حول الإنسان والمجتمع والتاريخ. فالأزمة، وما بعدها من قطيعة أو تحول، هي موضوع متكرر بين العديد من الفلاسفة الذين سعوا إلى فهم وتفسير الاضطرابات الكبرى في عصرهم. إذ إنها تلك اللحظة التي تمثل نقطة التحول عندما يبدو العالم مترددا، لهذا لطالما فتنت الفلاسفة. مما يجعل منها لغزا وإلهاما فكريا في الوقت نفسه، ودافعا للتفكير في اسباب التقدم والتطور التاريخي والبشري، وذلك لكونها لحظة تنهار فيها الهياكل القائمة لإفساح المجال للمجهول. على مر العصور، كانت الأزمة مرآة لهشاشتنا ومصدر ولادتنا من جديد.

الإخلال بالتوازن

يخبرنا الشاعر والفيلسوف الفرنسي بول فاليري في دراسته المهمة "قول في الذكاء"، أن الأزمة هي الانتقال من نظام فعال إلى آخر بديل، يتميز بعلامات أو أعراض حساسة، مما يجعل الزمن يبدو أنه يغير طبيعته أثناء الأزمات، فيقاس بالتباين وليس بالدوام. بمعنى آخر، تكشف الأزمة عن أسباب جديدة تخل بالتوازن القائم، وتحفز التفكير والتكيف. إنها تتضمن تمزقا ونقطة تحول براديغمية حيث يتم تحدي المعايير القديمة، مما يسمح بالنقد المنهجي للهياكل القائمة. وأما لغة، فتعرف الأزمة على أنها "فترة من القلق والارتياب، ومرحلة يشتد فيها الصراع، ومرحلة انتقالية وفجائية...". وفنيا (وفق قاموس "علم الجمال") تثير "اهتمام علم الجمال لأنها تحصل في مجال علم الجمال نفسه أو في مجال الفن. فنلاحظ لحظات تجدد أو تشكيك تتعارض مع فترات أكثر استقرارا يتبنى فيها الفن، أو التفكير حول الفن، بعض الأفكار ويطورها في خلال فترة زمنية طويلة". لهذا نتحدث عن الأزمة في الفن منذ بلينيوس الأكبر، في مطلع القرن الأول ميلادي، وصولا الى أزمة الفن المعاصر اليوم. إنها إذن إعلان حالة طوارئ، وإبانة بانتقال إلى حالة مغايرة بعد تأزم وصراع. أما النهاية فلا تعني "الحد" فحسب، بل يأتي من معانيها "الخشبة [التي] تحمل عليها الأحمال"، كأن بعد ذلك المنتهى يوجد جسر انتقالي يحمل وتوضع عليه أثقال ما مضى للعبور إلى ما سيأتي.

كانت الأزمة موضوع اهتمام العديد من الفلاسفة والمفكرين الذين رأوا فيها مسوغا فكريا لمجموعة من نظرياتهم وذريعة للتفكير في الراهن والتطور التاريخي

حاول فلاسفة كثر الانكباب حول هذا المفهوم، وهو ما دفع بإدغار موران، إلى البحث عما سماه بـ"علم الأزمات" (crisologie)، من خلاله يسعى خلف إيجاد منطق للأزمة، ويستكشف معناه الدقيق، أو معانيه المتعددة. إذ يتساءل "ما هي الأزمة؟"، ويجيب بأنها "تنامي الفوضى وغياب اليقين ضمن نظام ما (أكان فرديا أم جماعيا)" [مفهوم الأزمة، ص. 25]. غير أنه يدعونا إلى رؤية الأزمة ليس فقط كحدث مدمر ولكن كلحظة حاسمة لإعادة التقييم والتحول. فـ"كلما تعمقت الأزمة ودامت، أثار ذلك بحثا عن حلول أكثر فأكثر جذرية وأصولية. إذن، للأزمة على الدوام طابع الصحوة"، يخبرنا موران.

GettyImages
الشاعر والكاتب الفلسفي الفرنسي بول فاليري

لم تشغل الأزمة تفكير هذا الفيلسوف والسوسيولوجي الفرنسي فحسب، إذ كانت موضوع اهتمام العديد من الفلاسفة والمفكرين الذين رأوا فيها مسوغا فكريا لمجموعة من نظرياتهم وذريعة للتفكير في الراهن والتطور التاريخي. إذ في استكشافها للحداثة، ترى حنة أرندت أن الأزمة بمثابة تمزق ضروري يسلط الضوء على الحقائق الخفية لحالتنا الإنسانية. في كتابها "أزمة الثقافة"، تشير أرندت إلى أن الأزمة ليست مجرد كارثة ولكنها أيضا فرصة للتفكير النقدي للارتقاء فوق التفاهة اليومية. وهي تحثنا على احتضانها بوصفها لحظة للتفكير العميق، حيث يُكشف عن الإجابات الجاهزة ويمكن أن تولد من جديد أصالة العمل البشري. وهو ما يتصل بما يذهب إليه صاحب كتاب "منهج المنهج"، حيث إن الأزمة عنده هي ظاهرة مرتبطة ارتباطا وثيقا بتعقيد الحياة والأنظمة البشرية. في عمله الرائع، "الطريقة"، يطور فكرة أن الأزمات لا يمكن فهمها إلا بكل تعقيداتها، أي من خلال الأخذ في الاعتبار التفاعلات المتعددة والشكوك المتأصلة في الأنظمة الحية والاجتماعية. فالأزمة، وفقا لموران، ليست مجرد خلل وظيفي بسيط، ولكنها لحظة يتم يُسلط فيها الضوء على الشكوك والغموض الذي يحيط بالنظام. فعلى "المستوى النظمي، أي الخاص بكل نظام أيا كان. إن [هذا] المفهوم بما يعني المجموعة المنظمة عبر العلاقات المتبادلة بين مكوناتها، يستدعي بالضرورة فكرة التضاد".

GettyImages
غيورغ فيلهلم فريدريش هيغل

دعوة إلى التحول

يحملنا هذا القول إلى أن كل نظام يحمل في ثناياه شرط نهايته وأعراض خلله، وهو ما يتضح بالأزمة، بوصفها لحظة تشخيص ودعوة إلى التحول. وهو ما يستدعي منا العودة إلى رؤية صاحب "فينومينولوجيا الروح"، الذي ذهب إلى أن الأزمة خطوة ضرورية في العملية الجدلية للتاريخ. فبالنسبة لهيغل، كل أزمة هي لحظة من التناقض التي يجب التغلب عليها للسماح بالتقدم نحو شكل أعلى من التطور الروحي والاجتماعي. ويوضح الثالوث الهيغلي الشهير – الأطروحة، والنقيض، والتوليف – كيف أن الأزمة (النقيض) ضرورية للتغلب على قيود الحالة السابقة (الأطروحة) والوصول إلى حالة جديدة من الحل (التوليف). أو مثلما يخبرنا موران أنه "لا يمكن تصور تنظيم دون تضاد، لكن هذا التضاد يحمل داخله، الآن أو آجلا، وبصورة لا مفر منها، احتمال خراب النظام وتفككه"، وهو ما يتفق مع القانون الثاني للدينامية الحرارية، التي لا تؤمن بالاستقرار والثبات، فكل شيء مآله العشوائية الأنتروبية.

كل أزمة هي لحظة من التناقض التي يجب التغلب عليها للسماح بالتقدم نحو شكل أعلى من التطور الروحي والاجتماعي

غير أن هذا المعطى لم يمنع موران من أن يرى أن الأزمة فرصة "للتحول". ويستخدم هذا المصطلح لوصف العملية التي من خلالها يمكن النظام، في مواجهة اضطرابات كبيرة، أن يتطور نحو شكل جديد أكثر تكيفا. ومن وجهة النظر هذه، فإن الأزمة هي مرحلة انتقالية، وهي فترة تتحلل فيها الهياكل القديمة، مما يخلق مساحة لظهور تكوينات جديدة. ومن ثم تصبح الأزمة لحظة انفتاح، حيث يمكن أن يزدهر الإبداع والابتكار. فـ"كلما كان التركيب الحي غنيا، أصبحت علاقة التضاد والتكامل متحركة وغير ثابتة، وانجرت عنها ظواهر 'أزمات' مخلة بالنظام بسبب تحول الاختلافات إلى تعارض، والتكاملات إلى تضاد، ويمكنها في النتيجة أن تحفز إعادة تنظيم تطويرية".

AFP
عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إدغار موران

ومن وجهة النظر هذه، تكشف الأزمة عن الترابط بين جميع جوانب الحياة وتدفعنا إلى تبني نظرة شاملة ومتكاملة. ومن أجل التغلب على الأزمة، من الضروري التغلب على الانقسامات التنظيمية وتعزيز الذكاء الجماعي القادر على فهم مدى تعقيد القضايا المطروحة. فالأزمة في آخر المطاف هي الكاشف عن التضاد الذي يحمله كل نظام في طياته، وهي حتمية تاريخية لا تفتأ تكشف عنه نفسه من فترة إلى أخرى. مما يجعل منها محركا تاريخيا للتطور البشري. وهو ما جعل صاحب "المطارق" ينظر إليها على أنها شرط حتمي للوجود الإنساني. فبالنسبة الى نيتشه، تعد أزمة القيم والمعنى دافعا للفرد إلى إعادة تعريف قيمه الخاصة، وتبني مفهوم العود الأبدي، حيث تأكيد الحياة، رغم تحدياتها. والأزمات، تصبح مركزية. مما دفع بدريدا إلى قبول عدم الاستقرار وعدم اليقين كشروط لوجودنا، حيث تفتح كل أزمة للمعنى مساحة لمعنى جديد. فعنده لولا تأزم الديمقراطية، على سبيل المثل، ما تطورت الديمقراطية، ولا يتحقق الصفح إلا في حالة استحالته، أي تأزم الاستتباب.

AFP
يورغن هابرماس يتحدث في متحف اليهود خلال حفل جائزة "الفهم والتسامح" في برلين

مقاومة إغراء التبسيط

من منطلق آخر، فإن رأى هابرماس أن الأزمة تمثل تحديا للعقلانية والتواصل، ففي المقابل يعدم مفهوم الاتصال أحد المفاهيم الأساسية لدى موران، ومن خلاله وفي مواجهة الأزمة، يدعو إلى تفكير يربط وينسج الروابط بين مجالات المعرفة التي تبدو متباينة والتجربة الإنسانية. إذ إنها "تظهر ما كان مخفيا وكامنا وافتراضيا داخل المجتمع (أو الفرد)". فالأزمة هي لحظة مميزة لإعادة التفكير في علاقتنا مع العالم، ومع أنفسنا ومع الآخرين. إنه يشجعنا على أن نصبح واعين أخلاقيا، إلى إيقاظ المسؤولية الفردية والجماعية.

هكذا تصبح الأزمة مدرسة للتعقيد، ولحظة يصبح فيها التعلم والتطور ممكنين بفضل الانفتاح المتزايد والقدرة على التكيف

يحذر موران من إغراء التبسيط والاختزال. في مواجهة الأزمات، من السهل البحث عن حلول سريعة ومبسطة. ومع ذلك، بالنسبة لهذا الفيلسوف، فإن الاستجابة الحقيقية للأزمة تكمن في قبول التعقيد، وفي القدرة على تجاوز حالة عدم اليقين واحتضان تنوع وجهات النظر. وهكذا تصبح الأزمة مدرسة للتعقيد، ولحظة يصبح فيها التعلم والتطور ممكنين بفضل الانفتاح المتزايد والقدرة على التكيف.

ومثلما يؤكد في كتابَيه "المنهج" و"في مفهوم الأزمة" ضرورة التفكير المعقد لفهم الأزمات المعاصرة والاستجابة لها، فالأزمة، بحسب موران، لا يمكن اختزالها في مجرد فشل نظام أو حدث معزول، على خلاف مع ميشال فوكو الذي تصبح الأزمة، بالنسبة إليه، أداة للكشف عن الآليات الخفية للهيمنة ورافعة للتحرر المحتمل. ويجب أن ينظر إليها على أنها عملية دينامية، وتفاعل بين العديد من الأنظمة والأنظمة الفرعية. إن التفكير المعقد يسمح لنا برؤية الأزمات ليس باعتبارها انهيارات أو حالات شاذة، بل كمراحل طبيعية في تطور الأنظمة. فـ"الأزمة حقل للتطور. إنها نوعا ما مخبر لدراسة العمليات التطورية"، يقول.

كتاب "المنهج"

ويلاحظ موران أن الأزمات هي لحظات الحقيقة التي تسلط الضوء على عيوب وتناقضات أنظمتنا الفكرية والتنظيمية. على سبيل المثل، تكشف الأزمة البيئية عن الانفصال بين المجتمعات البشرية وبيئاتها الطبيعية، وتكشف الأزمة الصحية عن نقاط الضعف في أنظمتنا الصحية المعولمة. في هذه اللحظات، تتصدع اليقينيات، ويتم تحدي النماذج السائدة، وتظهر الفرصة لأشكال جديدة من المعرفة والعمل.

وفي مواجهة الأزمة، يدعو موران إلى استراتيجيا الملاحة بدلا من السيطرة. غالبا ما يستخدم استعارة السفينة التي علقت في العاصفة: فالأمر لا يتعلق بالسيطرة على العاصفة، بل بتعلم الإبحار وسط حالة من عدم اليقين. وهذا يتطلب المرونة والقدرة على التكيف والانفتاح على المفاجأة وغير المتوقعة. ومن ثم تصبح الأزمة مدرسة حياة، وفرصة لتطوير قدرتنا على الصمود وإبداعنا.

يشجعنا موران على رؤية الأزمات باعتبارها لحظات إبداعية محتملة، حيث يمكن القديم أن يفسح المجال أمام الجديد، وتحويل الهشاشة إلى قوة

ويؤكد موران أيضا أهمية الأخلاق في إدارة الأزمات. بالنسبة إليه، كل استجابة للأزمة يجب أن تتضمن أبعادا أخلاقية، وتعترف بكرامة كل إنسان وقيمته. إنه يدعو إلى التضامن الكوكبي، والاعتراف بترابطنا ومسؤوليتنا الجماعية. وبهذا المعنى، فإن الأزمة هي دعوة لإعادة التفكير في طريقة عيشنا معا على هذا الكوكب، ولابتكار أشكال جديدة من التضامن والتعاون.

وأخيرا، يرى موران في الأزمة فرصة للتحول. فهي اللحظة التي يمكن أن تتغير فيها الأمور بشكل جذري. إنها دعوة لإعادة اختراع مجتمعاتنا، ولتخيل مسارات تنمية جديدة مستدامة وعادلة وإنسانية. إذ يقول "هكذا، يحتمل أن تكون الأزمة مولدة أوهام أو مولدة أنشطة ابتكارية. ويمكن الأزمة أن تكون، على نطاق أوسع، مصدرا للتقدم (بإعطائها حلا جديدا يتجاوز التناقضات أو المآزق المزدوجة ويزيد النظام تركيبا)، أو مصدر تراجع (بإعطائها حلا ليس في مستوى التناقضات، ويعيد النظام إلى حالة أقل تركيبا)"، وهو يقترح النظر إلى الأزمة ليس بعدّها كارثة فحسب، بل بوصفها فرصة للولادة من جديد، وفرصة لبناء عالم أكثر انسجاما وتوازنا".

AFP
عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إدغار موران

باختصار، إن فلسفة إدغار موران للأزمة هي دعوة إلى تفكير معقد وأخلاقي ومرن. فهو يشجعنا على رؤية الأزمات باعتبارها لحظات إبداعية محتملة، حيث يمكن القديم أن يفسح المجال أمام الجديد، وتحويل الهشاشة إلى قوة. إن الأزمة، من هذا المنظور، تمثل تحديا يجب مواجهته بحكمة وإنسانية، وهي طريق نحو تحول محتمل لعالمنا.

font change

مقالات ذات صلة